الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المنجيات |
لقد كان التحام المسلمين ونصرة كل منهم لأخيه مثالاً فريدًا في تاريخ التلاحم والتواصل والتناصر، سواء على مستوى الأمة أم الأفراد، ولن ينتصر المسلمون إلا إذا تحقق فيهم -بعد صفاء العقيدة- حب المسلم لأخيه كحبه لنفسه، وشُعوره بآلام أخيه كشعوره بما يصيبه هو، وحبُّ نصرته كما يحب أن ينصره هو، والله ينصر من ينصره، وهو القوي العزيز ..
الحمد لله البَرِّ الرحيم، العلي العظيم، يعلم ما في السموات وما في الأرض وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس الحليم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ذو الخلق العظيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم أيها الناس، وكونوا أنصار الله.
أيها المسلمون: إن المحبة في الله هي الوشيجة العظمى التي التقى عليها المؤمنون ويلتقون عليها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى هذه الوشيجة تنبني حقوق المسلم على المسلم من النصرة، والمودة، والزيارة، والإكرام، والسلام، وحماية العرض، وغير ذلك مما هو منصوص عليه في الكتاب والسنة.
لقد ربط الإسلام المسلم بأخيه حتى صار كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهَر والحمى، ولذلك يكْثرُ في القرآن العظيم إطلاق النفس وإرادة الأخ تنبيهًا على أن رابطة الإسلام تجعل أخ المسلم كنفسه، (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) [البقرة:84]، (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور:12]، (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ) [الحجرات:11].
ولقد علمَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه يجب موالاة كل مسلم بحسب موالاته لله ورسوله والمؤمنين، وأنه يُحب ويوالى بقدر نصرته للمؤمنين ونكايته في أعداء الدين، ولهذا قال عن جُليبيب -رضي الله عنه-: "هذا مني وأنا منه".
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو -أي: فني زادهم-، أو قَل طعام عيالهم في المدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم". متفق عليه.
وهكذا لقّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمته هذا المعيار الدقيق للولاء والانتماء، وسار السلف الصالح على هذا المعيار، وظهرت نصرتهم لإخوانهم في صور ومظاهر عديدة.
حكى ابن كثير في تاريخه أن أبا محمد البربهاري الحنبلي عطس يومًا وهو يعظ فشمَّته الحاضرون، ثم شمته مَن سمعهم، حتى شمَّته أهل بغداد، فانتهت الضجة إلى دار الخلافة. وبهذه المشاعر ساد أسلافنا وانتصروا على أعدائهم.
أيها المسلمون: كم في المسلمين من ذوي الحاجة، وأصحاب الهموم، وصرعى المظالم، وجرحى القلوب؛ الذين لم يجدوا من يطرق بابهم، أو يسأل عن حالهم، أو يسعى في كشف الغم عنهم بدافع من خلُق النُّصْرَة، والتي هي من حقوق أخيك المسلم.
ونعني بالنُّصْرَةِ تلك الغيْرة الإيمانية التي تدفع المسلم لرفع الظلم عن أخيه المسلم المستضعف، أو لِمَدِّ يد العون إليه؛ وبقدر ما تمارِس هذا الخلق في حياتك اليومية تكون أقدر على الاستجابة لنداء داعي الجهاد لمنازلة البغاة أو الكافرين.
الأخوّة الإيمانية ضريبتها النصرة، والقائم بحق النصرة أو المتخاذل عنها كل منهما يلقى ثمرة ذلك في الدنيا قبل الآخرة جزاءً وفاقًا، كما جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من امرىء يخذل امرءًا مسلمًا عند موطن تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله -عز وجل- في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر امرءًا مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته"، وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبعٍ، كان منها نصر المظلوم.
ويصف ابن الجوزي الظلم بأن المعصية فيه أشد من غيرها من المعاصي، معللاً ذلك بقوله: إنه لا يقع غالبًا إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار، وليس من شأن المسلم أن يرتضي لنفسه إيقاع الظلم بأخيه أو أن يدع أخاه فريسة بيد ظالم يذله، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربته فرج الله عنه كربة من كُرَبِ يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة".
فهل بعد هذا ترى مصيبة واقعة بأخيك وتسلمه لها وتخذله فيها؟! أم تحتقن دماؤك في عروقك ولا يروق لك نوم حتى تبذل ما تستطيع من جهد لكشف ما نزل من ضرٍّ بأخيك؟!
أمة الإسلام: لقد كان أبناء الجاهلية يتناصرون في الخير والشر، وأراد الإسلام لهذا الخلق أن يستمر بوجهه الخيّر، معطيًا له معنى جديدًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، فقيل: يا رسول الله: أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إن كان ظالمًا؛ كيف أنصره؟! قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصره". فإن كنت تنصر قومك وعشيرتك وتمنعهم بكل الوسائل من إيقاع ظلم بمسلم فتلك هي النصرة، وإلا فهي العصبية المقيتة المنتنة التي أُمرنا بأن ندعها.
والقادر على نُصْرَةِ أخيه المسلم بكلمة أو شفاعة أو إشارة بخير، إنْ لم يقدِّمْها، مع قدرته على ذلك، وهو يرى بعينه إذلال أخيه، ألبسه الله لباس ذل أمام الخلق يوم القيامة، كما أخرج الإمام أحمد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أُذِلَّ عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره أذله الله -عز وجل- على رؤوس الخلائق يوم القيامة".
عباد الله: لا بد لكل دعوة من رجال متشبعين بخلق النصرة، وإلا فلن تكتب لها الحياة، وأدناها النصرة بالمعونة ورفع الظلم، وأعلاها النصرة بالجهاد، وحين كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرض دعوته في المواسم بمنى كان يقول: "مَن يؤويني؟! مَن ينصرني؟!"، والله -عز وجل- قادر على أن ينصر رسوله؛ لكنه ترك للمؤمنين حظًّا في النصرة يؤدونه، ويُسألون عنه، ويؤجرون عليه؛ (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) [محمد:4]، (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:62]، (فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ) [الأعراف:157].
وقد شرع للمؤمن أن يدعو بالنصرة كما في الحديث: "رب أعني ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ".
ولكن هذه النصرة لا تكون غالبًا بسبب غيبي؛ وإنما بتسخيرك يا صاحب خلق النصرة لتؤدي دورك بحميتك الإيمانية وغيرتك للحق، أما الخذلان في ساعة الحاجة فشأن المنافقين مع أوليائهم الذين قال الله فيهم: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) [الحشر:12].
أيها المسلمون: والمبادرة إلى نصرة الأخ في الله في الدنيا -وخاصة في حال غيابه حيث تسقط المجاملات وتظهر حقيقة المشاعر وتخلص النصرة لله- يكون من ثمرتها أنْ يسخّر الله للناصر من يقف إلى جانبه وينصره في الدنيا، والله يتولاه في الآخرة، كما في الحديث: "مَن نَصَرَ أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة".
وأوجب صور النصرة ما يكون فيه دفع أذى من مسؤول أو ذي سلطان أو صاحب سطوة؛ لأن هؤلاء أذاهم شديد، وناصحوهم قليل، والمتملقون لهم كثير، فيضيع الحق في غمرة المجاملات والمداراة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبرأ ممن يعينهم على ظلمهم ولا ينصرهم على أنفسهم وأهوائهم بردعهم عن الظلم.
وإذا كان منع الظلم ونصرة المستضعفين خلقًا يتجمل به غير المسلمين؛ فالمسلمون به أولى وأحرى، وقد وصف عمرو بن العاص الروم بخصال استحسنها فيهم، فقال من ذلك: "إنهم خير الناس لمسكين ويتيم وضعيف، وأمنعهم من ظلم الملوك".
ومَن كانت نصرته بصورة الجاهلية نصرة على الباطل، ودورانًا مع العصبية، وإعانة على الظلم، فقد غضب الله عليه، كما في الحديث: "مَن أعان على خصومة بظلم أو يعين على ظلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع".
أخي المسلم: كن نصيرًا للحق حيث كان، مناصرًا لأهله في كل مكان، وإلا فلا تطمع في وسام الجهاد، ولا شرف الاستشهاد، والله بصير بالعباد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
أيها المسلمون: لقد كان التحام المسلمين ونصرة كل منهم لأخيه مثالاً فريدًا في تاريخ التلاحم والتواصل والتناصر، سواء على مستوى الأمة أم الأفراد، ولن ينتصر المسلمون إلا إذا تحقق فيهم -بعد صفاء العقيدة- حب المسلم لأخيه كحبه لنفسه، وشُعوره بآلام أخيه كشعوره بما يصيبه هو، وحبُّ نصرته كما يحب أن ينصره هو، والله ينصر من ينصره، وهو القوي العزيز.
وإذا كانت أوضح صور النصرة هي الجهاد بالنفس في سبيل الله، فإنه، ومع وجود المعوقات في طريقه، حيث أصيبت الأمة بالوهن، وهو حب الدنيا وكراهية الموت، مع ذلك، فإن صور النصرة للمسلمين كثيرة، فالذبُّ عن عرض المسلم وسمعته، والرد على أهل الباطل الذين يريدون خدش كرامة المسلمين، والدعاء للمسلمين في ظهر الغيب بالنصر والتوفيق وتسديد الخطا، وتتبع أخبار المسلمين في أنحاء المعمورة، والوقوف على أحوالهم، كل هذه تحقق للإنسان معنى النصرة، وتجعله عضوًا عاملاً صالحًا في جسم الكيان الإسلامي.
وبعد هذا -أيها المسلمون- فإن في أمتنا من المآسي والجراح ما يتطلب من كل مسلم ومسلمة أن يتحلوا بخلق النصرة شعورًا وقولاً وعملاً.
في بلادنا مازالت قضية الموقوفين همًّا يؤلم قلوبنا، ويُجري مدامعنا، وإن أخوة الإسلام تتطلب نصرةً ومناصرةً لهم ولقضيتهم، وذلك بكل وسيلة مباحة هادئة لا تُحدث فوضى ولا إثارة ولا تهييجًا، ومن ذلك التواصل مع من يهمهم الأمر، والاستمرار في طرق الأبواب.
أخْلِقْ بذي الصَّبْرِ أنْ يحظَى بحاجَتِهِ | ومُدْمِنِ القرْعِ للأبوابِ أَنْ يلِجَ |
واليأس قرين الكفر، وموهن العزائم، ومنبت الإحباط.
ما بين طَرْفَةِ عيْنٍ وانتباهتها | يُغَيِّرُ اللهُ من حالٍ إلى حالِ |
والدعاء لهم، وتفعيل قضيتهم، والتواصل مع أهليهم، ومساعدة ذويهم، نوع من النصرة لا يعذر به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.
وعلى أرض العراق، وفي سجون الرافضة الكفرة، جرح من جراحنا، حيث يقبع فئة من خيار شبابنا لا ذنب لهم إلا أنهم غاروا على دينهم، وهبوا لنصرة إخوانهم، والدفاع عن أوطانهم، وإيقاف المد الرافضي الذي إذا تُرك فسيصل يومًا إلى عقر ديارنا، وحينها حدِّثْ عن الكفر والجور والفجور والإجرام، ولا حرج.
أبناؤنا هناك أعدم منهم من أُعْدِم، وعُذِّب مَن عُذِّب، والموت تهديد يصبحهم ويمسيهم، ونحن لا نعلم من أخبارهم إلا إذا وصلت جثامينهم على أرضنا. فأين أخوة الإسلام؟! وأين الشعور بالجسد الواحد والبنيان المرصوص؟!
إذا كانت دول أضعف منا وأقل إمكانات استطاعت أن تنقذ بنيها وتسترجعهم؛ فما بال دولة الحرمين، وما لها من المكان والمكانة، ما بالُها لم تفعل شيئًا لبنيها؟! فلا نكن أزهد الناس بأبنائنا، وأعداء الله يفتدون حتى رفات جنودهم الذين أصبحوا رممًا!
إن السعي في فكاك الأسرى استجابةٌ للأمر النبوي بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وفكوا العاني"، وسيرٌ على منهج سلف الأمة حكامًا وعلماء وعامة، قال ابن العربي -رحمه الله-: "إلا أن يكونوا أسرى ومستضعفين فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن، بأن لا يبقى منا عين تطرف، حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم، كذلك قال مالك وجميع العلماء. فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حَلَّ بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال، والعدة والعدد، والقوة والجلَد". اهـ.
إن واجب النصرة يتطلب أن تتضافر جهود الرعاة والرعية لاستنقاذ البقية من أبنائنا قبل أن نستيقظ يومًا على خبر إبادتهم عن بكرة أبيهم، وما ذلك من الرافضة الحاقدين ببعيد.
وعلى أرض اليمن مجاعة وقوم من إخواننا يتضورون جوعًا، يستنجدون بمن يطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا، ويطعِمون لوجه الله لا يريدون من أحد جزاءً ولا شكورًا، وإنما يخافون من ربهم يومًا عبوسًا قمطريرًا؛ فهل من قلوب حانية وأيد معطاءة تمتد بالطعام والكساء لتؤدي شكر نعم الله، وتستجلب رضاه والمزيد من عطائه؟!
وعلى أرض الشام تدور مجزرة رهيبة، مغولية في همجيتها، صليبية في ضراوتها، رافضية في إدارتها، وضحايا مسلمون ومسلمات، أطفال تحت الأنقاض، وانتهاك للأعراض، ورجال صرعى مجندلون في الشوارع بالعشرات والمئات، ومشردون بالآلاف في دول الجوار، ولا يجد هؤلاء المسلمون ما يدفعون به عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وأوطانهم.
لا؛ بل إنهم يستقبلون عن قريب شتاءً قارسًا، وأجواءً باردة بلا بيوت ولا مأوى ولا أمن ولا دواء، يموتون من شدة البرد والجوع أو الحر والعطش، والقذائف تمزِّق لحومهم، وتهشِّم عظامهم، وتقطع أجسامهم، وهم يبكون ويتوسلون فلا يجدون من يخاف الله من أغنياء المسلمين فيعطيهم ما يكفيهم للدفاع عن أنفسهم. في هذا الوقت تشتد الحاجة للجهاد بالمال.
يوجد على أرضهم الرجال المؤمنون المجاهدون الذي يحبون لقاء العدو حبًّا للقاء الله، وإعلاءً لكلمته، فيحول عدم وجود المال بينهم وبين أداء واجبهم، فيقل بذلك عدد المسلمين ويكثر عدد الكافرين، ويحرم المسلمون من خيرة المجاهدين في الاشتراك معهم في ساحة القتال، ويكونون كمن قال الله فيهم: (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) [التوبة:92].
وأمام هذا الوضع المأساوي للمسلمين حيث يعيش إخوان لكم في العقيدة في ظروف قاسية فالأعداء المجوس جاؤوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، فزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وزلزل المسلمون زلزالاً شديدًا.
والحرب هناك ليست حرب أرض وماء، ولكنها حرب دين وعقيدة، إنها قادسية أخرى؛ لكنها على أرض الشام، إنها تقرير مصير، فإما علو للسنة وأهلها وهزيمة للمجوسية ونارها وعبادها، وإما أن تكون الأخرى، فيا ويل الأمة حينها من ذل وهوان لا يعلم مداه إلا الله!
أمام هذا الوضع نتساءل: مَن للمسلمين؟! من سيغيثهم بعد الله؟! فإلى كل مسلم ومسلمة يستشعر معنى الأخوة الإسلامية، ويشعر بشعور الجسد الواحد، أخاطب فيكم إيمانكم وإسلامكم، أخاطب فيكم غيرتكم الدينية وحميتكم الإسلامية، يا أصحاب القلوب الرحيمة والعواطف الإنسانية: مَن للمسلمين غيركم؟! أذكركم -يا عباد الله- بماضي أسلافكم وما كانوا عليه من البذل في سبيل الله.
يا عباد الله: المال مال الله، فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، وثقوا بأن ما تنفقون مخلوف عليكم؛ وعدًا من الله وهو لا يخلف الميعاد: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39]؛ ووعدًا من رسوله -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى: "ما نقصت صدقة من مال".
يا عباد الله: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، وداووا مرضاكم بالصدقة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا"، فأنفقوا -يا عباد الله- مما رزقكم الله من قبل أن يأتي أحدكم الموت، واعلموا أن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء.
يا أمة محمد: نحن الآن في رغد عيش ونعم عظيمة، فإذا لم ننفق الآن ونتوسع في ذلك ونحن على هذه الحال الطيبة؛ فمتى ننفق؟! أئذا حل الفقر بساحتنا؟! أم إذا نزل الموت بأرواحنا؟!
ليسَ في كلِّ حالة وأوانِ | تتهَيَّا صنائعُ الإحسانِ |
فإذا أمكَنَتْ فبادِرْ إِليْها | حذَرًا من تعَذُّرِ الإمكان |
أيها المسلمون: كم من الأموال تنفق في الأمور المحرمة أو المباحة؟! كم من أنواع الأطعمة تقدم على مائدة كل أسرة؟! وكم يأكلون منها؟! وكم يرمون منها في القمامة كل يوم؟! وكم من الأموال تنفق على الألبسة ولا سيما النسائية التي قد لا تلبس المرأة بعضها إلا مرة واحدة؟! وكم من الأموال تنفق في شراء أثاث المنازل الذي لا يبقى في المنزل سنة كاملة، وهو مبلغ يكفي لنفقات قرية يعيش أهلها عيشة نكدة، وكم من الأموال تنفق في حفلات الزواج؟! وكم من الأموال ينفقها بعض المسلمين في شراء الحرام كالدخان وآلات اللهو؟!
وهكذا؛ إذا تأملت أحوال المسلمين وجدتهم ينفقون أموالهم في المحرمات، أو يسرفون في المباحات، ويبذرون والمبذرون إخوان الشياطين، فيا ليتنا نوفر من كمالياتنا لدعم إخواننا ونصرتهم!!
ما بال الأمة قد شحت ألسنتها بالدعاء، وغلت أيديها عن العطاء، وهم يوقنون أن ما يبذلونه هو دفاع عن أنفسهم وحرماتهم وأوطانهم؟! فوالله! لئن ظفر المجوس والرافضة بما يريدون لنجدن غبها ولو بعد حين.
أفحين اقترب النصر وظهرت أمارات الغلبة لأهل الحق يقل عطاؤنا ويخبو حماسنا؟! فلنتذكر: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد:10].
لَنَا في الشام إخوانٌ كرامٌ | تُجَزُّ رؤوسُهم مثل النعاجِ |
تمالأ ضِدَّهُمْ شرقٌ وغرْبٌ | فباعُوا حقَّهُمْ وسْطَ الحَرَاجِ |
ما أحوجنا في مثل هذه المحنة الى فقه الأولويات! فالإنفاق لنصرة المظلومين أعظم أجرًا من نوافل الحج والعمرة، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، وقدموا لأنفسكم وأقرضوا الله قرضًا حسنًا، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا.
هذا؛ وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة...