الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن الصادق القايدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
إن قصة حياته لشرف لبني الإنسان؛ أن يتحول هذا الشاب المنعّم إلى أسطورة إيمانية رائعة، لقد سمع الفتى ذات يوم ما بدأ أهل مكة يسمعونه عن محمد الأمين، محمد الذي يقول: إن الله أرسله بشيرًا ونذيرًا، وكانت مكة لا حديث يشغلها إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد سمع أن الرسول ومن معه يجتمعون بعيدًا عن فضول قريش وأذاها، هناك على الصفا في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فقدم مصعب ..
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة المؤمنون: لا زال حديثنا معكم حول الإسلام وكيف أن العقيدة الإسلامية تكوِّن رجالاً أفذاذًا، يرى الناس في سيرتهم مرآةً صادقة عن الإسلام يتمثل فيها عمق الإيمان بالله وعظم البلاء في سبيل الله ونصرة دينه والتضحية بالنفس والمال والأهل من أجله.
لقد كان صحابة رسول الله -رضي الله عنهم- خير البشر على الإطلاق بعد الأنبياء والرسل -عليهم السلام-، أسلموا فحسن إسلامهم، وابتلوا بالسراء والضراء والشدة والرخاء، حتى كانوا خير المؤمنين الذين حملوا لواء الدعوة إلى الله بكل إخلاص وأمانة، حتى صدق فيهم قوله تعالى: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23]
صحب كرام كانوا من السابقين الأولين إلى الإسلام، فتوالى عليهم من البلاء والمحن والتعذيب ما لا يعلمه إلا الله، ولكنهم صبروا وصدقوا.
من هؤلاء الصحب فتى كان غرة فتيان قريش وأوفاهم بهاءً وجمالاً وشبابًا، يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون: كان أعطر أهل مكة، ولد في النعمة، وغُذِّي بها، ولم يكن بين فتيان مكة من دلَّله أبواه مثله، إنه مصعب بن عمير مصعب الخير، إنه ممن صاغهم الإسلام ورباهم محمد -صلى الله عليه وسلم-.
إن قصة حياته لشرف لبني الإنسان؛ أن يتحول هذا الشاب المنعّم إلى أسطورة إيمانية رائعة، لقد سمع الفتى ذات يوم ما بدأ أهل مكة يسمعونه عن محمد الأمين، محمد الذي يقول: إن الله أرسله بشيرًا ونذيرًا، وكانت مكة لا حديث يشغلها إلا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولقد سمع أن الرسول ومن معه يجتمعون بعيدًا عن فضول قريش وأذاها، هناك على الصفا في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فقدم مصعب مستخفيًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأسلم وكتم إسلامه، وكان يتردد على الرسول سرًّا، وكان إسلامه في السنوات الثلاثة الأولى من الدعوة قبل أن يصدع النبي بالدعوة الجهرية.
ولقد أخفى مصعب إسلامه على أمه وأهله خوفًا على نفسه من الفتنة وكتمانًا لأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فلما علموا بإسلامه حبسوه وأوثقوه، فلم يزل محبوسًا حتى فرّ بدينه وهاجر إلى الحبشة مع النفر القلائل من المسلمين، وحلفت أمه حين أسلم وهاجر أن لا تأكل ولا تشرب ولا تستظل حتى يرجع إليها لمعرفتها بأنه بار بها، ومع ذلك لم يغير ذلك من حاله، وصبر على الشدة وعلى البلاء والفقر حتى تغير لونه وذهب لحمه ونهك جسمه، وخرج من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرًا الفاقة، وأصبح الغني المتألق المعطر لا يرى إلا مرتديًا أخشن الثياب، يأكل يومًا ويجوع أيامًا.
ولقد رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا يرتدي جلبابًا مرقعًا باليًا فقال: "لقد رأيت مصعبًا هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبًّا لله ولرسوله". هذه الصفات جعلت النبي -صلى الله عليه وسلم- يختاره لأعظم مهمة في حياة الدعوة الإسلامية، حيث اختاره من بين أصحابه ليكون سفيره إلى المدينة النبوية، بعدما طلب الأنصار الذين بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيعة العقبة الأولى أن يرسل إليهم رجلاً يفقِّههم في الدين ويقرئهم القرآن، ولقد كان في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ من هم أكبر منه سنًّا وأكثر جاهًا وأدنى من الرسول قرابة، ولكن الرسول اختار مصعب الخير وهو يعلم أنه يكل إليه أخطر قضايا الساعة، ويلقي بين يديه بمصير الإسلام في المدينة التي سوف تكون دار الهجرة ومنطلق الدعوة والدعاة بعد حين من الزمان.
وحمل مصعب الأمانة مستعينًا بالله، وبما أنعم الله عليه من عقل راجح وخلق كريم غزا أفئدة أهل المدينة بزهده وإخلاصه، فدخلوا في دين الله أفواجًا، ولقد نزل أول ما دخل المدينة على أسعد بن زرارة، فكان يأتي الأنصار في دورهم في عوالي المدينة، فيدعوهم فيسلم الرجل والرجلان، حتى ظهر الإسلام وفشا في المدينة.
ولقد تعرَّض لبعض المواقف الصعبة التي حاكها اليهود وبعض المنافين ليوقفوا هذا المد الإسلامي، وكادت هذه المواقف أن تودي به وبمن معه لولا تثبيت الله له وقوة إيمانه وفطنته وذكائه؛ فاجأه ذات يوم وهو يعظ الناس أسيد بن حضير سيد بني عبد الأشهل بالمدينة شاهرًا سيفه يتوهج غضبًا وحنقًا عليه؛ لأنه جاء كما قيل له يفتن قومه عن دينهم، وما إن رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبًا مقدم أسيد متوشحًا سيفه حتى خافوا ووجلوا، لكن مصعبًا ظل ثابتًا متهللاً، وقف أسيد أمامه يخاطبه هو وأسعد بن زرارة مهددًا: ما جاء بكما إلى حينا تسفهان ضعفاءنا؟! اعتزلانا إذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة، فانفرجت أسارير مصعب وقال: "أولا تجلس فتسمع؟! فإن رضيتَ أمرنا قبلتَه، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره". الله أكبر! يا لها من عبارات صادقة من قلب مؤمن واثق بربه، وكان أسيد هذا رجلاً عاقلاً أريبًا، فبعدما سمع منه هذا قال: أنصفت، وألقى حربته إلى الأرض وجلس يصغي، ولم يكد مصعب يقرأ القرآن ويفسر ما جاء به الرسول حتى أخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق ويتهلل وجهه، وهتف: ما أحسن هذا القول وأصدقه! كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين؟! فأجابوه بتكبيرة رجت الأرض رجًّا، ثم قال له مصعب: "يطهِّر ثوبه وبدنه ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهكذا أسلم سيد بني عبد الأشهل".
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة...
الخطبة الثانية:
أحبتي في الله: هكذا انتشر الإسلام في المدينة، وهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها، واستبشر المسلمون في المدينة بقدومه، واستمر مصعب يدعو إلى الله وينشر الإسلام ويغرس العقيدة، وقريش تزداد حقدًا على المهاجرين، وتواصل مطاردتهم الظالمة لهم، وتقوم غزوة بدر، فتتلقى قريش درسًا أفقدهم صوابهم، وسعوا للثأر، وتجيء غزوة أحد، ويعبئ المسلمون أنفسهم، ويقف الرسول الأعظم وسط صفوفهم يتفرس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية، ويدعو مصعب الخير، فيتقدم ويحمل اللواء، وتنشب المعركة الرهيبة، ويخالف الرماة أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فتنتشر الفوضى، ويدرك مصعب الخطر القادم، فيرفع اللواء عاليًا، ويطلق تكبيرة كزئير الأسد، ومضى يصول ويجول ويتواثب، يد تحمل الراية ويد تضرب بالسيف.
دعونا نستمع لشاهد عيان يصف لنا مشهد ختام حياة مصعب، قال ابن سعد: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري عن أبيه قال: حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قمئة -وهو فارس- فضرب يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ...) [آل عمران144] الآية، وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ...) الآية، ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه، واندق الرمح ووقع مصعب وسقط اللواء. وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة، ووقف عند مصعب وقال -وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما-: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)، ثم ألقى نظرة على بردته التي كفن فيها وقال: "لقد رأيتك بمكة وما بها أرق حلة ولا أحسن لمة منك، ثم ها أنت شعث الرأس في بردة"، وهتف الرسول وقد وسعت نظرته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال: "إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة"، ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال: "أيها الناس: زوروهم وائتوهم وسلّموا عليهم، فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم مسلم إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه السلام".
السلام عليك يا مصعب بن عمير، السلام عليكم يا أصحاب رسول الله.
ولنا وقفة مع هذا الصحابي المجاهد: فهذا الرجل كان في الجاهلية خامل الذكر لا يعرف إلا مع المشركين والمترفين، فلما عرف الإسلام واعتنقه ارتفع ذكره وعلا قدره ومات شهيدًا، ولم يخلف وراءه من الدنيا شيئًا، وما وجدوا معه إلا ثوبًا مرقعًا لم يكف لتكفينه؛ لأنه انشغل بالدعوة إلى الله، وترك الدنيا، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، يأتي مصعب يوم القيامة وفي ميزان حسناته عشرات بل مئات الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين-.
فاللهم صلِّ وسلم على معلم الناس الخير...