المتكبر
كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
والآن؛ آن لنا أن نطَّلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم؛ بل في حياة البشر أجمعين؛ فما كاد إبراهيم يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد الذي أحَبَّهُ حُبًّا شديدًا، وما يكاد صِبا إسماعيل يتفتَّح ويبلغ سنًّا يكون الصبيُّ أحبَّ ما يكون فيها لوالديه، فقد ذهبت مشقته، وأقبلت منفعته، وصار يرافقه في الحياة، وهو الطفل الوحيد الذي جاء على كبر، حتى أتى أمر الله وحكمه، ولا معقب لحكمه -سبحانه-، فرأى ..
أيها الإخوة: يقول الحق -تبارك وتعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111].
وفي حياة الخليل -عليه السلام- عبر عظيمة نقف اليوم على واحدة منها، نروي القصة ونستلهم منها العبرة.
هذا إبراهيم الخليل أبو الحنفاء -عليه السلام- وقد أصبح شيخًا كبيرًا قد تجاوز الثمانين من عمره، وقد انتهى من أمر دعوته لأبيه وقومه بعدم قبولِـهِم لدعوته، وإصرارهم على كفرهم وعبادة الأوثان.
ولم يكتفوا بذلك؛ بل أرادوا أن يقتلوا رسولهم إبراهيم -عليه السلام- أشنع قِتلة، وذلك بإحراقه بالنار، فأراد الله -سبحانه- أن يكونوا هم الأسفلين، ونجّاه من كيدهم أجمعين، ورد اللّه كيدهم في نحورهم، وجعل النار على إبراهيم -عليه السلام- بردًا وسلامًا.
بعد ذلك استدبر إبراهيمُ -عليه السلام- مرحلةً من حياته ليستقبل مرحلةً أخرى، وطوى صفحةً لينشر صفحةً أخرى: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات:99]، أي: مهاجرٌ إليه، قاصدٌ إلى الأرض المباركة أرض الشام، وهو يدلني -سبحانه- إلى ما فيه الخير من أمر ديني ودنياي.
وكان -عليه السلام- قد بلغ من العمر ستًّا وثمانين سنة، وهو مقطوع من الأهل والقرابة، فقد أصروا على كفرهم؛ بل أرادوا الكيد به، ومقطوع من ذريةٍ فلا عَقِبَ له، ومهاجر من أرض وطنه، فهو طريد غريب كبير مقطوع من الأهل والذرية.
لكنه قوي بإيمانه الراسخ، غني بربه العليم القدير الهادي: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات: 99-100]، ارزقني غلامًا صالحًا ينفعني اللّه به في حياتي، وبعد مماتي، فاستجاب الله له وقال: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) [الصافات: 101]، وهو إسماعيل -عليه السلام- بلا شك، رزقه الله إياه في كبره وهرمه، فطالما تطلع إليه وانتظره.
فلما جاءه جاءَ غلامًا ممتازًا يشهد له ربه بأنه حليم، والحلم يتضمن الصبر، وحسن الخلق، وسعة الصدر، والعفو عمن جنى.
أيها الأحبة: والآن؛ آن لنا أن نطَّلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم؛ بل في حياة البشر أجمعين؛ فما كاد إبراهيم يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد الذي أحَبَّهُ حُبًّا شديدًا، وما يكاد صِبا إسماعيل يتفتَّح ويبلغ سنًا يكون الصبيُّ أحبَّ ما يكون فيها لوالديه، فقد ذهبت مشقته، وأقبلت منفعته، وصار يرافقه في الحياة، وهو الطفل الوحيد الذي جاء على كِبَر، حتى أتى أمر الله وحكمه، ولا معقب لحكمه -سبحانه-، فرأى في منامه أنه يذبحه! ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية؛ ذلك أن رؤيا الأنبياء حق.
أيها الإخوة: ماذا ترون أن يفعل إبراهيم؟! هل يراجع ربه؟! هل ينتظر أمرًا صريحًا؟! هل يستجلي الحكمة والسبب؟! لا؛ لم يكن من ذلك شيء! إنه لم يتردد ولم يخالجه إلا شعور الطاعة، ولم يخطر له إلا خاطر التسليم والانقياد لأمر الله، نعم! مع أن هذا التوجيه إشارة، مجرد إشارة، وليست وحيًا صريحًا، ولا أمرًا مباشرًا؛ ولكنها إشارة من ربه، وهذا عند الخليل يكفي، هذا يكفي ليلبي ويستجيب دون أن يعترض، ودون أن يسأل ربه: لماذا يا ربي أمرتني أن أذبح ابني الوحيد؟!
نعم؛ لقد لبى الخليل بلا انزعاج ولا جزع، لبى باستسلام تام وعدم اضطراب، لبى بتمام القبول والرضا والطمأنينة والهدوء.
ويبدو هذا في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيبين، يقول الحقُّ قاصًّا ذلك الموقف الرهيب، والابتلاء العظيم: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) [الصافات:102]، يعرض على ابنه الأمر بكلمات المالك لأعصابه، المطمئن للأمر الذي يواجهه، الواثق بأنه يؤدي واجبه.
وهي -في الوقت ذاته- كلمات المؤمن الممتثل للأمر، مع أنه أمر شاق غاية المشقة؛ فكيف لأب في تلك الحال التي عرفنا أن يذبح ابنه بيده، ويتلقى هذا الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض، ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه؟!
يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر، فالأمر في حسِّه هكذا، ربُّه يريد؛ فليكن ما يريد! على العين والرأس! وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلامًا، لا قهرًا واضطرارًا؛ لينال أجر الطاعة، وليسلّم ويتذوق حلاوة التسليم! أجل؛ أراد لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يراه أبقى من الحياة وأقنى.
أيها الإخوة: ماذا كان رأي الابن الذي يعرض عليه أبوه الذبح؟! إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبلُ أبوه؛ فيتلقى الأمر بكل رضًا وتسليم ويقين: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات:102].
(يَا أَبَتِ)، في مودة وقربى، فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده؛ بل ولم يفقده أدبه ومودته، (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)! فكما أن الأب اعتبر الإشارة أمرًا فكذلك يفعل الابن، يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب، وطّن نفسه على الصبر، وقرن ذلك بمشيئة اللّه -تعالى-، لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله -تعالى-، وأرجع الفضل كله لله، فهو الذي أعانه على ما يُطْلَبُ إليه، وصبَّره على ما يراد به: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).
أيها الإخوة: يا للأدب مع الله! ويا لروعة الإيمان! ويا لنبل الطاعة! ويالعظمة التسليم.
أحبتي: تلك الحوارات تمّت قبل خطوات التنفيذ، فهل يستمر مشهد التنفيذ؟! يقول الباري -جل في علاه-: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات:103]، وهنا يرتفع مرة أخرى نبل الطاعة، وعظمة الإيمان، وطمأنينة الرضا! ها هو إبراهيم يمضي فيكب ابنه على جبينه استعدادًا لذبحه، والغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعًا، وقد وصل الأمر إلى أن يكون عيانًا! نعم! نعم! لقد أسلما! فهذا هو الإسلام في حقيقته، ثقة وطاعة وطمأنينة ورضًا وتسليم، ثم تنفيذ، وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم، والرضا الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل.
فصلوات ربي عليهما، وعلى نبينا الهادي الأمين.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: هنا حقّق إبراهيم وإسماعيل الأمر والتكليف، ولم يكن باقيًا إلا أن يُذبَح إسماعيلُ ويسيل دمه وتزهق روحه، لقد تم الابتلاء، ووقع الامتحان، وظهرت نتائجه وتحققت غاياته، ولم يعد إلا الألم البدني، والدم المسفوح، والجسد الذبيح، هنا يأتي النداء الرباني في تلك الحال المزعجة، والأمر المدهش: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) [الصافات: 104-105]. أي: قد فعلت ما أُمِرْتَ به، فإنك وطَّنت نفسك على ذلك، وفعلت كل سبب، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلق إسماعيل! (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات:105] في عبادتنا، المقدِّمين لرضانا على شهوات أنفسهم.
(إِنَّ هَذَا) أي الذي امتحنا به إبراهيم -عليه السلام- (لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) [الصافات:106]، أي: الواضح، الذي تبين به صفاء إبراهيم، وكمال محبته لربه وخلته، فإن إسماعيل -عليه السلام- لما وهبه الله لإبراهيم، أحبه حبًّا شديدًا، وهو خليل الرحمن، والخلة أعلى أنواع المحبة، وهو منصب لا يقبل المشاركة، ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب، فلما تعلّقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل، أراد -تعالى- أن يصفي وُدَّه، ويختبر خلته، فأمره أن يذبح مَن زاحم حبّه حب ربه، فلما قدّم حب الله، وآثره على هواه، وعزم على ذبحه، وزال ما في القلب من المزاحم، بقي الذبح بلا فائدة، فلهذا قال: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات: 106-107]، أي: صار بدَلَه ذبحٌ مِن الغنم عظيمٌ، ذبحه إبراهيم، فكان عظيمًا من جهة أنه كان فداءً لإسماعيل، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قربانًا وسُنَّةً إلى يوم القيامة.
(وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الصافات: 108- 109]، أي: وأبقينا عليه ثناءً صادقًا في الآخرين، كما كان في الأولين، فكل وقت بعد إبراهيم -عليه السلام- فإنه فيه محبوب معظم مثني عليه.
(سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، أي: تحية عليه: (كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات: 110]، في عبادة الله، ومعاملة خلقه، أن نفرج عنهم الشدائد، ونجعل لهم العاقبة، والثناء الحسن.
(إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) [الصافات:111-113]، ولم يُذبَح إسماعيل، ونزل الأمين بالفداء بالذبح العظيم، والبشارة بولد آخر لإبراهيم من زوجته العاقر العجوز؛ ليعلموا جميعًا أن الله على كل شيء قدير، وأنه إذا أراد أمرًا فإنما يقول له كن فيكون.