السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | الرهواني محمد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
رمضان شهر تتحرر فيه أرواح أصحاب الهمم، وتتخلص من أسر الجسد وقيوده، وتستعلي على الشهوات والمغريات، فترتقي بهم إلى أعلى المنازل التي يحققون فيها الاقترابَ من الله العلي القدير. ولكن ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله شرع الشرائع وأحكم الأحكام، أحمده سبحانه وأشكره فهو ولي كل إنعام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله سيد الأنام، أوضح المحجة، وأظهر معالم الشريعة، وبين الحلال والحرام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
معاشر الصائمين والصائمات: ونحن نعيش بداية هذا الشهر، فتعالوا بنا جميعا إلى بستان التذكير والاعتبار، لنعيش في رحاب بعض الوقفات المباركة، عسى الله أن ينفعنا بها جميعا.
الوقفة الأولى: مع التوبة: التوبة الخالصة النصوح من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، فإن من أعظم ما يعود على المسلم بالنفع في حياته، وخاصة في هذا الشهر الكريم، هو التوبة والإنابة إلى الله ومحاسبةُ النفس على ما قدمت، قال ربنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الانْهَارُ) [التحريم: 8] فهذا رمضان، موسم التوبة والرجوع إلى الله.
الشياطين مُصفدة، والنفس منكسرة، والله -تعالى- ينادي المسرفين الشاردين في تيه الضلال: (قُلْ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم) [الزمر: 53].
الغفور الرحيم يقول في الحديث القدسي: "يا ابنَ آدمَ إِنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لكَ على ما كان منكَ ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغَتْ ذنوبُكَ عنانَ السماءِ، ثُمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ ولَا أُبالِي، يا ابنَ آدمَ لَوْ أَنَّكَ أَتَيْتَني بقُرابِ الأرضِ خطايا ثُمَّ لقيتَني لا تُشْرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقُرابِها مغفرةً".
فرمضان -معاشر الصائمين والصائمات- فرصة ثمينة للتوبة والإنابة إلى الله -عز وجل-.
رمضان شهر تتحرر فيه أرواح أصحاب الهمم وتتخلص من أسر الجسد وقيوده، وتستعلي على الشهوات والمغريات، فترتقي بهم إلى أعلى المنازل التي يحققون فيها الاقترابَ من الله العلي القدير.
ولكن البعض سامحهم الله وهداهم وغفر لهم، يُحوَّلون هذا الشهرَ إلى فرصةٍ لنشر الفساد بين العباد وإشاعة الفواحش.
ألم يقرع قلوب هؤلاء قول الملك الجبار: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [النور: 19]، فكم هو قبيح بهم أن يبارزوا ربهم في شهره الكريم، ويُكثّفوا حربهم على الدين والأخلاق، ويضاعفوا من مجهودهم ليصدوا الناس عن سبيل الله -عز وجل-.
فدعوتي إلى هؤلاء أن ينضموا إلى صفوف أولياء الله المتقين، ويُسخروا جهدهم في خدمة الدين ومرضات رب العالمين.
فوالله إني لأخاف على هؤلاء أن يكونوا من ضمن من دعا عليهم جبريل وأمن على دعائه النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعَد المِنبرَ فقال: "آمين، آمين، آمين"، فقيل: يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت: "آمين، آمين، آمين؟" فقال: "إن جبريل -عليه السلام- أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يُغفر له فدخل النارَ فأبعده الله، قل آمين، فقلت آمين".
فيا معاشر العباد: إن باب التوبة مفتوح في هذا الشهر الكريم، وعطاء الله ممنوح، وفضله تعالى يغدو ويروح، وقوافل التائبين يقصِدون باب عفوه، فكونوا في ركبهم ولا تبغونها عوجاً.
الوقفة الثانية: حفظ جميع الجوارح من كل قول أو فعل مُحرَّم يُؤَدِّي إلى تقليل وانتقاص أجر الصيام، فليس الصيام هو ترك الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس فحسب، وإنما أن نحفظ جوارحنا عن جميع المحرمات الحسية والمعنوية.
فيصوم البطن عن إدخال الحرام إليه.
وتصوم اليدان عن المعاصي فلا تبطش ولا تسرق ولا تضرب.
وتصوم الرجلان عن المشي إلى أماكن الفواحش.
ويصوم اللسان عن الكذب وقول الزور، والنميمة والغيبة، والسب وعن كل كلام قبيح.
وتصوم الأذنان عن سماع كل ما يغضب الرحمن.
وتصوم العينان عن النظر إلى العورات والمحرمات.
ويصوم الأنف، فلا يُشتمَّ به ما حرم الله من المخدرات وغيرها.
وهكذا كل الجوارح والأعضاء.
ولكن البعض من الناس يمتنعون عن الطعام والشراب في نهار رمضان، ولا تجدهم يمنعوا جوارحهم من الخوض فيما يُجرح الصيام، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يومُ صومِ أحدِكُم فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ، فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتَلَهُ فلْيقلْ: إنِّي امْرُؤٌ صائمٌ"، وقال: "مَن لم يدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ به والجهلَ فليس للهِ حاجةٌ في أنْ يدَعَ طعامَه وشرابَه"، و "قول الزورِ" هو: كل قول محرم، و"العمل بِه" كل عملٍ محرم، و"الجهل" هو: كل عدوان على الناس، فالذي لا يترك هذه الأشياء لم يصم حقيقة، فهو قد صام عما أحل الله، ولكنه فعل ما حرم الله.
الوقفة الثالثة: المحافظة على الصلاة وإعمار المساجد، قال ربنا: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18]، وليس المقصود بإعمار المساجد، بناؤها فقط، وإنما إعمارها بملئها أثناء الصلوات، ودوامِ ارتيادها، واحترامِها وتوقيرها، فالمساجد بيوت الله، وبيوت الله أحق البيوت بالاحترام والتوقير.
ولكن ما يؤسف له: أن بعضاً ممن يرتادون المساجد، تجدهم وقت انتظار الصلاة وكأنهم سجناء في بيوت الله، يتحرقون شوقا للخلاص والخروج. فيا ويل المؤذن إن تأخر عن إقامة الصلاة، ويا ويح الإمام من ألسنتهم إن أطال قليلا أو تجاوز ما يُثقل عليهم.
ويا فرحتهم ويا سعادتهم حين يُسلم الإمام، يسارعون ويتسابقون في الخروج من المسجد ويتزاحمون على الأبواب أيهم يخرج أولا وكأن الموت يطاردهم.
ومما يؤسف له كذلك: عدم إتمام صلاة التراويح مع الإمام، النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلة".
ولكن البعض يترك هذا الفضل، ويُحرِم نفسَه من فضل بقائه إلى آخر الصلاة، ويترك الوقوف بين يدي الله، ويذهب إلى أماكن اللهو والعبث، فيُطلق سمعه وبصره ولسانه فيما لا يرضي الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الوقفة الرابعة: اغتنام الوقت وخاصة في هذا الشهر المبارك: فواجب الإنسان تجاه وقته أن يحافظ عليه، وأن يَحرِص على الاستفادة منه فيما ينفعه في سائر أحواله وأموره.
على المسلم أن يُنفق وقته إما في فرض يؤدِّيه، أو حق وواجب يقضيه، أو في تربية أبنائه ورعاية أهل بيته، أو علم يتعلمه، أو خير يفعله، أو مريض يعوده، أو رحم يصله، أو صديقٍ يزوره، متمثلا في ذلك أخلاقَ الصالحين الذين أثنى الله عليهم بقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90].
وخيرُ من نتأَسى به في اغتنام الأوقات هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يعرف قيمة الوقت وحقه، فكان يقوم بواجباته تجاه ربه وتجاه نفسه وأُسرته ومجتمعه وأصحابه، وما عرف الكسل أَوِ الملل طريقا إليهِ، ففي ثلاثةٍ وعشرينَ عاما بلّغ رسالةً وبنى حضارة للإنسانية جمعاء، لم يشهد التاريخ لها مثيلا.
فالوقت إذا لم يُقضَ بالخير وفي الخير، قُضي بضده وفي ضده، وتلك مسألة لا يُنازِع فيها أحد.
ولكن الشيء المؤسف: أن ترى بعض المسلمين هداهم الله إذا جاء رمضان، بحثوا يُقلبون وينظرون ويفكرون كيف يضيعون الأوقات في هذا الشهر العظيم، البعض يفهم من شهر رمضان أنه شهر كسل وراحة وبطالة وترك للعمل وتأجيل للمصالح وتقليل للإنتاج.
فقضية إضاعة الوقت ليست من مصائب الغافلين وحدهم في هذا الشهر، بل هي قضيةُ ومصيبةُ وأزمةُ أمة.
الغالبية من المسلمين اليوم أصبحوا لا يحترمون قيمة الوقت، ولا يُدركون أهميته في إصلاح شؤون حياتهم ومجتمعاتهم.
في الوقت الذي أدرك غيرنا قيمة الزمن، واستثمروه في نهضة مجتمعاتهم فتقدموا وتخلفنا نحن، وذلك بسبب إهدار الوقت وإضاعته فيما لا يفيد.
فالتفنن الذي تعيشه أمتنا في تضييع الأوقات على الصعيد العام والخاص، يَنتج عنه ظهور أعراض سلبية في المجتمع، وخاصة في شهر رمضان.
سهر بالليل في أماكن العبث واللهو وإضاعة الأوقات، ونوم وكسل في النهار، ناهيك عن فعل المحرمات من تخلف عن الفرائض وارتكاب المعاصي.
هذه وقفات قليلة ولكنها معبرة أرجو من الله أن نعتبر ونتعظ بها.
فالسعيد من اغتنم هذا الشهر، وتقرب فيه إلى مولاه بما أمكنه من وظائف الطاعات، عسى أن تصيبه نفحة من النفحات الربانية، فيسعد بها سعادة لن يشقى بعدها أبدا.