البحث

عبارات مقترحة:

الشكور

كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

الفتاح

كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...

البصير

(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...

حق الجوار

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب
عناصر الخطبة
  1. مكانة الجوار في الإسلام .
  2. بما يحصل حسن الجوار .
  3. حدود إكرام الجيران شرعًا .
  4. السلف وأروع الأمثلة في حسن الجوار .
  5. إلحاق الأذى بالجار خلقٌ دنيء ومساوئه .
  6. أمثلة على أذية الجار .

اقتباس

ويحصل امتثال الوصية بحسن الجوار بإيصال أصناف الإحسان للجار حسب الوُسْع والطاقة؛ من بذلِ السلام له، وطلاقةِ الوجه والبِشْرِ عند لقائه، وتفقُّدِ أحواله والسؤالِ عنه، وتقديمِ الهدية له، ومعاونتِه فيما يحتاج إليه، والنصحِ له، وتعليمِه ما...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله: إنَّ من محاسن الإسلام العظيمة وصيته بالجار؛ والحثّ على أداء حقوقه والإحسانِ إليه، وقد تضافرت الأدلةُ من الكتاب والسنة مبينةً هذا الأمر أتمَّ بيانٍ وأوضحَه، قال الله -عز وجل-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا)[النساء:36]، الجار ذو القربى: أي ذو القرابة، والجار الجنب: أي الجار الأجنبي منك. ولمكانة الجوار في الإسلام اقترنت الوصية بالجار بأعظم المأمورات وهو التوحيد ونبذ الشرك، وفي هذا أكبرُ دليلٍ على عظيمِ منزلةِ الجار وكبير حقِّه.

وقد عظّمت الوصية بالجار حتى قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه"(رواه البخاري ومسلم)؛ أي: حتى ظننت أن الوحي سينزل بتوريثه. وما كان النبيُّ ليظنَّ هذا الظن إلا لكثرة ما كان يؤمر به من الوصية بالجار، فتأملوا هذا -رحمكم الله-.

وإكرامَ الجار من علاماتِ الإيمان ودليل عليه؛ قال –عليه الصلاة والسلام-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره"(رواه البخاري ومسلم).

ويحصل امتثال الوصية بحسن الجوار بإيصال أصناف الإحسان للجار حسب الوُسْع والطاقة؛ من بذلِ السلام له، وطلاقةِ الوجه والبِشْرِ عند لقائه، وتفقُّدِ أحواله والسؤالِ عنه، وتقديمِ الهدية له، ومعاونتِه فيما يحتاج إليه، والنصحِ له، وتعليمِه ما يجهله.

وإن من حق الجار على الجار إذا لقيه أن يسلم عليه، وإذا دعاه إلى طعام أجاب دعوته، ويعوده إذا مرض، ويقضي حاجته من السوق إذا لم يستطع قضاءها؛ كشيخ كبير، وكامرأة أرملة، ونحوها؛ ليكتسب بذلك الثناء الجميل، والأجر الجزيل.

وقد جاءت السنة النبويّة بما يرقِّقُ القلوب وينشرُ السعادة بين الجيران، ويفتحُ لهم أبوابَ الإحسان حتى يكونوا كالأُسْرةِ في البيت الواحد، ومن ذلك قول النبي لأبي ذر: "إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك"(رواه مسلم).

وهذا يدل على تحسُّسِ المرءِ لأحوال جيرانه ومحبةِ إشراكِه لهم في طعامه، وهذا فيه ما فيه من ردة الفعل النفسية الجميلة من الجار تجاه جيرانه حين تذكروه في طعامهم وأشركوه معهم، وليس بالضرورة أن يكون الجارُ مُحتاجاً لما يرسلونه له من الطعام، ولكنه يَنظُر لها من جانب آخر وهو أن جارَه لم ينسَه في هذا المقام، فيؤنسه ذلك ويُسَرُّ به، فهل فكرنا في أنْ نرسلَ من طعامنا لجيراننا؛ حتى تدومَ الألفةُ والمحبةُ بيننا؟.

وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ"(السلسة الصحيحة للألباني).

وإكرامُ الجار ليس له حدٌّ محدود، فليجتهد المسلمُ بتحقيق ذلك على حسب ما تيسَّر له، وليعلم أنه بفعله ذلك قد تقرَّب إلى الله بعمل يحبه -سبحانه- ويرضاه، وليعلم أن المرء لازال بخيرٍ ما دام محبوباً إلى جيرانِه محسناً إليهم، فالجارُ أعظمُ شاهدٍ على سلوكِ جاره وأخلاقه، جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، كيف لي أن أعلمَ إذا أحسنتُ أني قد أحسنت، وإذا أسأتُ أني قد أسأت، فقال رسول الله: "إذا قال جيرانُك: قد أحسنت، فقد أحسنت، وإذا قالوا: إنك قد أسأت فقد أسأت"(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

وقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن من سعادة الدنيا الجار الصالح، ومن شقاوة الدنيا الجار السوء، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سعادة ابن آدم ثلاثة، ومن شقوة ابن آدم ثلاثة، من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء"(رواه أحمد، وصححه الألباني).

عباد الله: إن الديارَ لا تُقاس على الحقيقة بجميلِ بنيانها، وإنما تغلو وترخص بجيرانها، فعلى المسلم إن أراد أن يسكن بيتاً أنْ يجتهدَ وُسعه في اختيار جيرانه، فإنَّ بهم صلاحَ السكنى وفسادَها، وقد قيل:

اطلب لنفسك جيراناً تجاورهم

لا تصلح الدارُ حتى يصلحَ الجارُ

وإذا ابتُليتَ بجارٍ مؤذٍ، فاصبر على ما بُليت به حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فإنَّ من حسن الجوار الصبر على أذى الجار، حتى قال الحسن البصري: "ليس حسنُ الجوار كفّ الأذى، حسن الجوار الصبر على الأذى".

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

عباد الله: أحسنوا إلى جيرانكم، ولا تؤذوهم، واعلموا أن سلفكم قد ضربوا أروعَ الأمثلة في حسنِ الجوار، حتى أصبح هذا الوصفُ قريناً لأسمائهم، وضُرب بهم المثل في ذلك.

فهذا أبو بكر يحلب غنم جيرانه، حتى إذا ولي الخلافة وجاء ليحلبها منعوه من حلبها؛ استبقاء له عن المشقة.

وهذا أبو جهمٍ العدوي باع داره بمائة ألف درهم، ثم قال: "فبكم تشترون جوارَ سعيد بن العاص؟، قالوا: وهل يُشترى جوارٌ قط؟! قال: رُدُّوا عليَّ داري ثم خذوا مالكم، لا أدع جِوارَ رجلٍ إنْ قعدت سأل عنِّي، وإن رآني رحَّبَ بي، وإن غبتُ حفظني، وإنْ شهدْتُ قرَّبني، وإن سألتُه قضى حاجتي، وإنْ لم أسألْه بدأني، وإن نابتني جائحة فرَّج عني، فبلغ ذلك سعيداً فبعث إليه بمائة ألف درهم".

وكان للإمام عبد الله بن المبارك جارٌ يهودي أراد أن يبيعَ داره، فقيل له: بكم تبيع؟ قال بألفين، فقيل له: إنها لا تساوي إلا ألفاً، قال: صدقتم، ولكنْ ألفٌ للدار، وألفٌ لجوار عبد الله بن المبارك، فأُخبر ابنُ المبارك بذلك، فدعاهُ فأعطاه ثمن داره، وقال: لا تبعها.

وكان كعبُ بنُ أمامة يُضرب به المثلُ في حسنِ جواره، فيقال: جارٌ كجارِ أبي دؤاد، وكان أبو دؤاد -يعني كعباً- إن مات لجاره بعيرٌ أو شاةٌ أخلفها عليه، وإذا مات الجارُ أعطى أهلَه مقدارَ ديتِه من ماله.

عباد الله: إن إلحاق الأذى بالجار بأي نوع من الأنواع خلقٌ دنيءٌ لا يليق بمسلم يتخلق بأخلاق الإسلام أن يتصف به، كما أنه باب من أبواب الإثم، وسبيل إلى دعاء الناس على هذا المؤذي، وليس بخيرٍ ولا موعود بخير من دعا عليه الناسُ.

وكما أن حفظ الجوار من علامات كمال الإيمان فإنَّ أذية الجار من منقصات الإيمان فالواجب على العاقل الحذر منها؛ فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره"(رواه البخاري).

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- يَشْكُو جَارَهُ فَقَالَ: "اذْهَبْ فَاصْبِرْ". فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا فَقَالَ: "اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ" فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ لاَ تَرَى مِنِّى شَيْئًا تَكْرَهُهُ". (رواه أبو داود، وقال الألباني: حسن صحيح)؛ فهل يريد ذلك المؤذي أن يدعو عليه جارُه حين يرى تفاقمَ ظلمه وعدوانه.

وقد حذَّر النبي من ذلك أذية الجار أشدّ التحذير فقال -كما في حديث أبي شريح رضي الله عنه-: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل: مَن يا رسولَ الله؟ قال: الذي لا يأمن جارُه بوائقه"(رواه البخاري)؛ أي: الذي لا يأمن جاره ظلمه وغدره وخيانته وعدوانه.

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر فنادى بصوت رفيع، فقال: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).

ويعظم المصاب إذا وقع الأذى على الجار في دار إقامته في مثل هذه البيوت المتلاصقة التي لا سبيل للانتقال عنها، فإذا كان هو في بيت إقامتِه، وجارُه لا يكفّ عنه أذاه وأذى أبنائه؛ فكيف السبيل إلى الخلاص؟! ومثل هذا استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- منه فقال: "اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة؛ فإن جار البادية يتحول"(رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).

وباع رجلٌ منزله بثمن رخيص فعُوتب على ذلك، فقال:

يلومونني إذ بعت بالرخص منزلي

وما علموا جاراً هناك ينغِّصُ

فقلت لهم كفوا الملامَ فإنها

بجيرانها تغلو الديار وترخصُ

فشر الجيران من يتتبع العثرات ويتطلع على العورات؛ إن رأى حسنة سترها، أو رأى سيئة نشرها.

والقرآن والسنة يحثان على التواد والتواصل بين الجيران، فبدل الناس قولاً غير الذي قيل لهم، فكانوا يتعاملون بالإساءة والقطيعة والهجران، فالرجل لا يسلم على جاره، والمرأة لا تسلم على جارتها، ولعل هذا التقاطع والهجران على إثر نزاع بين النساء والصبيان.

ومن الجفاء وعدم الوفاء أن تهجر جارك من السلام، بسبب أمر ليس له شان، وقد قال -عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام-: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام". (رواه البخاري ومسلم).

فليتق اللهَ المسلمُ بكف أذاه عن جيرانه، وليأخذ على يد زوجته وأبنائه، وليكن كفُّ الأذى قولاً وفعلاً، ولا يستغلُّ حياءَ بعض جيرانه أو ضعفهم، وليحذر أنْ يسلِّط اللهُ عليه من لا يرحمُه، جزاءً وفاقاً بعمله السيئ.

نسأل الله أن يجعلنا من المحسنين إلى جيراننا وأهلينا...

هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...