الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | محمد ويلالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزكاة - الصيام |
زكاة الفطر واجبة على مَن له كفاية يوم العيد؛ ولذلك يخرجها الفقيرُ ولو كان يأخذها من غيره، إذا اكتفَى في هذا اليوم. شُرِعتْ نشْرًا للمحبَّة والإخاء بين الناس، وإدخالاً للسرور عليهم، وتزكية للبَدَن، وتطهيرًا له مما قد يكون قد ارتكبَه من خَلل في رمضان. عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "فَرَض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر؛ طُهْرة للصائم من اللغو والرَّفَث، وطُعمة للمساكين". صحيح سُنن أبي داود.
الخطبة الأولى:
قبل أيام قلائل كنَّا نبشِّر بقدوم رمضان، وكنَّا نسألُ الله -عز وجل- أن يبلِّغَنا إيَّاه؛ لنشهدَ نفحاته، ونَعُبَّ من خَيراته، ونستفيدَ من دروسه، وها نحن اليومَ نتحدَّث عن وداعه؛ إذ مضَى جُلُّه، ولم يبقَ منه إلا أقَله، فهل اعتبرْنا من انصرامِ الأيَّام، وكَرِّ اللَّيل والنهار، ونقْص السنين والأعمار؟!
يقول -تعالى-: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) [الشورى: 47].
ويقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "افعلوا الخير دَهْركم، وتعرَّضوا لنفحات رحمة الله؛ فإنَّ لله نفحات من رحمته، يُصيب بها مَن يشاء من عباده، وسَلُوا الله أنْ يسترَ عوْراتكم، وأنْ يؤمِّنَ روعاتكم". رواه الطبراني، وحسَّنه في الصحيحة.
فإذا كنتَ فرَّطْتَ فيما مَضَى، فأمامك أيَّام أخرى هي من أفضل الأيام، وليالٍ هي أفضل ليالي السنة على الإطلاق، فلا تضيِّعْها في اللَّهو والغَفْلة، فتكونَ من النادمين.
تَنَصَّفَ الشَّهْرُ وَا لَهْفَاهُ وَانْصَـرَمَا | وَاخْتُصَّ بِالفَوْزِ بِالْجَنَّاتِ مَنْ خَدَمَا |
وَأَصْبَحَ الْغَافِلُ الْمِسْكِينُ مُنْكَـسِرَا | مِثْـلِي فَيَا وَيْحَهُ يَا عُظْمَ مَا حُرِمَا |
مَنْ فَاتَهُ الزَّرْعُ فِي وَقْتِ البِذَارِ فَمَا | تَرَاهُ يَحْصُـدُ إِلاَّ الْهَـمَّ وَالنَّـدَمَا |
طُوْبَى لِمَنْ كَانَتِ التَّقْوَى بِضَاعَتَهُ | فِي شَهْـرِهِ وَبِحَبْـلِ اللهِ مُعْتَصِـمًا |
إنَّ رسولَنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- "كان يجتهدُ في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرِها". كما رواه مسلم.
وتقول عائشة -رضي الله عنها-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخَلَ العشر، شدَّ مِئْزرَه، وأحيا ليلَه، وأيْقظَ أهلَه". مُتفق عليه.
قال النووي: "يستحبُّ أنْ يُزاد من العبادات في العشر الأواخر من رمضان، وإحياء لياليه".
وقال سُفيان الثوري: "أحب إليّ إذا دخَلَ العشرُ الأواخر أنْ يتَهجَّدَ بالليل، ويَجتهد فيه، ويُنهِضَ أهلَه وولده إلى الصلاة -إنْ أطاقوا ذلك-".
وقال الشافعي: "أستحب أن يكونَ اجتهادُه في نهارها، كاجتهاده في ليلِها".
رَمَضَانُ وَدَّعَ وَهْوَ فِي الآمَاقِ | يَا لَيْتَهُ قَـدْ دَامَ دُونَ فِرَاقِ |
مَـا كَـانَ أقْصَرَهُ عَلَى أُلاَّفِهِ | وَأَحبَّـهُ فِي طَاعَةِ الْخَلاَّقِ |
زَرَعَ النُّفُـوسَ هِدَايَةً وَمَحَبَّةً | فَأَتَى الثِّمَار أَطَايِبَ الأَخْلاَقِ |
فكيف بعد هذا تَخْلد إلى النوم نهارَ رمضان، وتحضرُ الحفلات والسهرات ليلَه؟! كيف لا تستغل أيامًا ولياليَ ليس لها عِدْلٌ في السنة كلِّها؟!
قال الحسن البصْري -رحمه الله-: "إنَّ الله جعَلَ رمضانَ مِضمارًا لخَلْقه، يستبقون فيه إلى مرضاته، فسبَقَ قومٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا، فالعجبُ من اللاعب الضاحِك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون".
أَيُّ شَهْرٍ قَــدْ تَوَلَّـى | يَـا عِبَـادَ اللهِ عَنَّـا |
حُــقَّ أَنْ نَبْكِـي عَلَيْهِ | بِدَمَاءٍ لَـوْ عَقَلْنَــا |
ثُــمَّ لاَ نَعْـلَـمُ أَنَّـا | قَـدْ قُبِـلْنَا أَمْ حُرِمْنَا |
لَيْتَ شِعْرِي مِنْ هُوَ الْمَحْـ | ـرُومُ وَالْمَطْرُودُ مِنَّا |
ولقد صدَقَ مَن قال: "دقائق الليل غالية؛ فلا تُرخصوها بالغَفْلة".
هذه الليالي العادية، فكيف إذا كانتْ ليالي رمضان؛ حيث أبواب الجنان مُشرعة، وأبواب النيران مُغْلقة، والشياطين مُصَفَّدة؟!
يَا رِجَالَ اللَّيْلِ جِدُّوا | رُبَّ صَوْتٍ لاَ يُرَدُّ |
مَـا يَقُـومُ اللَّيْلَ إِلاَّ | مَنْ لَهُ عَزْمٌ وَجِدُّ |
كيف وفيها ليلة القدر التي هي خيرٌ من عبادة ألف شهر؛ أي: 83 سنة وأربعة أشهر؟! قال بعضُ أهْل العلم: "هي خيرٌ من الدَّهْر كلِّه؛ لأن العربَ تذْكُر الألْف غاية في العَدد"، وهي ليلة (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) [القدر: 4]، يؤمِّنون على دعاء الناس، ويسلِّمون على أنفسهم، وعلى المؤمنين في المساجد، حتى يطلعَ الفجر، وهي ليلة الحُكْم: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان: 4]، وهي الليلة التي مَن قامَها إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبه.
أَطِلِّـي غُـرَّةَ الدَّهْرِ | أَطِلِّي لَيْـلَةَ الْقَـدْرِ |
أَطِلِّي فِي سَمَاءِ الْعُمْـ | ـرِ إِشْرَاقًا مَعَ الْبَدْرِ |
سَـلاَمٌ أَنْتِ فِي اللَّيلِ | وَحَتَّى مَطْـلَعِ الْفَجْرِ |
لم يُحَدِّدْ شَرعُنا يومَها؛ ليجتهدَ الناسُ في العبادة طِيلة العشر، غير أنَّها توجَد في الوِتر منه؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تحرَّوا ليلة القَدْر في الوِتر من العشر الأواخر من رمضان". مُتفَق عليه.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "فالتمِسُوها في التاسعة والسابعة والخامسة". مُتفَق عليه.
قال أُبَي بن كعب: "وأمَارتها أنْ تطلعَ الشمسُ في صبيحة يومِها بيضاءَ لا شُعاعَ لها". مسلم.
وسَألتْ عائشةُ -رضي الله عنها- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عمَّا تقولُه فيها، فقال: "قولي: اللهمَّ إنَّك عفوٌّ تحبُّ العفوَ، فاعفُ عنِّي". صحيح سُنن الترمذي.
ولتحرصْ على أنْ تُصلِّي القيام مع الإمام، حتى ينصرف؛ ليحصلَ لك قيامُ ليلة؛ يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَن قام مع الإمام حتى ينصرف، كُتِبَ له قيامُ ليلة". صحيح سُنن الترمذي.
ومِن فَرْطِ حبِّ السلف لهذه الليالي المباركة، كانوا يستحبون أن يغتسلوا كلَّ ليلة من لياليها، كما كان يفعلُ الإمامُ النخعي -رحمه الله-.
وكان أيوب السختياني يغتسلُ ليلة ثلاثٍ وعشرين، وأربع وعشرين، ويلبسُ ثوبين جَديدينِ، ويتطيَّبُ.
هكذا أُمرْنا أن نعتنيَ بليلة القَدْر، لا بتخصيصها بزيارة المقابر، وإرسال البخور في جَنَبات المنزل؛ خوفًا من الجنِّ، أو تقرُّبًا إليهم، والتفنُّن في الطعام والشراب، والسهر على القيل والقَال، ومتابعة المسلسلات والفوازير، التي ينسبونها ظُلمًا إلى رمضان؛ حتى صارَ عند بعضهم شهرَ الفُكَاهة والتهريج والأحاجي؛ نعوذ بالله أن تَطبعَ الغفلةُ القلوب، وأن يَجثُمَ الرَّانُ على النفوس.
الخطبة الثانية:
زكاة الفطر واجبة على مَن له كفاية يوم العيد؛ ولذلك يخرجها الفقيرُ ولو كان يأخذها من غيره، إذا اكتفَى في هذا اليوم.
شُرِعتْ نشْرًا للمحبَّة والإخاء بين الناس، وإدخالاً للسرور عليهم، وتزكية للبَدَن، وتطهيرًا له مما قد يكون قد ارتكبَه من خَلل في رمضان.
عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "فَرَض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر؛ طُهْرة للصائم من اللغو والرَّفَث، وطُعمة للمساكين". صحيح سُنن أبي داود.
يؤدِّيها عن نفسه وعمَّن يُنْفق عليه؛ لحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-: "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصَدَقة الفِطْر؛ عن الصغير والكبير، والحُر والعبد ممن تمونون". رواه الدارقطني، وهو حديث حسن.
ويدخل في ذلك الجَنين في بطن أُمِّه، والمطلَّقة رَجعيًّا، إذا كانتْ في عِدتها، والخَدَم غير المأجورين.
وهي صاع -أربعة أمداد- من غالب قوتِ أهْل البلد، وهذا هو الأصل، وقد يعدل عنه؛ لإخراجها نقْدًا إذا كان ذلك أنفعَ للفقير، ومقدارها 15 درهمًا تقريبًا.
أفضل أوقاتها بعد غروب الشمس من آخر يوم من رمضان، والأفضل أن تؤدَّى صباح العيد، قبل الصلاة، فإذا أُخرجتْ بعد الصلاة صارتْ صَدَقة من الصدقات؛ لحديث ابن عباس السابق: "مَن أدَّاها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة، فهي صَدَقة من الصدقات"، وعند المالكيَّة أنَّ مَن أخَّرها بغير عذرٍ، فهو آثمٌ، غير أنَّه يرخَّص في تقديمها بيوم أو يومين؛ لقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-: "وكانوا يُعطُون قبل الفطر بيومٍ أو يومين". البخاري.