الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
النفاق من اللوثات الخبيثة والأمراض المعنوية الخطيرة التي يعاني منها الإسلام على مر الأيام والدهور بمرارة، وهو انحراف خلقي خطير في حياة الفرد والجماعة؛ إذ يقوم بعمليات الهدم الشنيع والتفتيت الفظيع للمجتمع من الداخل، وصاحبه آمن مستأمن لا تراقبه الأعين ولا تطوف بذكره الألسن، ولا تحسب حسابًا لمكره ومكائده الأنفس.
الحمد لله الكريم الوهاب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه متاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وإله الأولين والآخرين وقيوم يوم الدين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، وخاتم الأنبياء والمرسلين وشفيع يوم الدين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -تبارك وتعالى- في السر والعلن، فهي وصية الله تعالى للأولين والآخرين من خلقه، قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا) [النساء:131]، تقوى الله سبحانه أعظم وسيلة للرفعة والشرف والفلاح والنجاة، فاتقوا الله -رحمكم الله- واستعدوا لما أمامكم، وحاسبوا أنفسكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
عباد الله: النفاق من اللوثات الخبيثة والأمراض المعنوية الخطيرة التي يعاني منها الإسلام على مر الأيام والدهور بمرارة، وهو انحراف خلقي خطير في حياة الفرد والجماعة؛ إذ يقوم بعمليات الهدم الشنيع والتفتيت الفظيع للمجتمع من الداخل، وصاحبه آمن مستأمن لا تراقبه الأعين ولا تطوف بذكره الألسن، ولا تحسب حسابًا لمكره ومكائده الأنفس.
النفاق سلوك مركب في الفرد يرجع إلى عناصر خلقية متعددة أهمها الكذب والجبن والطمع في حطام الدنيا الفاني والإعراض عن الحق وجحوده، وتلك بمجموعها تمثل شبكة شيطانية عنيدة يصعب التعامل معها والحذر منها.
ترى الواحد منهم يعيش بين الناس بلسانين، وتتلون نفسه لونين، يقود نفسه بزمام الشيطان إلى الرذائل والمحرمات، فإذا همت بالمعروف قال لها: مهلاً!
وتبرز خطورة النفاق والمنافقين على المؤمنين في تدبير المؤامرات وحبك الدسائس ضد المسلمين والمشاركة فيها والاستجابة لمروجيها، لأنهم قوم بهت خونة لا تصفو مودتهم لأحد، ولا يسلم من أذاهم بشر، قد صدق فيهم قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "تجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه". رواه البخاري ومسلم.
ترى أحدهم يتقلب بين الأفراد والجماعات لا يدري مع من يأمن ولا من يخالط ويرضى، منطبقًا عليه قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة". رواه مسلم.
قال تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [التوبة67 :68].
عباد الله: ومن أبرز المخططات النفاقية التي سجلها القرآن الكريم وصمة عار على جبين المنافقين إلى يوم القيامة مخطط مسجد الضرار الذي دبره المنافق أبو عامر الراهب مع فريق من المنافقين من جهة ومع الروم من الجهة الأخرى، بقصد القضاء على المسلمين سرًّا وهم غافلون.
كان أبو عامر الراهب عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان أحد بني ضبيعة، خزرجيًا من أهل يثرب، وقد تنصّر قبل الإسلام، وكان ذا مكانة في قومه، فلما هاجر رسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وبنى مسجد قباء أول مسجد أسس على التقوى، ورأى هذا المنافق تجمُّع المسلمين فيه وظهور أمرهم، أعلن عداءه الأكيد للرسول -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه، وأخذ يؤلب عليه من استطاع صده عن الإسلام من قومه، غير أن هذا المنافق لم يظفر بما يريده داخل المدينة، فخرج منها إلى مكة محرضًا المشركين فيها على محاربة المسلمين بعد أن شرقت نفسه بانتصار المسلمين في غزوة بدر الكبرى، وكان قد حلف ليحاربن محمدًا مع كل من يحاربه، وقال لمشركي مكة: "إن لي أنصارًا في يثرب إذا رأوني لم يختلف عليّ منهم رجلان".
فخرج مع المشركين في غزوة أحد، وكان في أول جيشهم ليستحث قومه الذين في صفوف المسلمين على طاعته، وخذلان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحبه -رضي الله عنه-، لكنهم لم يستجيبوا له بعد أن شرفت نفوسهم بالإسلام، ونعمت قلوبهم ببرد الطاعة وحلاوة الإيمان، فرجع إلى مكة مع المشركين ممتلئًا غيظًا وحقدًا على المسلمين الذين فرقوا بينه وبين قومه بزعمه، وما برح هذا المنافق يدبّر الخطط ويحبك المؤامرات ضد المسلمين حتى فتح الله مكة على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى المؤمنين، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفتح الطائف، فانضم هذا المنافق إلى قبائل هوازن وثقيف ومن معهم يقاتل المسلمين، ولكن الله -جل شأنه- نصر المسلمين في حنين، فيئس أبو عامر الراهب من الاعتماد على قوات الشرك داخل الجزيرة وقلبه يغلي كراهية وبغضًا للإسلام والمسلمين.
فقرر أن يستعين على المسلمين بهرقل الروم في الشام، فهرب إليه واتفق معه على أن يرسل معه جندًا لحرب محمد وأصحابه في عملية انقضاض ماكرة خبيثة على عاصمة الإسلام والمسلمين.
وفي سبيل إحكام هذه المؤامرة ولتكون حملة شرسة خاطفة لا يتنبه لها أحد أخذ أبو عامر يراسل خلصاءه من المنافقين في المدينة سرًّا بما اتفق عليه مع قيصر الروم، ويأمرهم بالاستعداد بكل ما استطاعوا من قوة وسلاح، وأن بينوا قاعدة سرية في ضاحية المدينة لا يشعر المسلمون لما يراد منها تمثلت هذه القاعدة في مسجد يبنيه المنافقون ويجتمعون فيه، متخذين لإقامته المبررات الكافية أمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى يأذن لهم بإقامته.
وفي سبيل تنفيذ هذه المؤامرة الماكرة اجتمع اثنا عشر منافقًا من بني غنم ابن عوف، وقرروا إقامة مسجدهم هذا قريبًا من مسجد قباء، وقد تم بناؤه بينما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتجهز للسفر إلى تبوك لغزو الروم.
فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا له: يا رسول الله: إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إني على جناح سفر، وحال شغل، ولو قدمنا -إن شاء الله- لأتيناكم فصلينا لكم فيه".
وخرج المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالمسلمين إلى تبوك دون أن يصلي لهم في مسجدهم هذا، وبينما هو عائد من تبوك راجع إلى المدينة وقد أنهكته مؤامرات المنافقين الذين رافقوه في غزوة تبوك نزل عليه الوحي يخبره بمؤامرة المنافقين، وحال المسجد الذي بنوه في المدينة وينهاه عن الصلاة فيه قائلاً -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة 107 :110].
فلما وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة أتاه أصحاب مسجد الضرار فسألوه أن يأتي مسجدهم ويصلي لهم فيه، فدعى نفرًا من أصحابه وأمرهم أن ينطلقوا إلى المسجد الظالم أهله فيهدموه ويحرقون، فانطلقوا حتى أتوه فهدموه وحرقوه، وانكشفت مكيدة المنافقين وتم وأدها في مهدها، وتوقفت مكائد المنافق أبي عامر الراهب ثم هلك في قنسرين من أرض الشام إلى جهنم وبئس القرار.
أيها الناس: لقد بنى المنافقون مسجد الضرار إضرارًا بالمسلمين وتفريقًا بينهم وقصدوا من خلاله مباهاة أهل الإسلام وتقوية أهل النفاق والإرصاد والتجميع لحرب الله ورسوله والمؤمنين، ولكن الله غالب على أمره: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30]، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة:32].
إن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون هو بمثابة الأساس الخرب لكل مخطط يقصد من خلاله الإضرار بالمسلمين وإسلامهم إلى يوم القيامة، فإن الله -عز وجل- قال: (لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة:110]، أي: لا تزال الريبة والمكر والعداء للإسلام وأهله في نفوس المنافقين قائمة ما داموا على قيد الحياة حتى يقتلوا أو يتوبوا إلى الله توبة تتقطع لها قلوبهم ندمًا وأسفًا على تفريطهم وعدوانهم للإسلام وأتباعه.
وإن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون في الصدر الأول ما يزال اليوم يتخذ في صور شتى من الوسائل الماكرة التي يتخذها أعداء الإسلام لحرب المسلمين وتفريقهم وتشويه صورة الإسلام في نفوسهم عبر وسائلهم المختلفة، فقنوات البث المباشر الناشرة للرذيلة والمجلات الفاتنة الفاضحة والجرائد المنحرفة الضالة والكتب الهدامة والبنوك الربوية ما هي إلا صور جديدة وقوالب مختلفة لمسجد الضرار وإن تلبست باسم الإسلام، وافتتحت بمقدماته، ونشرت بعض قيمه وأخلاقه، فهي تحمل في طياتها الفساد والانحلال والغزو الفكري المركز ضد عقيدة المسلمين وتربيتهم وقيمهم وأخلاقهم، وإنما يتأكلون باسم الإسلام، وعلى شاكلتها كل محل ينشر الرذيلة أو يبيع الفساد والخبث للمسلمين، كمحلات الفيديو ومحلات الأشرطة الغنائية والأزياء الفاضحة والمكتبات التي تروج للفساد والإفساد بين المسلمين.
وكثير من المنظمات والجماعات والأحزاب المنتمية للإسلام والفرق الخارجة عنه إنما هي صور مشكلة مزخرفة لمسجد الضرار، ترفع لافتة الإسلام، وتدعي الدفاع عنه، وتتحدث باسمه، وتزعم أنها الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، وكلها في النار إلا من كان على مثل ما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضوان الله عليهم-، وما هي إلا وسائل فرقة وهدم للإسلام والمسلمين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل، يذبح المسلمون على أيديهم في مشارق الأرض ومغاربها، ويمحق الإسلام بمخططاتهم وتداس أوامره ونواهيه على أيديهم، ومع ذلك يزعمون أن الإسلام بخير، وأن المسلمين بأمن وأمان، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المنافقون:4].
بل إن مسجد الضرار ما هو إلا صورة جامدة للنفاق والمنافقين، فقد يتمثل ذلك المسجد في منافق يمشي بالنفاق بين الناس يخذلهم ويثبطهم عن نصرة الإسلام والمسلمين والدفاع عن كرامتهم وحماية حقوقهم، وينشر بينهم من الرذائل والموبقات ما تنهدم به مجتمعاتهم، وتفسد به أخلاقهم كمروجي المخدرات وبائعي الأفلام الخبيثة والمجلات الفاضحة والكذبة والنمامين والواشين ومن في حكمهم.
ولكن الفرج والغلبة للمسلمين، فإن التعبير القرآني الفريد في آيات مسجد الضرار يرسم الصورة النهائية التي توضح بجلاء مصير كل وسيلة إضرار بالمسلمين تقام إلى يوم القيامة، ويكشف عن نهاية كل محاولة خادعة تخفي وراءها نية خبيثة ضد المسلمين؛ قال تعالى: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر:43]، (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [التوبة:109] .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وسنة خاتم المرسلين، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ذي القوة المتين، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها الناس-، واعلموا -رحمكم الله- أن آيات مسجد الضرار اشتملت على عدد من التوجيهات الفريدة التي يجب العناية بها والحذر من نقيضها:
أولها: أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار بمسجد آخر قريب منه محرم يجب هدمه إذا اطلع على مقصود أهله.
وثانيًا: أن كل وسيلة يحصل بها التفريق بين المؤمنين هي من المعاصي التي يتعين تركها وإزالتها، كما أن كل وسيلة يحصل بها جمع المسلمين وائتلافهم يتعين اتباعها والأمر بها.
وثالثها: النهي عن الصلاة في أماكن المعصية والبعد عنها.
ورابعها: أن المعصية تؤثر في البقاع كما أثرت معصية المنافقين في المسجد الذي بنوه، وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن، ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره، فقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يزوره كل سبت يصلي فيه، وحث على الصلاة فيه بقوله: "من تطهّر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة". رواه أحمد.
وخامسها: أن كل عمل فيه مضارة لمسلم أو فيه معصية لله تعالى أو فيه تفريق بين المؤمنين أو مساعدة لمن عادى الله ورسوله فإنه محرم ممنوع منه، فليحذر كل مسلم من المشاركة بماله أو بجهده في شيء من ذلك، فإن كل من شارك بماله في باطل أو باع أذى للمسلمين أو أعان نشر فساد بينهم أو عقد عقدًا أو أجرًا فيه ضرر على المسلمين فهو كالمنافقين الذين اتخذوا مسجد الضرار.
وسادسها: أنه يجب هدم كل مكان يضر بالمسلمين وينشر الفساد بينهم ويفرق جماعتهم ويهدم أخلاقهم؛ لأن شره وفساده لا ينتهي إلا بهدمه والقضاء عليه كما هدم -صلى الله عليه وسلم- مسجد الضرار الذي قد يستغل للطاعة لما تيقن من ضرره على الإسلام والمسلمين.
ألا فاتقوا الله -تبارك وتعالى- أيها المسلمون، وصلوا وسلموا على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في قوله -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا". رواه مسلم.