المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات |
طلب الجاه والرفعة، والمال والشهرة، وعلو المنزلة, أمنية يتمناها أكثر الناس، ويسعون جهدَهم لها، ويبذلون الغالي والنفيس لأجلها، وللجاه سكرة تفوق سكرة الخمر، وشهوة تزيد على اشتهاء النساء؛ وطالب الشهرة التي يعمل العبد لأجلها، ويبذل دينه في سبيلها, يعاقب يوم القيامة عليها بنقيض ما أراد في الدنيا، فيُفضح أمام الناس؛"من سَمَّعَ سَمَّعَ الله بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي الله بِهِ". ولا يقدر على كبح جماح نفسه الداعية إلى الظهور والشهرة، المُحِبَةِ للجاه والمنصب، إلا أفذاذ الرجال، وقلائل الناس، لا يغضبون إن قُدم غيرهم عليهم، ولا يحزنون أن استأثر الناس بالأمر دونهم، فهم ...
الحمد لله العليم القدير، مالك الملك، ومدبر الأمر: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأُمُورُ) [الحديد: 5]، نحمده حمدًا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ يرفع ويخفض، ويعز ويذل، ويعطي ويمنع، ولا يُسأل عما يفعل، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان في قلبه من تعظيم الله تعالى وإجلاله ما لم يبلغه قلب غيره، فهو أتقى الناس، وأكثرهم حبا لله تعالى، وخشية وخوفا ورجاء، حدّث ذات مرة عن ربه تبارك وتعالى، فاهتز حتى كاد أن يسقط به المنبر، فقال: " يَأْخُذُ الله عز وجل سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ فيقول: أنا الله، وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا أنا الْمَلِكُ، قال ابن عمر: حتى نَظَرْتُ إلى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ من أَسْفَلِ شَيْءٍ منه، حتى إني لَأَقُولُ أَسَاقِطٌ هو بِرَسُولِ الله" صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ علقوا قلوبهم بالله تعالى، وابتغوا الدار الآخرة، فجاءتهم الدنيا وهي راغمة، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه على نعمه، واحمدوه على هدايته ورعايته وكفايته؛ فإن فضل الله تعالى عليكم عظيم، وخيره فيكم كثير: (وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم:34]
أيها الناس، طلب الجاه والرفعة، والمال والشهرة، وعلو المنزلة, أمنية يتمناها أكثر الناس، ويسعون جهدَهم لها، ويبذلون الغالي والنفيس لأجلها، وللجاه سكرة تفوق سكرة الخمر، وشهوة تزيد على اشتهاء النساء؛ إذ بالجاه والرياسة يُعرف الرجل الخامل ويُذكر، فيبزُ أقرانه، وينفع إخوانه، ويغيظ أعداءه، وبما يملك من جاه، ويتبوأ من رئاسة تخضع له أعناق الرجال، ويذل له الشجعان، ويرجوه الطامعون، ويهابه الكارهون.
إن الإنسان يحب الذكر والشهرة, والثناء والمدح, وهو مخلوق من نطفة قذرة، ويحمل في بطنه العذرة، ويكون بعد موته جيفة منتنة...إنه عاش أحقابا بلا ذكر، ويحب أن يذكر ويُشهر، وقد خلت القرون ولم يعرفه أحد, ويحب أن يُعرَف.. لم يختل نظام العالم قبل وجوده، ولم يتغير بعد وجوده، ويموت يوم يموت والدنيا هي الدنيا، وأحوالها هي أحوالها. ولقد مات قادة البشر وعظماؤهم ومشاهيرهم، وبكاهم الناس, ولم يتغير شيء من الكون بموتهم: (أَوَلَا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [مريم:67].
وفي آية أخرى: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) [الإنسان:1].هذا الذي لم يكن شيئا مذكورا، مفتون في أن يُذكر ويُشهر، فما أظلمه! وما أطغاه! (قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [عبس:17].
والمتأمل في النصوص يجد أن العبد من محبته للشهرة والذكر, قد يعمل أعمالا صالحة جليلة، لا يبتغي بها إلا ذكر الناس له، وثناءهم عليه، واحتفاءهم به؛ كما جاء في الحديث: "الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ", وفي خبر الثلاثة الذين يُسحبون على وجوههم إلى النار، يقال للمجاهد منهم: "قَاتَلْتَ؛ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ, فَقَدْ قِيلَ", ويقال للعالم منهم: "تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ؛ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ؛ لِيُقَالَ هو قَارِئٌ, فَقَدْ قِيلَ" ويقال للمنفق منهم: "فَعَلْتَ, لِيُقَالَ هو جَوَادٌ, فَقَدْ قِيلَ".
تأملوا- رحمكم الله تعالى- ضعف الإنسان أمام الذكر والشهرة، يبذل في سبيلها نفسَه، وهي أغلى ما يملك, بعد إيمانه، ويقضي عمره كلَّه يجمع ماله, ثم يبذله في سبيل الذكر. والعالِمُ يقضي عمره كله في تحصيل العلم وتحمل مشقته، ومكابدة السهر والقلة بسببه, ثم لا يريد بذلك إلا الذكر والشهرة.
إن غالب ما يطلبه العبد في الدنيا, وما يعمله من أعمال, فإن للذكر فيه حظاً وافراً، وللمدح فيه نصيباً كبيراً, إلا ما شاء الله تعالى؛ ذلك أن الناس يحبون المدح والثناء بما فعلوا وما لم يفعلوا، وهذا أساس من أسس فساد البشر، وعلوهم في الأرض، وبغيهم على غيرهم، وضعف العبودية في قلوبهم، وبيع كثير منهم لدينهم، وعدم صدعهم بالحق الذي عليهم، وقد روى كَعْبُ بن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ في غَنَمٍ, أَفْسَدَ له من حِرْصِ الْمَرْءِ على الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ" رواه أحمد وصححه ابن حبان.
إن محبة الذكر والمدح من خصائص الله تعالى, التي يجب أن لا يُنازَع فيها؛ فإنه سبحانه يحب من عبيده أن يذكروه، والعبودية التي يؤديها المؤمن لربه, هي من ذكره سبحانه، ومن أحبِّ الأعمال إليه عز وجل, ترطيب اللِّسان بذكره تعالى، والمشتغل بذكر الله سبحانه, لا يشتغل بذكر نفسه، ولا يسعى في شهرتها، ولا الدعاية لها، أو الإعلام بها، فكان جزاؤه مكافئة الله تعالى له بأن يذكره في الملكوت الأعلى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152].
وقال الله تَعَالَى في الحديث القدسي: "أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وأنا معه إذا ذَكَرَنِي, فَإِنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي, وَإِنْ ذَكَرَنِي في ملأ, ذَكَرْتُهُ في ملأ خَيْرٍ منهم" متفق عليه.
وطالب الشهرة التي يعمل العبد لأجلها، ويبذل دينه في سبيلها, يعاقب يوم القيامة عليها بنقيض ما أراد في الدنيا، فيُفضح أمام الناس؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من سَمَّعَ سَمَّعَ الله بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي الله بِهِ"رواه الشيخان.
قال الخطابي -رحمه الله تعالى-: " معناه: من عمل عملا على غير إخلاص, وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه, جوزي على ذلك, بأن يشهره الله ويفضحه, ويظهر ما كان يبطنه"
وربنا جل في علاه يحب المدح- وهو أهله-، والمدح ألْيَقُ به من غيره، بل لا أحد أحق بالمدح والذكر والثناء منه سبحانه وتعالى، عَلِمنا ذلك من أسمائه وصفاته وأفعاله وآياته، وأخبرنا المبلِّغ عنه صلى الله عليه وسلم, أنه سبحانه يحب المدح؛ كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس أَحَدٌ أَحَبَّ إليه الْمَدْحُ من الله؛ من أَجْلِ ذلك مَدَحَ نَفْسَهُ" رواه الشيخان.
ولا يقدر على كبح جماح نفسه الداعية إلى الظهور والشهرة، المُحِبَةِ للجاه والمنصب، إلا أفذاذ الرجال، وقلائل الناس، يعبدون الله تعالى، ويخدمون دينه، ويؤدون الأمانة..
لا يغضبون إن قُدم غيرهم عليهم، ولا يحزنون أن استأثر الناس بالأمر دونهم، فهم يعملون لله تعالى, ولا يعملون للناس، ويعيشون في سبيله سبحانه, لا في سبيل غيره، وغايتهم رضا الله تعالى, والدار الآخرة.. لا ينظرون إلى الدنيا نظر أهلها لها، ولا يتلهفون لهفهم عليها.
إنهم ليسوا عبيدا للجاه والمال، إن أعطوا رضوا, وإن لم يعطوا سخطوا، ولا يهمهم أن يكونوا من سراة الناس أو من عامتهم، أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبِيلِ الله, أَشْعَثَ رَأْسُهُ, مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ, إن كان في الْحِرَاسَةِ كان في الْحِرَاسَةِ, وَإِنْ كان في السَّاقَةِ كان في السَّاقَةِ, إن اسْتَأْذَنَ لم يُؤْذَنْ له, وَإِنْ شَفَعَ لم يُشَفَّعْ" رواه البخاري.
كان من أولئك الرجال الأفذاذ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، يستخفي من الدنيا، وينقطع عن أهلها، ولا تطرف عينه من أجلها، ولا يتحرك قلبه على فوات شيء من مالها وجاهها، كان رضي الله عنه لما ثارت الفتنة في إِبِلِهِ, فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ فقال له: "أَنَزَلْتَ في إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ, وَتَرَكْتَ الناس يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ في صَدْرِهِ فقال: أسكت سمعت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ الله يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ" رواه مسلم.
فحري بمن عبَّد نفسه لله تعالى, أن يعبِّد قلبه له سبحانه، وأن يوطنها على الإخلاص له عز وجل، وأداء ما عليه من الحقوق والأمانات، ولو استأثر الناس بالأمر دونه، وقدموا من هو أقل منه عليه.. يعمل ويخلص, سواء عرف الناس فضله وقدره أم لم يعرفوه، وسواء وضعوه في المكان اللائق به أم لم يضعوه؛ فإن الله تعالى يعلم قدره وفضله وإخلاصه، وجزاء الله تعالى أعظم من جزاء البشر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء:58].
بارك الله لي ولكم في القرآن..
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه, كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله وسلم وبارك عليه, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعملوا لآخرتكم، ولا تغرنكم دنياكم (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) [النساء:77].
أيها المسلمون, محبةُ الجاه والسيادة والذكر, محفور في قلوب البشر، وبه يتنافسون فيما بينهم، ولكن المؤمن يجاهد نفسه في ردها عن غيها، ويجتهد في الإخلاص لله تعالى في كل أحواله.
لا يحسد أحدا على منصب أو مال حباه الله تعالى إياه, وهو يرى نفسه أولى به منه؛ فإن ذلك رزق الله تعالى, يهبه من يشاء من عباده، ويمنعه من شاء، ورِزْق الله تعالى لا يخضع لمقاييس البشر وحساباتهم، فقد يرفع الوضيع، ويضع الرفيع، وقد قال الله تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً) [الزخرف:32].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله هو الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ " رواه أبو داود.
ومن أُعْطِيَ غنى القلب، والرضا عن الله تعالى في كل شيء؛ فقد نال أعظم شيء يناله بشر، وإنه لينعم بالراحة والسعادة, ولو كان أفقر الناس وأحقرهم، وليس في الدنيا نعيمٌ يشبه نعيم الآخرة, إلا نعيم الإيمان؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والرضا عن الله تعالى من تمام الإيمان.
ومن أعطاه الله تعالى ولاية صغيرة أو كبيرة؛ فلا يغْتَرْ بذلك، ولا يظن أنه دليل على رضا الله تعالى عنه؛ فإنه قد ابتلي بالولاية ابتلاء عظيما، وفتن بها فتنة كبيرة، ولا سيما في زمن قد ضُيعت فيه كثير من الأمانات، وعلى حجم ولايته يكون حسابه يوم القيامة، فليتق الله تعالى، وليؤد ما حُمِّل من أمانة، وليكن للناس خادما، يتلمس حاجاتهم، ويقضي شئونهم، ويقيم العدل فيهم، ويرفع الظلم عنهم، ولا يجعل ولايته سبيلا لنيل شهواته وعلوه على الناس؛ فإن الولاية تكليف قبل أن تكون تشريفا؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم "إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ على الْإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يوم الْقِيَامَةِ فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ" رواه البخاري.
قال العلماء: "نعم المرضعة، أي: في الدنيا، وبئست الفاطمة، أي: بعد الموت؛ لأنه يصير إلى المحاسبة على ذلك, فهو كالذي يُفطم قبل أن يستغني, فيكون في ذلك هلاكه".
ومن وجد من نفسه ضعفا في الولاية، وعجزا عن أداء أمانتها، فالسلامة منها خير له؛ كما جاء في حديث أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قلت يا رَسُولَ الله: "ألا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قال: فَضَرَبَ بيده على مَنْكِبِي, ثُمَّ قال: يا أَبَا ذَرٍّ؛ إِنَّكَ ضَعِيفٌ, وَإِنَّهَا أَمَانَةُ, وَإِنَّهَا يوم الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ, إلا من أَخَذَهَا بِحَقِّهَا, وَأَدَّى الذي عليه فيها" رواه مسلم.
قال النووي- رحمه الله تعالى-: "هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية, ولا سيما لمن كان فيه ضعف, وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل؛ فإنه يندم على ما فرط منها, إذا جوزي بالخزي يوم القيامة، وأما من كان أهلاً وعَدَلَ فيها، فأجره عظيم؛ كما تظاهرت به الأخبار, ولكن في الدخول فيها خطر عظيم؛ ولذلك امتنع الأكابر منها، والله أعلم "اهـ.
ومن علم ما في الولاية من عظيم الأمانة، وشدة الحساب يوم القيامة، مع قوة إيمانه خافها أشد الخوف، وحاسب نفسه فيها أشد من محاسبته لنفسه في غيرها، روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَيُوشِكَنَّ رَجُلٌ يَتَمَنَّى أنه خَرَّ من عِنْدِ الثُّرَيَّا, وأنه لم يَنَلْ من أَمْرِ الناس شَيْئاً" رواه أحمد وصححه الحاكم.
وعن أبي أُمَامَة رضي الله عنهَ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: " ما من رَجُلٍ يلي أَمْرَ عَشَرَةٍ فما فَوْقَ ذلك؛ إلا أتى الله عز وجل مَغْلُولاً يوم الْقِيَامَةِ, يَدُهُ إلى عُنُقِهِ, فَكَّهُ بِرُّهُ أو أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ " رواه أحمد.
ثم ليعتبر العبد بما يرى من شغف كثير من الناس بالجاه والرفعة، وحرصهم عليها، وفرحهم بها، وغبطة غيرهم لهم فيها..ليعتبر بما في الآخرة من الفوز العظيم، والملك الكبير، والمقام الرفيع: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) [الإسراء:21]. وفي الآية الأخرى: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان:20]. فليعمل لذلك الفوز العظيم، والملك الكبير، والمقام الرفيع، الذي لا يحول ولا يزول، ولا يُنحى عنه العبدُ ولا يموت، بل يدوم، بل يدوم، بل يدوم..
وصلوا وسلموا...