الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | سامي بن خالد الحمود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصلاة |
إذا كبَّرتم تكبيرة الإحرام فارفعوا أيديكم إلى المناكب أو إلى الأذنين، فإذا كبّرتم ضعوا اليد اليمنى على مَفْصِل كف اليسرى، وتكون اليد على الصدر، وهذا أحسن ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظروا إلى موضع سجودكم ولا تلتفتوا في الصلاة لا بوجوهكم ولا بأعينكم، ولا ترفعوا أبصاركم إلى السماء ..
عباد الله: ما أروعها! وما أجملها! يا سعادة من تشبث بها! ويا فوز من تعلق قلبه بحبها! أصحابها في أنس وأمان، وشوق وسلام، بها تسمو نفوس العارفين المتقين، وإليها تهوي أفئدة الأولياء الصالحين، وفيها تحلق القلوب إلى عالم آخر، بعيدًا عن أوضار الدنيا، ودنس الشهوات، وهموم الملذات.
إنها الصلاة، صلة العبد بربه -تبارك وتعالى-، إنها قرة عيون المؤمنين كما صح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: "وجعلت قرة عيني في الصلاة". رواه أحمد والنسائي.
ولذا كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أرحنا بها يا بلال". كما عند أحمد وأبي داود.
أيها المؤمنون: كيف تكون الصلاة راحة نفوسنا وربيع قلوبنا؟! تكون الصلاة كذلك بتحقيق أربع مراتب:
الأولى: المحافظة عليها جماعة في بيوت الله، وتعلّق القلب بها.
الثانية: إحسان الصلاة وإتمام أركانها وواجباتها.
الثالثة: المبادرة والتبكير إليها.
الرابعة: الخشوع وحضور القلب.
وقد تحدثنا في خطبة ماضية قبل رمضان عن المرتبة الأولى، وأشرنا إلى وجوب المحافظة على الصلوات الخمس جماعة في بيوت الله، ولا سيما صلاة الفجر التي عظمت فيها الفتنة والابتلاء في هذا الزمان، والله المستعان.
ولعلنا نتحدث في هذه الخطبة عن المرتبة الثانية، وهي إحسان الصلاة وإتمام أركانها وواجباتها.
عباد الله: يقول الله تعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ).
لو تدبرنا القرآن الكريم لوجدنا أن أوامر الله -تبارك وتعالى- في الصلاة جاءت بلفظ الإقامة: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)، (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ)، (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ)، (وَأَقِمْ الصَّلاةَ)، وغيرها من الآيات، فلم ترد آية واحدة بغير لفظ الإقامة.
وقد ذكر أهل العلم أن التعبير بهذا اللفظ -الإقامة- يقتضي العناية بأداء الصلاة، وفعلها على الوجه المطلوب كما وردت.
يدخل رجل مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين، فيصلي، ثم يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسلم عليه، فيرد عليه بقوله: "وعليك السلام، ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ". فيعود فيصلي ثم يأتي فيسلم عليه، فيرد عليه بمثل ما رد عليه، فلما كان في المرة الثالثة قال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني. فعلمه -عليه الصلاة والسلام- كيف يصلي، وأرشده إلى الطمأنينة في جميع أركان الصلاة وواجباتها.
ويصلي -عليه الصلاة والسلام- يومًا كما في صحيح مسلم فينصرف ويخاطب رجلاً بقوله: "يا فلان: ألا تحسن صلاتك!! ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي، فإنما يصلي لنفسه".
أيها الأحبة: هل تعلمون من هو أسوأ الناس سرقة؟! أهو سارق المسجد أو الحرم؟! أهو سارق مال فقير أو يتيم؟! كلا، قال -عليه الصلاة والسلام-: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته". قالوا: وكيف يسرق من صلاته؟! قال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها". رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني.
ولهذا علينا أن نتعلم صفة الصلاة، وهو أمر يسير بحمد الله، ولعلنا نذكر فيما يلي صفة الصلاة على وجه الإيجاز.
أيها المصلون: إذا كبَّرتم تكبيرة الإحرام فارفعوا أيديكم إلى المناكب أو إلى الأذنين، فإذا كبّرتم ضعوا اليد اليمنى على مَفْصِل كف اليسرى، وتكون اليد على الصدر، وهذا أحسن ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وانظروا إلى موضع سجودكم ولا تلتفتوا في الصلاة لا بوجوهكم ولا بأعينكم، ولا ترفعوا أبصاركم إلى السماء، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليه".
ثم استفتحوا الصلاة بدعاء الاستفتاح: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك"، أو قولوا بدلاً عنه: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد". ثم استعيذوا بالله من الشيطان الرجيم وسموا الله واقرؤوا الفاتحة في كل ركعة، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، ثم اقرؤوا ما تيسَّر من القرآن، ولتكن القراءة على حَسَب الصلاة، فأطيلوا القراءة في الفجر، وخففوا في المغرب، وتوسطوا في العصر والعشاء، وكونوا بين الوسط والإطالة في الظهر، كما هي سنته -صلى الله عليه وسلم-.
وبعد قراءة ما تيسر من القرآن، اركعوا مكبّرين رافعي أيديكم عند الركوع إلى المنكبين أو إلى الأذنين، ثم ضعوا أيديكم على ركبكم مفرقة الأصابع، وجافوها عن جنوبكم، واعتدلوا في الركوع فسووا ظهوركم وساووها مع رؤوسكم، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسوِّي ظهره ورأسه، ولا ينزل رأسه ولا يرفعه حين ركوعه، وعظموا ربكم في الركوع فقولوا: سبحان ربي العظيم وكرروا ذلك، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر في ركوعه وسجوده من قول: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"، وكان يقول في ركوعه وسجوده: "سبوح قدوس، رب الملائكة والروح"، ثم ارفعوا من الركوع قائلين: سمع الله لمن حمده، رافعين أيديكم إلى المناكب أو إلى الأذنين، وبعد القيام قولوا: اللهم ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، والمأموم لا يقول: سمع الله لمن حمده؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد".
ثم اسجدوا مكبرين، ولا ترفعوا أيديكم عند السجود، ولا بد من السجود على الأعضاء السبعة: الجبهةِ مع الأنف، واليدين والركبتين وأطراف القدمين، ولا تقدموا أيديكم قبل ركبكم عند السجود؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير"، والبعير عند البروك يقدم يديه.
وتكون اليد في السجود على الأرض وأصابعها نحو القبلة مضموم بعضها إلى بعض، محاذيةً لمكان الجبهة والأنف أو محاذيةً للمنكب، واعتدلوا في سجودكم، فارفعوا البطون عن الفخذين، والفخذين عن الساقين، ونحّوا اليدين عن الجنبين، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينحّيها حتى يرى بياض إبطيه، إلا إذا كان الإنسان مأمومًا، فإنه لا ينحيها إذا كان يؤذي مَنْ إلى جنبه، وارفعوا الذراعين عن الأرض، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بسطها على الأرض، وقولوا: سبحان ربي الأعلى، وكرروها وقولوا: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، سبوح قدوس، رب الملائكة والروح، ولا تسجدوا على شيء من ثيابكم إلا لحاجة كشدة حرارة الأرض أو نحو ذلك، ثم ارفعوا من السجود مكبرين، واجلسوا على قدم الرجل اليسرى، وانصبوا قدم الرجل اليمنى، وضعوا اليد اليمنى على فخذ الرجل اليمنى، أو على ركبتها، وقولوا: ربي اغفر لي وارحمني، واهدني وارزقني، واجبرني وعافني، ثم اسجدوا السجدة الثانية مكبرين، واصنعوا كما صنعتم في السجدة الأولى قولاً وفعلاً.
ثم صلوا الركعة الثانية كالركعة الأولى ولكن دون استفتاح ولا تعوُّذ، ثم اسجدوا للتشهد، وضعوا اليد اليمني على فخذ الرجل اليمنى أو على ركبتها، وضموا الخنصر والبنصر، وحلقوا إبهامها مع الوسطى، وحركوا السبابة عند الدعاء، وضعوا اليد اليسرى على فخذ اليد اليسرى مضمومة أصابعها بعضها إلى بعض، واقرؤوا التحيات لله إلى آخرها، إلى قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فإن كانت الصلاة ركعتين فأكملوا التشهد والصلاة على النبي، ثم سلموا على اليمين: السلام عليكم ورحمة الله، وعلى اليسار كذلك، وإن كانت الصلاة أكثر من ركعتين فقوموا بعد التشهد الأول مكبرين، وارفعوا أيديكم عند القيام، وصلوا ما بقي من صلاتكم على صفة ما سبق في الركعة الثانية، إلا أنكم تقتصرون على الفاتحة وتجلسون للتشهد الأخير متوركين بأن تلصقوا قدم الرجل اليمنى وتخرجوا الرجل اليسرى من تحت ساقها وتستقروا على الأرض.
هذه هي صفة الصلاة -عباد الله-، فأقيموها وأتقنوها، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
أقول ما تسمعون، وأسأل الله أن يعيننا على إقام الصلاة، وأن يتقبلها منا بقبول حسن، إنه جواد كريم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
عباد الله: لقد سطَّر سلفنا الصالح مواقف مشرقة في المحافظة على الصلاة، والعناية بأركانها وواجباتها وسننها؛ فعن عبد الله بن عمر أنه رأى فتى يصلي، فأطال صلاته وأطنب فيها فقال: أيكم يعرف هذا؟! فقال رجل: أنا أعرفه. فقال ابن عمر: لو كنت أعرفه لأمرته أن يطيل الركوع والسجود، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن العبد إذا قام إلى الصلاة أتي بذنوبه كلها فوضعت على عاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه". رواه الطبراني والبيهقي، وهو حديث صحيح.
وقال ابن جريج: لزمت عطاء ثماني عشرة سنة، وكان بعدما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة، فيقرأ مائتي آية من البقرة وهو قائم لا يزول منه شيء ولا يتحرك.
قال أبو إسحاق السبيعي: "ذهبت الصلاة مني وضعُفت، وإني لأصلي فما أقرأ وأنا قائم إلا البقرة وآل عمران". وقيل: إنه ما كان يقدر أن يقوم حتى يقام، فإذا استقام قائمًا قرأ وهو قائم ألف آية.
قال خالد بن عمرو: "رأيت مسعرًا كأن جبهته ركبة عنز من السجود".
قال ابن وهب: "رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلى ثم سجد سجدة، فلم يرفع حتى نودي بالعشاء".
هكذا كان حالهم -رحمهم الله-، أما حالنا اليوم فهو مؤسف ومحزن، فقد أصبحت الصلاة ثقيلة على كثير من الناس، حتى إذا كبّر أحدهم أومأ بحركات لا روحانية، ونقر الصلاة كنقر الغراب، لا يذكر الله فيها إلا قليلاً. فهلك النقارون.
ووالله لو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيًّا بين أظهرنا لقال لهم: ارجعوا فصلوا، فإنكم لم تصلوا.
أيها المسلم: الصلاة ليست بإكراه، بل هي صلة ومحبة، وشتان بين صلاة المكره وصلاة المحب.
الصلاة ليست بغرامة ولا ضريبة، بل هي أمانة ينظر إليك صاحبها سبحانه كل يوم خمس مرات، فيشهد لك بالوفاء والصدق والإخلاص، فيثيبك بأعظم الجزاء، كما قال سبحانه: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...