العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
وَإِنَّمَا اُختُصَّ أَهلُ الإِحسَانِ بِقُربِ الرَّحمَةِ لأَنَّهَا إحسَانٌ مِن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَرحَمِ الرَّاحِمِينَ، وَإِحسَانُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى إنَّمَا يَكُونُ لأَهلِ الإِحسَانِ؛ لأَنَّ الجَزَاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ، وَكُلَّمَا أَحسَنُوا بِأَعمَالِهِم أَحسَنَ إلَيهِم بِرَحمَتِهِ، وَأَمَّا مَن لم يَكُن مِن أَهلِ الإِحسَانِ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَعُدَ عَن الإِحسَانِ بَعُدَت عَنهُ الرَّحمَةُ، بُعدٌ بِبُعدٍ، وَقُربٌ بِقُربٍ، فَمَن تَقَرَّبَ إلَيهِ ..
أَمَّا بَعدُ:
فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَكُلُوا مِن رِزقِهِ وَاشكُرُوا لَهُ وَلا تَكفُرُوهُ: (لَيسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَأَحسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ) [المائدة:93].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: مَا مِن مُسلِمٍ يَشهَدُ شَهَادَةَ الحَقِّ، وَيَلتَزِمُ شَرَائِعَ الإِسلامِ، فَيُصلِي وَيَصُومُ وَيُؤَدِّي حَقَّ اللهِ عَلَيهِ في مَالِهِ وَيَحُجُّ وَيَعتَمِرُ، وَيَفعَلُ الخَيرَ جُهدَهُ، وَيَتَحَرَّى البِرَّ طَاقَتَهُ، إِلاَّ وَهُوَ يَرجُو رَحمَةَ اللهِ، نَعَم -عِبَادَ اللهِ- إِنَّ السَّائِرِينَ إِلى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مَهمَا اختَلَفَتِ الطُّرُقُ الَّتي يَسلُكُونَهَا بَعدَ المُحَافَظَةِ عَلَى أَركَانِ الإِسلامِ وَوَاجِبَاتِهِ الظَّاهِرَةِ، فَإِنَّ مَقصِدَهُم تَحصِيلُ رَحمَةِ اللهِ وَالفَوزُ بِجَنَّتِهِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرجُونَ رَحمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:218].
أَفَتَدرُونُ -عِبَادَ اللهِ- مَن هُم أَقرَبُ النَّاسِ مِن رَحمَةِ اللهِ؟! وَمَن أُولَئِكَ المُستَحِقُّونَ لها؟! إِنَّهُمُ المُحسِنُونَ، نَعَم، إِنَّهُمُ المُحسِنُونَ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَلا تُفْسِدُوا في الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ) [الأعراف:56]. فَمَن هُمُ المُحسِنُونَ -يَا عِبَادَ اللهِ-؟!
إِنَّ مِن أَخَصِّ صِفَاتِهِم مَا وَرَدَ في الآيَةِ السَّابِقَةِ، مِن أَنَّهُم أَهلُ الإِصلاحِ في الأَرضِ وَعَدَمِ الإِفسَادِ، وَشَرُّ الإِفسَادِ في الأَرضِ هُوَ إِتيَانُ المَعَاصِي وَاقتِرَافُ السَّيِّئَاتِ وَالمُوبِقَاتِ، وَأَعظَمُ الإِصلاحِ لها فِعلُ الطَّاعَاتِ، وَالتَّزَوُّدُ مِنَ الحَسَنَاتِ، وَالاستِكثَارُ مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالحَاتِ، فَإِنَّ المَعَاصِيَ وَالسَّيِئَاتِ تُفسِدُ الأَعمَالَ وَالأَخلاقَ، وَتُنَغِّصُ المَعَايِشَ، وَتُضَيِّقُ الأَرزَاقَ، قَالَ -تَعَالَى-: (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بمَا كَسَبَتْ أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) [الروم:41].
وَأَمَّا الطَّاعَاتُ وَالصَّالحَاتُ فَبِهَا تَصلُحُ الأَخلاقُ، وَتَزكُو الأَعمَالُ، وَتَتَّسِعُ الأَرزَاقُ، وَيُفسَحُ في الآجَالِ؛ وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ أَهلَ الإِحسَانِ حَرِيصُونَ عَلَى الاستِكثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالصَّالحَاتِ، بَعِيدُونَ عَنِ الإِصرَارِ عَلَى المَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، ثم هُم -مَعَ ذَلِكَ- شَدِيدُو اللَّجَأِ إِلى رَبِّهِم -جَلَّ وَعَلا-، يَدعُونَهُ دُعَاءَ عِبَادَةٍ بِأَفعَالِهِم وَأَحوَالِهِم، وَدُعَاءَ مَسأَلَةٍ بِتَضَرُّعِهِم وَأَقوَالِهِم؛ خَوفًا مِن عِقَابِهِ، وَطَمَعًا في ثَوَابِهِ، لا يَستَكثِرُونَ عَلَيهِ أَعمَالَهُم الصَّالحَةَ مَهمَا عَظُمَت أَو تَنَوَّعَت، وَلا يَمُنُّونَ بما قَدَّمُوا، وَلا يُعجَبُونَ بِأَنفُسِهِم، وَلا يَدْعُونَ دُعَاءَ مَن هُوَ غَافِلٌ لاهٍ مُلتِفَتٌ عَن رَبِّهِ، وَلَكِنَّهُم يَطمَعُونَ في قَبُولِ أَعمَالِهِم وَدَعَوَاتِهِم بِرَحمَةِ رَبِّهِم، وَيَخَافُونَ مِن رَدِّهَا بِسَيِئٍ فَعَلُوهُ، أَو تَقصِيرٍ أَتَوهُ.
وَهُم -مَعَ إِحسَانِهِم في عِبَادَةِ رَبِّهِم- مُحسِنُونَ إِلى خَلقِهِ، لِعِلمِهِم وِيَقِينِهِم أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ العَبدُ أَكثَرَ إِحسَانًا، كَانَ رَبُّهُ قَرِيبًا مِنهُ بِرَحمَتِهِ وَمَعِيَّتِهِ، وَمَن كَانَ مِنَ اللهِ قَرِيبًا وَكَانَ اللهُ مِنهُ قَرِيبًا، كَانَ إِلَيهِ حَبِيبًا وَكَانَ -تَعَالَى- لَهُ مُجِيبًا.
قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَإِنَّمَا اُختُصَّ أَهلُ الإِحسَانِ بِقُربِ الرَّحمَةِ لأَنَّهَا إحسَانٌ مِن اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَرحَمِ الرَّاحِمِينَ، وَإِحسَانُهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالى- إنَّمَا يَكُونُ لأَهلِ الإِحسَانِ؛ لأَنَّ الجَزَاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ، وَكُلَّمَا أَحسَنُوا بِأَعمَالِهِم أَحسَنَ إلَيهِم بِرَحمَتِهِ، وَأَمَّا مَن لم يَكُن مِن أَهلِ الإِحسَانِ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَعُدَ عَن الإِحسَانِ بَعُدَت عَنهُ الرَّحمَةُ، بُعدٌ بِبُعدٍ، وَقُربٌ بِقُربٍ، فَمَن تَقَرَّبَ إلَيهِ بِالإِحسَانِ تَقَرَّبَ اللهُ إلَيهِ بِرَحمَتِهِ، وَمَن تَبَاعَدَ عَن الإِحسَانِ تَبَاعَدَ اللهُ عَنهُ بِرَحمَتِهِ". انتَهَى كَلامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-.
وَمِن صِفَاتِ المُحسِنِينَ مَا وَصَفَهُم بِهِ رَبُّهُم حَيثُ قَالَ: (إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفي أَموَالِهِم حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحرُومِ) [الذاريات15-19].
وَيَا للهِ! كَم هِيَ مُتَحَقِّقَةٌ تِلكَ الصِّفَاتُ فِيمَن وَفَّقَهُمُ اللهُ في هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ! وَلا سِيَّمَا في هَذِهِ العَشرِ المُبَارَكَةِ، فَأَخَذُوا أَنفُسَهُم بِالجِدِّ والصَّبرِ وَالحِرصِ عَلَى الإِحسَانِ، فَأَسهَرُوا لَيلَهُم في صَلاةٍ وَذِكرٍ وَدُعَاءٍ وَطُولِ قِيَامٍ، وَأَظمَؤُوا نَهَارَهُم بِالصِّيَامِ، وَلم يَجعَلُوا لما يُنفِقُونَهُ في سَبِيلِ اللهِ قَدرًا مَعلُومًا، بَل أَطلَقُوا أَيدِيَهُم في الخَيرِ طَلَبًا لما عِندَ اللهِ، وَهُم مَعَ ذَلِكَ مُستَغفِرُونَ، أَوَّابُونَ تَوَّابُونَ، لم يَرُوغُوا رَوَغَانِ البَطَّالِينَ، وَلم يَلتَفِتُوا التِفَاتَ العَاجِزِينَ، الَّذِينَ إِمَّا أَن يَتَتَبَّعُوا المَسَاجِدَ الَّتي تَسرِقُ الصَّلاةَ بِعَدَمِ الطُّمَأنِينَةِ وَالخُشُوعِ وَقِلَّةِ ذِكرِ اللهِ، وَإِمَّا أَن يَأخُذُوا مَعَ الإِمَامِ رَكعَتَينِ أَو أَربَعًا ثم يَنصَرِفُوا قَبلَ انصِرَافِهِ، شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِقِلَّةِ الصَّبرِ، وَعَدَمِ الاهتِمَامِ بِتَجوِيدِ العَمَلِ وَإِتقَانِهِ.
إِنَّ المُحسِنِينَ لم يَجتَهِدُوا وَيَصبِرُوا إِلاَّ لِعِلمِهِم أَنَّ إِحسَانَهُم في عَمَلِهِم إِنَّمَا هُوَ إِحسَانٌ لأَنفُسِهِم في دُنيَاهُم وَأُخرَاهُم، وَلِيَقِينِهِم أَنَّ ذَلِكَ الإِحسَانَ هُوَ الطَّرِيقُ المُوصِلُ لِمَعِيَّةِ اللهِ لهم وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُم، وَمِن ثَمَّ الفَوزُ بِجَنَّتِهِ، وَالنَّظَرِ إِلى وَجهِهِ الكَرِيمِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأتُمْ فَلَهَا) [الإسراء:7].
وَكَمَا قَالَ: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيرٌ) [النحل:30]، وَقَالَ: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل:128]، وَقَالَ: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195]، وَقَالَ: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس:26]، وَقَالَ: (وَيَجزِي الَّذِينَ أَحسَنُوا بِالحُسنى) [النجم:31]، وَقَالَ: (إِنَّ المُتَّقِينَ في ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشتَهُونَ * كُلُوا وَاشرَبُوا هَنِيئًا بما كُنتُم تَعمَلُونَ * إِنَّا كَذِلَكَ نَجزِي المُحسِنِينَ) [المرسلات:41-44].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لَقَد مَضَى مِن شَهرِكُمُ الثُّلُثَانِ وَلَيلَتَانِ، وَلم يَبقَ إِلاَّ سَبعُ لَيَالٍ أَو ثَمَانٍ، فَاللهَ اللهَ بِإِتقَانِ العَمَلِ وَالإِحسَانِ! فَـ"إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُم عَمَلاً أَن يُتقِنَهُ"، وَإِيَّاكُم وَمَا اعتَادَهُ بَعضُ النَّاسِ في كُلِّ رَمَضَانَ! حَيثُ يَنشَطُونَ قَلِيلاً في أَوَّلِ الشَّهرِ، ثم لا يَزَالُ بهم التَّقصِيرُ في أَوسَطِهِ، فَإِذَا مَا حَضَرَت عَشرُ البَرَكَةِ وَالعَفوِ وَالغُفرَانِ، تَرَكُوا المَسَاجِدَ الَّتي هِيَ أَحَبُّ البِقَاعِ إِلى اللهِ، وَانصَرَفُوا إِلى الأَسوَاقِ الَّتي هِيَ أَبغَضُ البِقَاعِ إِلَيهِ.
فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ-، وَاختِمُوا شَهرَكُم بِخَيرِ عَمَلِكُم، فَـ"إِنَّمَا الأَعمَالُ بِالخَوَاتِيمِ"، وَاستَقِيمُوا عَلَى طَاعَةِ رَبِّكُم، وَاصبِرُوا، فَـ(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ) [يوسف:90]، (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتي كُنتُم تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت:30-32].
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- حَقَّ التَّقوَى، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى، وَاقتَدُوا بِنَبِيِّكُم المُصطَفَى، وَالحَبِيبِ المُجتَبى، فَقَد كَانَ مِن إِحسَانِهِ العَمَلَ وَإِتقَانِهِ أَن يَختِمَ رَمَضَانَ بِمُضَاعَفَةِ العَمَلِ في عَشرِهِ الأَخِيرَةِ، عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَجتَهِدُ في العَشرِ الأَوَاخِرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهِ". رَوَاهُ مُسلِمٌ. وَعَنها -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: "كَانَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ العَشرُ شَدَّ مِئزَرَهُ، وَأَحيَا لَيلَهُ، وَأَيقَظَ أَهلَهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وَهَذَا لَفظُ البُخَارِيِّ.
وَقَد بَلَغَ بِهِ الاجتِهَادُ، وَالتَّفَرُّغُ لِلطَّاعَةِ، وَالحِرصُ عَلَى إِحسَانِ العَمَلِ وَطَلَبِ لَيلَة القَدرِ، أَنْ كَانَ يَعتَكِفُ في مَسجِدِهِ وَيَعتَزِلُ النَّاسَ، فَعَن أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: اِعتَكَفَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَشرَ الأُوَلِ مِن رَمَضَانَ، وَاعتَكَفنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطلُبُ أَمَامَكَ. فَاعتَكَفَ العَشرَ الأَوسَطَ فَاعتَكَفنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطلُبُ أَمَامَكَ. فَقَامَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشرِينَ مِن رَمَضَانَ فَقَالَ: "مَن كَانَ اعتَكَفَ مَعَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَلْيَرجِعْ؛ فَإِنِّي أُرِيتُ لَيلَةَ القَدرِ، وَإِنِّي نُسِّيتُهَا، وَإِنَّهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ في وِترٍ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
فَاجتَهِدُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- فَإِنَّمَا هِيَ عَشرُ لَيَالٍ أَو تِسعٌ، مَن قَامَهَا مَعَ الإِمَامِ، فَهُوَ حَرِيٌّ بِإِدرَاكِ لَيلَةِ القَدرِ، وَالفَوزِ بِعَظِيمِ الأَجرِ، وَأَمَّا الاشتِغَالُ بِتَحدِيدِ لَيلَةِ القَدرِ وَالبَحثِ عَن عَلامَاتِهَا، فَإِنَّمَا هُوَ ممَّا أَملَتهُ نُفُوسُ المُتَكَاسِلِينَ عَلَيهِم، وَشَغَلَهُم بِهِ الشَّيطَانُ عَمَّا أَرَادَهُ رَبُّهُم، إِذْ أَخفَى اللَيلَةَ عَنهُم لِيَجتَهِدُوا وَيُكثِرُوا مِنَ الطَّاعَةِ، فَيَعظُمَ لهم بِذَلِكَ الأَجرُ، وَيُحَطَّ عَنهُمُ الوِزرُ.
فَاتَّقُوا اللهَ، وَاشتَغِلُوا بما يَنفَعُكُم، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ طَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلُوبُهُم، فَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ مَعدُودَةٌ، وَأَعمَارٌ مَحدُودَةٌ، وَالعِبرَةُ بِكَمَالِ النِّهَايَاتِ، لا بِنَقصِ البِدَايَاتِ.