السلام
كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
وقال شيخنا -رحمه الله- كذلك: لو لم يتمكن من صيام الأيام الستة في شوال لعذر كمرض، أو قضاء رمضان كاملاً حتى خرج شوال، فهل يقضيها ويُكتب له أجرها؟! أو يُقال: هي سُنة فات محلها فلا تقضى؟! الجواب: يقضيها ويكتب له أجرها، كالفرض إذا أخره عن وقته لعذر، وكالراتبة إذا أخرها لعذر حتى خرج وقتها، فإنه يقضيها كما جاءت به السنة ..
الحمد لله الذي منَّ علينا بإدراك شهر الصيام؛ ومتعنا بطاعته فيه إلى أن بلغنا عيد الفطر ونحن بصحة وسلام؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها الإخوة: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]، ثم اشكروه على ما منَّ به عليكم من الطاعة، واسألوه القبول.
أيها الأحبة: سعدنا في أيام عيدنا وأنِسْنا بها بعد أن ودعنا شهرًا معظمًا مباركًا؛ وجميل أن نقف بعدها وقفات تهمنا في حياتنا الدنيوية والأخروية؛ نخرج مع كل واحدة منها بعبرة وموعظة.
أولها: وقفة اعتبار لسرعة تقضِّي الليالي والأيام، فبعدما كنا نرجو الله وندعوه بلوغ الشهر وإتمامه والسعادة بالعيد، فإذ بنا نفرح بإدراكهما، ثم ينصرفان عنا مودعين شاهدين، فهنيئًا لمن أودعهما الخير.
وهكذا الأيام! سريعة في التقضِّي:
إنَّا لَنَفْرَحُ بالأيامِ نقطعُها | وكُلُّ يومٍ مضى نقصٌ من الأجلِ |
يقول الحسن -رحمه الله-: "ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم: أنا خَلْقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة". ويقول: "يا ابن آدم: إنما أنت أيامٌ، كلما ذهب يومٌ ذهب بعضك".
ويقول الآخر:
ومـا المرءُ إلا راكبٌ ظهْرَ عُمْرِهِ | علَى سَفَرٍ يفنِيهِ بـاليومِ والشَّهْرِ |
يبيتُ ويضـحى كـُل يومٍ وليلةٍ | بعيدًا عَنِ الدُّنْيا قريبـًا من القبر |
ثانيها: اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن أبواب الخير مشرعة، ووسائله متاحة، لم ولن تغلق ما لم تغرغر منا الروح، أو تخرج الشمس من مغربها، فاجتهدوا -وفقني الله وإياكم- باستثمارها؛ فالعمر قصير.
الثالثة: ونحن نودع شهر الصيام والقيام الذي حافظ فيه كثير منا على صلاة الوتر مع صلاة التراويح أو القيام، وهذا توفيق من الله تعالى، جدير بنا أن لا نترك الوتر بعده، وأقله ركعة، وهو سنة مؤكدة جدًّا.
فعَنْ عَلِيّ بن أبي طالب قَالَ: "الْوِتْرُ لَيْسَ بِحَتْمٍ كَصَلاتِكُمْ الْمَكْتُوبَةِ؛ وَلَكِنْ سَنَّه رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"، وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ". رواه أبو داود، والترمذي واللفظ له، وصححه الألباني.
ومَن فاته الوتر لنسيان أو انشغال سُنَّ له أن يقضيه من الغد؛ ولكن شفعًا.
الرابعة: أحبتي: يجب أن يكون التواصل الذي تم في أيام العيد، وتلك اللقاءات الحميمية التي تمَّتْ، مُنْسِيَةً لما قد يكون بيننا من الخلافات، وأن نستمر بالتواصل؛ فأمر صلة الرحم عظيم، فقد عظَّمَهُ اللهُ ورسولُهُ بما رتبوا على الصلة من الأجر، وعلى القطيعة من الإثم، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلْيَصِلْ رَحِمَه". رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة، عن رسول الله، قال: "مَن أحب أن يُبْسَطَ له في رزقه، ويُنَسَّأَ له في أثره، فلْيصِلْ رحمه". متفق عليه. ينسأ له في أثره: يؤخر له في أجله.
وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الرحمُ متعلقةٌ بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله". رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من ذنبٌ أجدرُ أن يجعل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخره لهُ في الآخرةِ، من قطيعة الرحم، والخيانةِ، والكذب؛ وإنَّ أعجلَ الطاعةِ ثوابًا لَصِلَةُ الرحم". أخرجه الطبراني وصححه الألباني وغيره.
أيها الإخوة: مادام هذا هو فضل الصلة وأثرها ومكانتها عند الله، ومكانتها من الدين، فالواجب المحافظة على ما تم من تواصل في هذا العيد، ومعاهدة أنفسنا على الاستمرار عليه، (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد:22-23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 18-19].
أيها الأحبة: ومما شرع لنا بعد إتمام صيام رمضان إتباعه بستٍّ من شوال، وهي سُنة، فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ". رواه مسلم.
وعَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ كَانَ تَمَامَ السَّنَةِ؛ (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)". حديث صحيح رواه ابن ماجه. والنسائي بالكبرى، ولفظه: "جَعَلَ اللهُ الْحَسَنَةَ بِعَشَرِ أَمْثَالِهَا، فشَهْرٌ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ تَمَامُ السَّنَةِ".
أيها الإخوة: وهنا مسائل تتعلق بصيام الست من شوال، أوجزها بما يلي:
الأولى: قال شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله- ما ملخصه: قال الفقهاء -رحمهم الله-: والأفضل أن تكون هذه الست بعد يوم العيد مباشرة؛ لما في ذلك من السبق إلى الخيرات، والأفضل أن تكون متتابعة؛ لأن ذلك أسهل غالبًا؛ ولأن فيه سبقًا لفعل هذا الأمر المشروع... فعليه؛ يسن أن يصومها في اليوم الثاني من شوال ويتابعها حتى تنتهي... يجوز تأخيرها عن أول الشهر لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ"، والمبادرة وتتابعها أفضل من التأخير والتفريق، لما فيه من الإسراع إلى فعل الخير.
وقال شيخنا -رحمه الله-: ثم إن السُّنة أن يصومها بعد انتهاء قضاء رمضان لا قبله، فلو كان عليه قضاء ثم صام الستة قبل القضاء فإنه لا يحصل على ثوابها.
أيها الإخوة: وقال شيخنا -رحمه الله- كذلك: لو لم يتمكن من صيام الأيام الستة في شوال لعذر كمرض، أو قضاء رمضان كاملاً حتى خرج شوال، فهل يقضيها ويُكتب له أجرها؟! أو يُقال: هي سُنة فات محلها فلا تقضى؟! الجواب: يقضيها ويكتب له أجرها، كالفرض إذا أخره عن وقته لعذر، وكالراتبة إذا أخرها لعذر حتى خرج وقتها، فإنه يقضيها كما جاءت به السنة.
وقال شيخنا -رحمه الله-: فائدة: كره بعض العلماء صيام الأيام الستة كل عام مخافة أن يظن العامة أن صيامها فرض، وهذا أصل ضعيف غير مستقيم؛ لأنه لو قيل به لزم كراهة الرواتب التابعة للمكتوبات أن تُصَلَّى كُلَّ يوم، وهذا اللازم باطل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، والمحذور الذي يخشى منه يزول بالبيان. اهـ.
وأقول: قالت عائشة -رضي الله عنها-: "إنَّ أحبَّ العملِ إلى الله أدومُهُ وإن قلَّ، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا عمل عملاً أثبته". رواه أبو داود وهو صحيح.
وعنها، قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ". رواه مسلم.
وصيام الست عملٌ صالحٌ ينبغي لمن صامه سنة أن يداومَ عليه ويثبتَه، ويدعَ عنه هذه الأقوال المثبطة للعزائم؛ وعليه، لا ينبغي أن يُنْكَرَ على من لم يصم الست، فهي -كما قلت- سُنة، من شاء صام ومن لم يشأ لم يصم.
أيها الأحبة: بدأ بعض الناس يتناقل رأيًا للإمام مالك -رحمه الله- وهو: إن صيام الست مكروه، وحرصًا على إيضاح ما نُقل عن الإمام -رحمه الله- أسوق لكم ما قاله أحد علماء المالكية، قال ابن رشد -رحمه الله- في كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد": وأما الست من شوال، فإنه ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام رمضان، ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر"، إلا أن مالكًا كره ذلك، ولعله لم يبلغه الحديث، أو لم يصح عنده. اهـ.
ولقد نقل ابنُ قدامة -رحمه الله- عدمَ بلوغه الحديث، فقد روى عن مالك قوله: "وَلَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ". يعني صيام الست.
أقول: وهذا هو الظاهر والأليق بإمام دارِ الهجرة الإمامِ مالكٍ -رحمه الله-، فقد اشتهر عنه قوله: "كلٌّ يؤخَذُ مِن كلامه ويُرَدُّ، إلا صاحب هذا القبر". ويشير إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-. فهل يمكن أن يردّ حديثًا صحيحًا؟! لا يمكن! أسأل الله أن يوفقنا جميعًا للصواب، وأن يعيذنا من مُضِلاَّت الفتن.
أيها الإخوة: ومما يورده بعض الناس من الأدلة لعدم الصيام ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: "سَمِعْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- تَقُولُ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلا فِي شَعْبَانَ. الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". فقالوا: إن عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- لا تصوم؛ إذن فلا يشرع الصيام.
نقول لهؤلاء: من أين لكم هذا؟! فالصيام مشروع بالحديث الصحيح، وفعلها -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- ثابت كذلك؛ لكنها عللت تأخير القضاء لمكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- منها، وتلبية حاجته -صلى الله عليه وسلم- واجبة، وصيام الست من شوال سُنة، والواجب ألزم بالأداء، وأكثر بالأجر، فلْيُتَفَطَّنْ لذلك.
وصلوا على نبيكم...