المتكبر
كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | صلاة العيدين |
إنَّ العيدَ الذي نعيشه اليوم بفضل الله وننعم فيه بشتى نِعَمِهِ علينا يؤكد على ضرورة شكره -جل وعلا-؛ وشكرُه يكون بطاعته، طاعته بعبادته، وبترك معصيته؛ طاعته بالقول الطيب، والعمل الطيب، والرحمة بعباده، والسماحة والصفح والبعد عن الذنوب ومواطن الفتن؛ طاعته بالحفاظ على صلاة الفجر في وقتها، طاعته فيما نقول ونشاهد ونسمع، طاعته فيما ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فالله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
هذا اليوم المبارك، وهذا الصباح المشرق، يوم الحج الأكبر، يوم العاشر من ذي الحجة، يوم النحر العظيم، الذي يذكّرنا بشكر نبي الله إبراهيم ربه على إتمام نعمته عليه بالفداء: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات:107-111].
فالحجاج قد لبُّوا دعوة إبراهيم بالحج؛ شكرًا لله، وخضوعًا له، وتعظيمًا لشعائره: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج:26-27].
يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لما فرغ إبراهيم -عليه السلام- من بناء البيت قيل له: أذِّنْ في الناس بالحج، قال: ربي: وما يبلغ صوتي؟! قال: أذِّن؛ وعليَّ البلاغ، قال: فنادى إبراهيم: يا أيها الناس: كُتب عليكم الحج إلى البيت العتيق؛ فسمعه ما بين السماء والأرض. أفلا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبّون؟!".
إنَّ الحج شكرٌ لله، والصلاة شكر لله، والصيام شكر لله، والزكاة شكرٌ لله، وغيرها من الطاعات والقربات محاولات بشرية متواضعة صادقة نعبّر بها عن شيء من شكرنا لخالقنا ورازقنا وهادينا وكالئنا -جل وعلا-، مع أننا لا نستشعر إلا قليلاً من نعمه: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) [النحل:18].
بل إنَّ الملائكة الذين يعبُدون الله على الدوام بلا انقطاع يعترفون بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته، ففي صحيح الترغيب عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعته، فتقول الملائكة: يا رب: من يزن هذا؟! فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي، فيقولون: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك".
بل إن شكرنا لله نعمة في حد ذاتها؛ لأنه هو الذي هدانا إلى شكره، ووفقنا إليه، ورتَّب لنا على شكره الأجر؛ فالشكر نفسه نعمة، ولولا توفيقه إيانا ما أدينا الشكر، كما قال -تعالى- على لسان نبيه شعيب: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ) [هود:88]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابتُه وهم ينقلون تراب الخندق:
"والله لولا الله ما اهتدينا | ولا تصدَّقْنا ولا صلينا" |
فمهما شكرنا اللهَ فلن نقوى على شكره؛ لأن عبادتنا نعمة، وشكرنا لله أصلاً نعمة تستوجب الشكر.
إذا كانَ شُكْرِي نِعْمَةَ الله نِعْمَةً | عليَّ له في مثلها يَجِبُ الشُّكْرُ |
فكيف بلوغُ الشُّكْرِ إلا بِفَضْلِهِ | وإن طالتِ الأيامُ واتَّصَل العمرُ |
إذا مس بالسراءِ عمَّ سرورُها | وإن مـسَّ بالضراءِ أعْقَبَهَا الأجر |
وما منهما إلاّ لـَهُ فيه مِنّـةٌ | تضيـقُ بها الأوهامُ والبرُّ والبحر |
لَكَ الْحَمْدُ مَوْلانَا عَلَى كُلِّ نِعْمَةٍ | ومِنْ جُمْلَةِ النَّعْمَاءِ قَوْلي لك الحمْدُ |
فـلا حَـمْدَ إلا أنْ تَمُنَّ بِنِعْمَةٍ | تعالَيْتَ لا يَقْوَى عَلَى حَمْدِكَ الْعَبْدُ |
واللهِ إِنِّي لأَتَعَجَّب مِن حِلْمِ الله على عباده! الإنسانُ إذا أكرم إنسانًا أو أسدى إليه خدمة واحدة ثم ردها عليه ذاك بالتمرد والإساءة تفجر منه غيظًا، واغتمَّ وامتلأ قهرًا، كل هذا بسبب جحد نعمة واحدة؛ ثم عزم على ألا يكرم ذاك اللئيم ناكر الجميل، بسبب ماذا؟! بسبب جحد نعمةٍ واحدةٍ فقط.
والله العليم الحليم الكريم الرؤوف الرحيم يفيض على عباده من نِعَمِهِ العظيمة التي لا تنقطع ليل نهار، بلا حصر، ولو شاء قطعها في لحظةٍ واحدةٍ، كل هذا وهم يقابلون تلك النعم بكل برود وجحود، فيحلم ويجود، ويمهلهم من جديد: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا) [فاطر:45].
سبحانك ربي ما أحلمك! سبحانك ربي ما أعظمك! سبحانك ربي ما أرحمك! ارحم ضعفنا، وتجاوز عن أخطائنا.
معاشر المسلمين: في موسم الشكرِ نتذكر فنقول: هل لنا أن نشكر الله؟! إذا كان الجواب: نعم؛ فالشكر مستويات ثلاثة، المستوى الأول: أن تعرف نعم الله، أن تحس بها، أن تفتح عينيك عليها، أن تنقل قلبك من الغفلة عن نعم الله إلى العيش في أكنافها، وتذوقها؛ وأن تحس بنعمة الهداية، ولو شاء لأضلك؛ أن تحس بنعمة الصحة، ولو شاء أمرضك؛ أن تحس بنعمة الأمن، ولو شاء أفزعك؛ أن تحس بنعمة السكن؛ ولو شاء شرّدك؛ أن تحس بنعمة المال، ولو شاء أفقرك؛ أن تحسّ بنعمة الطعام، ولو شاء أجاعك؛ أن تحس بنعمة الشراب، ولو شاء أظمأك... وغيرها من النعم، ألوان وألوان تفيض عليك من حيث لا تعلم.
لقد أصبحت تلك النعم أمورًا مألوفة تصاحبنا في كل لحظة من لحظات حياتنا، لا نحس بقيمتها ما دامت حاضرة بيننا ميسورة لا مشقة فيها ولا نصب، فإذا فقدناها أحسسنا بها، ولربما أحسسنا بها إذا رأينا من حُرمها.
عن أنسٍ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أوى إلى فراشه قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكسانا وآوانا، وكم مِمَّنْ لا كافيَ له ولا مأوي!"، فعلاً؛ لو نظرنا وتأملنا حولنا جيدًا في أرجاء الأرض فسنجد كثيرًا ممن ليس في كفاية ولا غناء ولا مأوى؛ فلك الحمد ربنا، ولك الشكر على ما أعطيتنا.
المستوى الثاني من مستويات شكر الله بعد التعرف على نعمه: أن يمتلئ القلب امتنانًا لله تعالى، وأن تستشعر في أركانك بأنه وحده -جل وعلا- صاحب الفضل والإحسان عليك، ولا تملك إلا أن تلهج بحمده: يا رب: لك الحمد، لك الحمد ربي، لك الحمد في كل حين وحال.
معاشر المسلمين: المستوى الثالث والأكبر من مستويات شكر الله بعد امتنان القلب ولهج اللسان بالحمد أن تقابل هذه النعم بطلب رضا المنعم -جل وعلا-، وقمة رضاه -سبحانه- يكون بطاعاته وترك معصيته.
هذا هو كمالُ الشكرِ، ألا ترونه بعد أن ذكر منته على داود، وذكر نعمه عليه وعلى آله في الدنيا، ماذا أمرهم به؟! قال: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13]، قال ثابت البناني: "كان داود -عليه السلام- قد جزَّأَ على أهله وولده ونسائه الصلاة، فكان لا تأتي عليهم ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي".
إن الغالب على الناس أنهم إنما يعملون الطاعة خوفًا من عقوبته -جل وعلا- وطلبًا لمغفرته، ولا بأس، ولكن الله -تعالى- بيَّنَ أن عمل الطاعة يكون أيضًا لسبب آخر أخص وأكثر حميمية وودًّا، إنها الطاعة من أجل الشكر؛ (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) [سبأ:13]، الشكر والاعتراف بالنعمة، ومِن ثَمَّ مقابلة النعمة بالطاعة الخالصة حبًّا للمنعم، واعترافًا بمنته، فمَن أكثر من طاعاته مستحضرًا شكر ربه سمي شكورًا، ويا له من وصف عزيز كريم قَلَّ من يتصف به! ولهذا قال -تعالى-: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13].
فحق على كل واحد منا أن يتأمل في خاصة نفسه، وأن يتفكر في نعم الله عليه: القدرة والسمع والبصر والعقل؛ ثم يحدّث نفسه ويقول: هل شكرت الله على هذه النعم؟! وهل شكرته بهذه النعم؟! هل شكرته بهذه الحواس التي وهبني إياها، ولو شاء حرمني منها؟!
فشُكْرُه -تعالى- بهذه النعم غايةٌ مطلوبةٌ في القرآن: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78]؛ تشكرونه بهذه الحواس.
إنَّ العيدَ الذي نعيشه اليوم بفضل الله وننعم فيه بشتى نِعَمِهِ علينا يؤكد على ضرورة شكره -جل وعلا-؛ وشكرُه يكون بطاعته، طاعته بعبادته، وبترك معصيته؛ طاعته بالقول الطيب، والعمل الطيب، والرحمة بعباده، والسماحة والصفح والبعد عن الذنوب ومواطن الفتن؛ طاعته بالحفاظ على صلاة الفجر في وقتها، طاعته فيما نقول ونشاهد ونسمع، طاعته فيما نأكل ونلبس، ونبشر بعد ذلك بالمزيد: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
اللهم وفقنا لشكرك وذكرك؛ إنك أنت السميع العليم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
لقد جاء العيد وما زال جرح أحبتنا في سوريا ينزف، أسأل الله تعالى أن يحقن دماءهم، وأن يصلح حالهم.
أيها الإخوة: ينبغي أن نعي أن الفرج قد يتأخر لحكمة يعلمها الله -تعالى-، ولقد عاتب النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض الصحابة في مكة لاستعجالهم نصر الله، وهو -سبحانه- الذي يقول: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214].
فهَلاكُ الظالمين له موعده الذي حدّده الله بحكمته، موعد لا يتقدم ولا يتأخر، قال -تعالى-: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) [الكهف:59].
صحّ في البخاري من حديث أبي موسى -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله لَيُمْلي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"، قال: ثم قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102].
هناك طغمة شريرة سفّاحة ابتلي بها أهل الشام لعشرات الأعوام، ولهذه الطغمة النصيرية الرافضية أعوان كثيرون؛ بعضهم ظاهر وقح، والآخر يبطن تأييده بكل خبث، وما صمت العالم على المآسي اليومية في سوريا دون عمل حقيقي جاد مع القدرة على ذلك إلا دليل على ذلك التأييد العالمي الظالم، والفرج يأتي من عند ربنا -جل وعلا-: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف:21].
فأذكِّر نفسي وإياكم أننا حين نكبّر الله في هذه الأيام المباركات نستشعر عظمته مع التكبير، وأنه أكبر من أولئك الطغاة، ومن أعوانهم، ومن كل شيء.
أسأل الله تعالى أن يبارك لنا ولكم في العيد، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.