الإله
(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
وفي رمضان؛ الجنَّةُ تتزيَّنُ للصائمين، وتفتَح أبوابها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قد جاءكم رمضانُ، شهرٌ مباركٌ، افترض الله عليكم صيامه، تُفتَح فيه أبواب الجنة، وتُغْلَقُ فيه أبواب الجحيم، وتُغَلُّ فيه الشياطين، فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهر، من حُرِم خيرها ..
الحمدُ لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضَّالون، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. أحمدهُ سبحانه على نعمه الغِزار، وأشكره وفضلُه على مَن شكَر مدرار، لا فوز إلا في طاعته، ولا عِزَّ إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار لرحمته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار، المبعوث بالتبشير والإنذار، صلى الله عليه وسلم صلاة تتجدد بركاتها بالعشي والإبكار، وعلى آله وأصحابه الأطهار.
أما بعد:
عباد الله: هل سأل أحدنا نفسه: لماذا هذا التعب والكدح في هذه الحياة؟ لماذا يتعبد المتعبدون وينفق المتصدقون؟ لماذا يأتي المسلم في ميدان المعركة يبيع نفسه وهي أغلى ما يملك لله دون تردد أو خوف؟ وما الذي يدفع المسلم إلى قول الحق وهو يعلم أنه ربما يخسر بسبب ذلك حياته؟ وما الذي يدفع المسلم إلى مقارعة الظلم والظالمين والباطل وأهله وهو يدرك أنه قد يؤذَى في نفسه وأهله وماله؟.
وما الذي يجعل المسلم وهو نائم في أحلى نومة، وربما بعد تعب، حين يسمع حي على الصلاة ينتفض من فراشه طاعة لله؟ وما الذي يدعو المسلم إلى الصبر وتحمُّل المعاناة والمرض، وربما الفقر والجوع، ولا يمد يده إلى الحرام؟ ولماذا يحرص المسلم على تربية أهله وأولاده التربية الحسنة مهما كلفه ذلك من مشقة وعناء؟ أليس طلباً للفوز بمرضاة الله وجنته؟.
إنه، ومع انشغالنا بالدنيا وزينتها ومصائبها، يجب أن لا ننسى هذه الحقيقة التي دعا إليها القرآنُ، وتمثَّلَها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في هذه الحياة، وبها كانت السعادة تملأ النفوس، والخير يعم الديار.
في صحيح مسلم عَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصَرْمٍ، وَوَلَّتْ مسرعة، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لَا زَوَالَ لَهَا، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا لَا يُدْرِكُ لَهَا قَعْرًا، وَ-وَاللَّهِ!- لَتُمْلَأَنَّ.أَفَعَجِبْتُمْ؟.
وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنْ الزِّحَامِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا، فَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا، فَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَصْبَحَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ".
يا الله! أي حياة هذه؟! وأي صبر هذا؟! رسول الله وأصحابه يأكلون ورق الشجر حتى تقرحت أشداقهم لا يجدون طعاما؛ فكانت النتيجة بعد أن جعلوا رضوان الله والطمع في جنته هدفَهم أن أصبحوا ملوك الدنيا والآخرة. قال تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:25].
عباد الله: وفي رمضان؛ الجنَّةُ تتزيَّنُ للصائمين، وتفتَح أبوابها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قد جاءكم رمضانُ، شهرٌ مباركٌ، افترض الله عليكم صيامه، تُفتَح فيه أبواب الجنة، وتُغْلَقُ فيه أبواب الجحيم، وتُغَلُّ فيه الشياطين، فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرِم" رواه أحمد، وحسَّنَه المنذريّ، وصحَّحَه الألباني.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفّدت الشياطين ومَرَدَة الجنّ, وأغلقت أبواب النار, فلم يفتح منها باب, وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب, وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل, ويا باغي الشرِ أقصر. ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة" رواه الترمذي وابن ماجه وحسَنه الألباني.
ولذلك يتسايق المشمِّرون إلى الجنة، وتشتاق نفوسهم إليها، خاصةً في رمضان، وإن كثيرا منهم ليجد ريحها في هذا الشهر بصلاته، وصيامه، وذِكْره، وقراءته للقرآن، وصَدَقته، ومناجاته بين يدي رب الأرض والسماوات.
بل جعل -سبحانه- لأهل الصيام باباً في الجنة لا يدخله إلا الصائمون، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ" رواه مسلم.
أبوابها حَقٌّ ثمانيةٌ أتتْ | في النصِّ وهي لصاحبِ الإحسانِ |
باب الجهاد وذاك أعلاها وبا | بُ الصوم يُدعَى الباب بالريَّان |
ولكلِّ سعْيٍ صالحٍ بابٌ وربُّ | السَّعْيِ منه داخل بأمان |
ولسوف يُدْعَى المرء من أبوابها | جمْعاً إذا وفَّى حُلَى الإيمان |
وإذا كانت التقوى هي ثمرة الصوم التي يجنيها المسلم في شهر رمضان، فإن التقوى كذلك هي طريق الجنة، قال -تعالى-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الذاريات:15]، وقال -تعالى-: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيَّاً) [مريم:63]، وقال -عز من قائل-: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الشعراء:90].
وأهل التقوى يدخلون الجنة جماعات وأفرادا، قال -تعالى-: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر:73].
كما أن الصائم له فرحتان يفرحهما: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولا يكون ذلك إلا في الجنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" رواه مسلم.
إن المسلم بحاجة إلى من يذكِّره بهذا النعيم، وما جعل الله الجنة ولا قص علينا ما فيها إلا لتتحرك الأرواح إلى بلاد الأفراح، والى مستقر رحمة الله -سبحانه وتعالى-.
هي -والله!- نور يتلألأ, وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، في مقامِ أبداً, في حبرة ونضرة, في دور عالية سليمة بهية، تتراءى لأهلها كما يتراءى الكوكب الدري الغائر في الأفق.
قال رسول الله -صلى الله علية وسلم-: "قال -تعالى-: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر " متفق عليه. واقرؤوا إن شئتم: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17].
وانظروا إلى رحمة الله بعباده، وإلى هذا النعيم، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدثنا عن آخر من يدخل الجنة: رجل يمشي على الصراط مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين.
فترتفع له شجرة فيقول: إي ربّ، أدْنِني من هذه الشجرة أسْتَظِلُّ بظلها، وأشرب من مائها. فيقول الله -تبارك وتعالى-: يا ابن آدم، لعلي إن أعطيتكها سألْتَنِي غيرها؟ فيقول: لا يا رب، ويعاهده أن لا يسأله غيرها. وربه يعذره؛ لأنه يرى مالا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها، ويشرب من مائها.
ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: يا رب، أدْنِنِي من هذه لأشرب من مائها، وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها. فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أنك لا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلِّي إن أدنيتك منها أن تسألني غيرها، فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى مالا صبر له عليه فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها.
ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأُولَيَيْن، فيقول: إي ربّ، أدْنِنِي من هذه الشجرة لأستظلَّ بظلها وأشربَ من مائها، لا أسألك غيرها. فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب، هذه لا أسألك غيرها. وربُّهُ يعذره؛ لأنه يرى مالا صبر له عليه، فيدنيه منها.
فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة، فيقول: يا رب، أدْخِلْنِيها! فيقال له: ادخل الجنة. فيقول: ربّ، كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقول الله: يا ابن آدم، ما يرضيك مني؟! أترضى أن يكون لك مثل ملِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربّ، فيقول: لك ذلك ومثله، ومثله، ومثله، ومثله. فيقول في الخامسة: رضِيت ربِّ.
فيقول الله -تعالى-: لك ذلك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذّت عينك. ثم يقول الله -تعالى- له: تَمَنَّ! فيتمنى، ويذكِّره الله: سل كذا وكذا، فإذا انقطعت به الأماني، ثم يدخل بيته، ويدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فيقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك! فيقول: ما أعطى أحدٌ مثل ما أعطيت.
قال (موسى عليه السلام): ربّ، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي، وختمتُ عليها، فلم تر عينٌ، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر. رواه مسلم.
اعمَلْ لدارِ غدٍ رضوانُ خازنُها | والجارُ أحمدُ والرحمنُ بانيها |
قصورها ذهبٌ والمسكُ طينتُها | والزعفرانُ حشيشٌ نابتٌ فيها |
أنهارُها لبنٌ صافٍ ومن عَسَلٍ | والخمرُ يجري رحيقاً في مجاريها |
والطير تجري على الأغصان عاكفةً | تسبح الله دهراً في مغانيها |
من يشتري الدار في الفردوس يعمرها | بركعةٍ في ظلام الليل يخفيها |
أيها الصائمون عباد الله: الشوق إلى الجنة والتطلع إليها يجعل حياة المسلم عامرة بالخيرات والأعمال الصالحة، فلا تغره الحياة الدنيا، ولا تشغله زينتها وأموالها وقصورها، والشوق إلى الجنة يهذب النفوس، ويربيها على الاستقامة على شرع الله مهما كلف ذلك من ثمن.
وانظروا إلى هذه المرأة التي كانت ملكة على عرشها، على أسرّةٍ ممهدة، وفرشٍ منضدة، بين خدم يخدمون، وأهلٍ يكرمون، لكنها كانت مؤمنة تكتم إيمانها، إنها آسيةُ امرأةُ فرعون! كانت في نعيم مقيم، فلما رأت قوافل الشهداء تتسابق إلى السماء اشتاقت لمجاورة ربّها، وكرهت مجاورة فرعون.
فلما قتل فرعون الماشطة المؤمنة دخل على زوجه آسيةَ يستعرض أمامها قواه، فصاحت به آسية: الويل لك! ما أجرأك على الله! ثم أعلنت إيمانها بالله، فغضب فرعون، وأقْسَمَ لَتَذُوقَنَّ الموت أو لتكفرَنَّ بالله! ثم أمر فرعون بها فمُدَّت بين يديه على لوحٍ، وربطت يداها وقدماها في أوتاد من حديد، وأمر بضربها فضربت حتى بدأت الدماء تسيل من جسدها، واللحم ينسلخ عن عظامها.
فلما اشتدّ عليها العذاب، وعاينت الموت، رفعت بصرها إلى السماء وقالت: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم:11]، وارتفعت دعوتها إلى السماء، قال ابن كثير: فكشف الله لها عن بيتها في الجنة؛ فتبسمت ثم ماتت. نعم! ماتت الملكة التي كانت بين طيب وبخور، وفرح وسرور. نعم! تركت فساتينها وعطورها، وخدمها، وذهبها وقصورها، واشتاقت إلى الجنة.
عباد الله: إن الناس اليوم في غفلة في عصر الماديات والشهوات يبدون استغرابهم من موظف يمسك يده عن الحرام مع فقره وحاجته ويتساءلون: لماذا لا يغش ويزور ويرتشي كما يفعل فلان وفلان؟ ومِن رجل كثير الصلاة والصيام ماذا يريد؟ وهم في غفلتهم يعمهون؟ ومِن رجل مَنً الله عليه بالمال الحلال ينفقه في أوجه الخير أينما كانت: لماذا يفعل ذلك؟ يندهشون ويستغربون من ذلك المسلم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: لماذا يعرِّض نفسه للمخاطر؟.
ويستغربون من تلك المرأة المحافظة على صلاتها وصيامها وحجابها وحياءها! بل يندهشون من ذلك المجاهد في سبيل الله والذي يتعرض للموت في اليوم عشرات المرات، وربما حُورب، وطُرد من وطنه، وأُبعد عن أهله وماله. ما الذي يجعله صامداً؟ لماذا لا يبيع كما يبيع الآخرون؟ يستغربون من ذلك كله، وما أدركوا أنه هذا هو الدين، وأن هناك آخرةً وجنةً وناراً، ورضواناً من الله أكبر، وليست القضية قضية متاع وشهوة ودنيا ولذة عابرة، سرعان ما يعقبها الهمّ والضنك والخسران والزوال.
تنازع خيثمة وابنه سعد إلى الجنة يوم بدرٍ أيهم يخرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأراد الابن أن يخرج، فقال خيثمة: آثِرْني يا بني اليوم ودعني أخرج مع رسول الله. قال سعد: والله لو كان غير الجنة لآثرتك! لكنها الجنة يا أبتاه! فما زال الأب يطلب منه ويترجّاه، لكنه كان يريد الخروج مع رسول الله، فخرج سعد وقُتل في أرض المعركة، فرآه أبوه في منامه في الجنة يأكل من ثمارها، ويشرب من أنهارها وهو يقول: يا أبتاه! اِلْحَقْ بنا! فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا.
فما زال خيثمة يتحين الفرصة ليلحق بولده سعد، حتى كانت معركة أحد، فخرج فيها، فقتل -رضي الله عنهم أجمعين.
قال يحيى بن معاذ: في طلب الدنيا ذل النفوس، وفي طلب الآخرة عز النفوس، فيا عجبا لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى، ويترك العز في طلب ما يبقى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: هل يعُقَل أن يدرِك عقل المرء هذا النعيم ثم يزهد فيه؟ هذا داعي الخير يناديك ويدعوك للمنافسة والمسابقة والمسارعة، قال -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133]، فسارعْ إلى المغفرة، والنعيم المقيم، والملك العظيم.
يا طالبَ الدنيا الدنيَّة إنَّها | شرَكُ الرَّدَى و قرارةُ الأقذارِ |
دارٌ متى ما أضحكت في يومها | أبكت غداً تبَّا ًلها من دار |
فاللبيبُ مَن باع الدنيا بالآخرة، قال -تعالى-: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) [الضحى:4]، والكيِّسُ مَن صنَع السعادة بيده فبحث عن طريق الجنة فسلكه، وإنما طريقها توحيد الله، واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأداء الفرائض والواجبات، والبعد عن الفواحش والكبائر والمحرمات، والتقرب إلى الله بالنوافل وصالح الطاعات, والإنابة والتوبة إلى الله في الظلمات والخلوات، والاستغفار من الخطايا والزلات، والتنوُّر بنور العلم، وسليم الفهم، والعمل بذلك، وملازمة الإخلاص، والصدق مع الله, فإن السالك لهذا الطريق لا يخيب ظنه، ولا يُعرقَل سيره، ولا يضيَّع سعْيُه.
فكانت الجنة، وكان هذا النعيم؛ حتى لا تستوي أعمال المحسن والمسيء، ولا المؤمن والكافر، ولا المظلوم والظالم، وصدق الله العظيم إذ يقول: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) [القلم:35]، وقال -تعالى-: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر:20].
فشمروا عن ساعد الجد؛ فأبواب الجنة مفتَّحَة، وباب الريان يناديكم، والجنة تتزين لاستقبالكم، فاستغِلُّوا أيام رمضان ولياليه بالطاعات والقربات، وأخْلِصوا النيَّات، وأحسنوا الأعمال، واسألوا الله الرحمة والمغفرة.
فاللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا بين يديك، واحفظ اللهم البلاد والعباد، وانشر رحمتك وفضلك وجودك في كل أرض المسلمين.
ونسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
ثم اعلموا أن الله تبارك وتعالى قال قولاً كريماً؛ تنبيهاً لكم وتعليماً وتشريفاً لقدر نبيه وتعظيماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وخلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، وارض اللهم عن بقية الصحابة والقرابة، وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّك وفضلك يا أرحم الراحمين. والحمد لله رب العالمين.