العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن علي النهابي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أهل السنة والجماعة |
إننا نعيش اليوم فتنة وحالة حرب قائمة لا يعلم إلا الله مداها وآثارها، أيقظتها أيدٍ خبيثة ماكرة ملعونة، وأجَّجها سماسرة قذرين، سلكوا فيها أمهر الأساليب، فقد وجد هؤلاء في أمة الإسلام ثغرات وتفرق واختلاف، استطاعوا من خلالها أن ينفذوا إلى وسطهم، ويستبيحوا بيضتهم، وجدوا إيماناً فيه دخن، وقلوباً فيها عطن، وأخلاقاً فيها ..
الحمد لله الكريم الحليم الوهاب، نصر عبده، وأعز عبده، وهزم الأحزاب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، أحمده -سبحانه- على ما منح وأعطى بغير مَنٍّ ولا حساب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عليه توكلت وإليه متاب، شهادةً أُرغم بها أنف كلِّ جاحد مرتاب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، جاء بالحق وفصل الخطاب، صلى الله عليه وآله وأصحابه أولي العزائم والفضائل والآداب، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان ما أفل نجم وطلع شهاب، وسلم تسليماً.
أما بعد: أيها الناس، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد:28].
اتقوا الله -عباد الله- فإن تقواه نعم العدة ليوم المعاد! وتمسكوا بكتاب ربكم، وسنة نبيكم -صلى لله عليه وسلم-، فإنهما لأعظم العتاد، فالتمسك في دينه في آخر الزمان له أجر خمسين من الصحابة، وهو كالقابض على الجمر؛ لقلة الأعوان، وكثرة الأضداد.
أيها المسلمون: لا يخفى عليكم ما يمرُّ به العالم قاطبة، وما تمر به أمتكم الإسلامية من مجريات الأحداث، ومن تحولات وتقلبات، وما يتوالى عليها من مصائب وتغيرات، أنتم في زمن أخذت أمواجه تتلاطم، وظلماته تتراكم، تواجه أمتكم اليوم فتناً عارمة، وأخطاراً قائمة، تتشكل بألوان وشرور، وفتن وزور، فتن تترى، ومصائب تتوالى، وتغيرات تأخذ الناس إلى الورى في عقائدهم وأفكارهم وأخلاقهم وأمنهم -عياذاً بالله!- فكثيراً ما تتعاظم فتنة تظهر، ولم تلبث أن تصغُر؛ لعظم ما تلاها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
إنَّ الفتن -وقانا الله والمسلمين شرها- لَذات خطر عظيم، وشر مستطير، تهلك الحرث والنسل، وتأتي على الأخضر واليابس، تذل الأعزاء، وتفقر الأغنياء، وتحير العقلاء، تفرق الأسر، وتمزق العوائل، وترمّل النساء، وتيتم الأطفال، وتسيل الدماء، وتنزل الويلات، وتحل النكبات بمجتمع تنسى فيه: (رحماك يا رب).
إننا نعيش اليوم فتنة وحالة حرب قائمة لا يعلم إلا الله مداها وآثارها، أيقظتها أيدٍ خبيثة ماكرة ملعونة، وأجَّجها سماسرة قذرين، سلكوا فيها أمهر الأساليب، فقد وجد هؤلاء في أمة الإسلام ثغرات وتفرق واختلاف، استطاعوا من خلالها أن ينفذوا إلى وسطهم، ويستبيحوا بيضتهم، وجدوا إيماناً فيه دخن، وقلوباً فيها عطن، وأخلاقاً فيها عفن، وبناءً منهارا، وبنية ليس فيها قرار، فنزع اللهُ من قلوب أعدائه المهابة، وحلت فيهم الكآبة، فأصبحت اللعبة في يد أعدائهم، والكرة في مراميهم.
إن تسليط الأعداء على أمة الإسلام نتيجةً لما وقعت فيه الأمر الإسلامية من أخطاء وانحرافات، وبدع وخرافات، ورذائل وشهوات، وبُعد عن منهج الله، واتباع لمنهج الشيطان، فقد قال سبحانه: (... فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63].
عباد الله: لا يتأتى النصر في أمة نسوا أوامر الله ونواهيه، واجترؤوا على مساخطه ومعاصيه، يقول -سبحانه-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر:19].
لا يتأتى النصر في أمة جعلت القوانين الوضعية منهجاً، والضلال مخرجاً، والدنيا معرجاً، فقد قال سبحانه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [آل عمران:165].
عباد الله: وإذا كان الأمر كذلك فليعمل المسلمون اليوم على وحدة الصف فيما بينهم، واجتماع الكلمة، وعلى الجد والعزم على العمل، بما فيه نصرة الدين والقضاء على عوامل الفتن وأسبابها، وعدم التواني والتراخي في إخماد الفتن.
إنَّ التقاءَ الكلمة في الأمَّة المسلمة، والحرص على السير على المنهج الإلهي، وسُنَّةِ النبيِّ -صلى لله عليه وسلم- لَهُوَ الكفيلُ بأن تعود للأمة مكانتها، وتتخلَّص ممَّا وقعت فيه من الشرور والآثام، والفتن والآلام، ولقد قال -صلى لله عليه وسلم-: "تركتُ فيكم ما إنْ تمسَّكتُم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتابُ الله، وسُنَّتي".
فالالتفاف حول الكتاب والسنة، وعلماء الأمة مطلب رئيس في هذه الحالة الراهنة، التي نعيش فيها بين ترقب وتخوف مما غُيِّب في الأيام؛ لننظر -عباد الله- إلى أخطائنا، وما وقعنا فيه من البعد عن منهج الله، ونصحح مفاهيمنا في العقيدة، لقد آن لنا أن نأخذ اللعبة من غيرنا، ونشتغل بأخطائنا دون أن نشتغل بمتابعة أخطاء غيرنا، نحن في وقت أحوج ما نكون فيه إلى الاهتمام بإصلاح عيوبنا، وتلافي أخطائنا، ودرء الشرور والأخطار، والفتن المحدقة بنا.
حرامٌ علينا -عباد الله- أن نرى بوادر الشر تندلع فيشتد استفحالها ما بين آونة وأخرى، ثم نبقى على المغالطة لأنفسنا، فلا نتناصح بيننا، ولا نتآمر بالمعروف ونتناهى عن المنكر.
علينا أن نجتهد في إصلاح أنفسنا وأحوالنا، وأن نكوِّن مجتمعاً صالحاً مثالياً، وسياجاً منيعاً يكون ورداً وحصناً بإذن الله من الشرور والفتن، حاربوا -عباد الله- هذه الفتن بالحذر من أسبابها، وعالجوها بسد منافذها وأبوابها، حاربوها بغزو القلوب بالأعمال الصالحة، وبتطبيق تعاليم الإسلام الغرَّاء، ومُثُله العليا بصدق وإخلاص تظهر آثاره في كل مجال من مجالاتكم، فهو دواء ما أُصبنا به من داءٍ.
ولقد قال رسول الله -صلى لله عليه وسلم- موجهاً الأمة إلى ما يجب أن يكونوا عليه عند اندلاع الفتن، وحصول المحن فقد قام -صلى لله عليه وسلم- خطيباً فقال: "إنه لم يكن نبيٌّ قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على ما يَعْلَمُه خيراً لهم، وينذرهم ما يعلمه شراً لهم. وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وإن آخرهم يصيبهم بلاء وأمورٌ تنكرونها، ثم تجيء فتن يرقق بعضها بعضاً، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، فمن سرَّه أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركُه موتَتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يأتوا إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يمينه وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" إلى آخر الحديث الذي رواه ابن ماجة ومسلم.
فاعملوا -عباد الله- على النجاة بأنفسكم وأهليكم ومجتمعكم من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، واسألوا الله أن يقيكم شرها، ويدرأ عنكم خطرها.
وفقني الله وإياكم إلى العمل بما يرضيه، وجنبنا سخطه ومناهيه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.