الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله الهذلول |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
والأمم إنما تقوم وتنهض بصلاح القلوب مع صلاح الأبدان، إلا أن أعمال القلوب عبادة تتفرد بها أمة الإسلام، فلو أحسنت هذه العبادة لاستوت على عرش الحضارة العالمية، كما كانت في قرونها الأولى، وما تلاها؛ لكونها تعنى عناية شديدة متميزة في إصلاح القلب روحياً، وحمايته من عبث العابثين، إضافة ..
الحمد لله الذي علم بالقلم، وغمر بالنعم، ووقانا من النقم، وأنقذنا من الجهالة والكفران، وجعلنا من أمة خير الأنام، خير أمة أخرجت للناس، فارتفعنا بتلك النسبة المباركة على غيرنا من الإنس والجن أجمعين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المستحق للتسبيح والتقديس والتعظيم والعبادة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من عرف ربه وأجله وأحبه ونفذ أمره ونهيه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس، فإن النصوص الشرعية -مِن كتاب وسنة- حافلة بإظهار شرف القلب، وأهميته، وعظم تأثيره، وأنه مناط التكليف؛ إذا الإسلام والإيمان والإحسان وما يتبع ذلك كله من عبادات باطنة، محلها القلب.
والقلب مَحَلُّ نظر الله تعالى، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم؛ ولكن ينظر إلى قلوبكم" رواه مسلم.
وقد علق النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاحَ الفرد بصلاح القلب، فقال: "إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" رواه البخاري.
وصلاح الفرد صلاحان: مادي وروحي.
أما الصلاح المادي فمعلوم وظاهر؛ إذ إن سلامة القلب وبعده عن المسكرات والمخدرات والفواحش، وسائر الأمراض، يكسب الجسم نشاطاً وحيوية، وقدرة على التفكير والعمل، مما يجعل من ذلك الإنسان لبِنَة صالحة في رقي الأمة وإنتاجها، وبناء حضارتها.
وهذا إصلاح مادي كبير دعا إليه الإسلام ورغب فيه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير" رواه مسلم.
وأما الصلاح الروحي؛ فإن صلاح القلب يتبعه حسنُ القيام بحقوق الله تعالى، كالصلاة والصيام، والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعاملة الناس بالخلق الحسن.
والأمم إنما تقوم وتنهض بصلاح القلوب مع صلاح الأبدان، إلا أن أعمال القلوب عبادة تتفرد بها أمة الإسلام، فلو أحسنت هذه العبادة لاستوت على عرش الحضارة العالمية، كما كانت في قرونها الأولى، وما تلاها؛ لكونها تعنى عناية شديدة متميزة في إصلاح القلب روحياً، وحمايته من عبث العابثين، إضافة إلى إصلاحه مادياً.
معشر الفضلاء: كما أن للجوارح أعمالاً تتراوح بين الوجوب والاستحباب والتحريم والكراهة والإباحة، فالقلوب لها أعمال كذلك؛ فالإخلاص والتوكل والخوف والرجاء والتوبة، هي أعمال قلبية لا يعلمها ولا يطلع عليها إلا الله تعالى، وحكمها أنها واجبة.
والرضا والخشوع والشوق إلى الله تبارك وتعالى، والأنس به، والإقبال عليه، هي من أعمال القلوب المستحبة.
وأما الكفر، أياً كان من الإشراك والإلحاد والشك والنفاق، وكذا الكبائر بأنواعها: الرياء والعجب والكبر والفخر واليأس من رَوْح الله، والأمن من مكر الله، والفرح بأذى المسلمين، والشماتة بمصائبهم، والحسد، وحتى الصغائر وهي ما دون الكبائر، كل تلك حكمها التحريم وصاحبها آثم، وتحريمها حسب ما يتعلق بالقلب, فأعلاها حرمة ما يخرج صاحبها من الإسلام، ثم ما دون ذلك، إلى صغار الذنوب.
كما أن عبادات القلب تتفاضل، لأنها أعظم شأناً، وأبعد أثراً، فالقلب هو الذي يسعد بالقرب من الله تعالى، وهو المطيع له، وإنما المنتشر على الجوارح من العبادات أنواره.
كما أن القلب يتألم أعظم الألم حين يعصي العبد ربه، وانظروا إلى الوحشة التي تنتابه حين يقارف الزنا أو يشرب الخمر؟ فما هي إلا لحظات يسيرة حال اقتراف المعصية يوهمه إبليس بفرحة، تعقبها وحشة وظلمة وحسرة يعتصر منها القلب.
إن القلب هو محل العلم والتقوى، والحب والبغض، والوساوس والخطرات، وهو العالم بالله، والساعي إليه، وإنما الجوارح أتباع للقلب، وخدم له.
والسلف إنما فازوا فوزاً عظيماً، وسبقوا سبقاً بعيداً بإحسانهم العبادات القلبية، وتفردهم في هذا الباب تفرداً لا مثيل له انعكس على جوارحهم، فأذعنت لخالقها، وسلمت تسليماً...
الخطبة الثانية:
الحمد لله علام الغيوب، مقلب القلوب، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يحب الخائفين منه، المشفقين من عذابه، الراجين ثوابه، المتوكلين عليه، الراضين بقضائه، لا يزعزع إيمانهم به شدة ولا ضراء، ولا تلهيهم ولا تنسيهم عنه تجارة ولا بيع ولا مال ولا ولد ولا جاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أطهر العباد قلباً، وأصفاهم نية، وأصدقهم لساناً، وأسلمهم لله رب العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أما بعد: فإن أعمال القلوب في الإسلام شأنها كبير، واختلالها هدم لعبادات الجوارح من صلاة وصيام وحج ونحوها.
فمثلاً: اختلال الإخلاص قد يؤدي إلى الشرك أو النفاق، وهو هادم لعبادات الجوارح كلها. ووقوع المسلم في الكبر مانع من التواضع، وهو عبادة قلبية، والكبر مانع من دخول الجنة ابتداءً، مهما كان للعبد من أعمال صالحة، وحسناتٍ كثيرة، إلا أن يشاء الله تعالى، أو يتوبَ المتكبر، فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر" أخرجه مسلم.
ومن أعمال القلوب الهادمة للعبادات، الماحقة للحسنات: الحسد، وهو دال على اختلال حب الخير للمسلمين، يذهب حسنات المرء لما في قلب صاحبه من نار دائمة تتأجج على أخيه المسلم، حذرنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- منه أشد التحذير فقال: "إياكم والحسد! فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، أو قال العشب".
أيها المؤمنون: توحيد الله بالعبادة، والإخلاص له، تاج العبادات، وبوابة الإسلام، لا يستقيم عمل ولا يقبل بدونه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنةَ حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" أخرجه البخاري.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم". قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى! والذي نفسي بيده: رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" أخرجه مسلم.
والإيمان والتصديق أعمال قلبية.
أيها المؤمنون: سلامة الصدر تجاه إخوانك المسلمين من أجَلِّ العبادات القلبية، وأرجاها قبولاً، وأعظمها أجراً.
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنا جلوساً عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يطلع عيكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه.
فلما كان الغد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى.
فلما قام النبي -صلى الله عليه وسلم- تبعه عبدالله بن عمر، فقال: إني لاحَيْتُ أبي -يعني خاصمته- فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني حتى تمضي فعلت. قال: نعم.
قال أنس: فكان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعارّ -يعني تقلب في فراشه- ذكر الله -عز وجل-، وكبَّرَه حتى صلاة الفجر. قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً.
فلما مضت الثلاث الليالي وكدت أن أحتقر عمله، قلت يا عبدالله، لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لنا ثلاث مرات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك فأنظرَ عملك فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل! فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: ما هو إلا ما رأيت.
قال فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه.
فقال عبدالله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق. قال الهيثمي: رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح.
فإذا رأيت -أيها المؤمن- على أخيك المسلم نعمةً من مال أو ولد أو زوجة أو جاه أو علم، أو عمل، أو صحة، فادع الله له بالبركة والمزيد؛ ليسلم لك قلبك نحو إخوانك المسلمين، ولأنك إنما تدعو لنفسك، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلا قال الملك: ولك بمثل ما قلت" رواه مسلم.
عباد الله: تضافرت النصوص الشرعية -كما سمعتم شيئاً منها- في بيان عظم أجر العبادات القلبية، وعلو مرتبة أصحابها المتعبدين بها في الجنة، ولعلنا في خطب قادمة -إن شاء الله تعالى- نأتي على بعضها أيضاً.
أسال الله تعالى أن يصلح أعمالنا وقلوبنا، ويسلل سخائمنا، اللهم ارزقنا قلوباً سليمة، وألسناً ذاكرة، وأوقاتاً بطاعتك عامرة، اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا، وحبِّبْ إلينا الإيمان...