المتعالي
كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...
العربية
المؤلف | سلطان بن حمد العويد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أهل السنة والجماعة |
يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-... في منهاج السنة: "ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد أعظم من الفساد الذي أزالته، فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا".
الحمد لله القائل في كتابه العزيز: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) [الأنفال:25]؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل النجاة لمن تمسك بأربع خصال، فقال -جل وعلا-: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر:1-2]، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، هذه واحدة، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، هذه الثانية، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:3]، وهاتان الخصلتان الثالثة والرابعة: التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، حذّر أمته من الفتن -عليه الصلاة والسلام- فقال: "بادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا" رواه مسلم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فيا عباد الله: إن من توفيق الله لعبده المؤمن أن يسلّمه من الفتن، فلا يخوض فيها لا بلسانه ولا بيده، فقد جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ تشرف لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيعذْ بِهِ" رواه البخاري ومسلم.
أيها الإخوة المؤمنون: ما أسعد من جنَّبه الله الفتن! قال -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ" رواه أبو داود.
أيها الإخوة الكرام: يقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- الذي أفنى حياته في تعلم العلم وتعليمه، وأفنى حياته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأفنى حياته في الجهاد في سبيل الله، يقول -رحمه الله تعالى-: "وذلك أن الفتن إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت، فأما إذا أقبلت فإنها تزين ويظن أن فيها خيراً".
وهذا الكلام -أيها الإخوة- كلام إنسان قد اطلع على نصوص الكتاب والسنة والآثار، يقول "فأما إذا أقبلت فإنها تزين ويظن أن فيها خيراً، فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء صار ذلك مبينا لهم مضرتها... كما أنشد بعضهم:
أيها الإخوة المؤمنون: إن من الفتن التي لا ينتبه لها كثير من الناس فتنة ترك الصبر الذي أمرت الشريعة به، لا سيما في آخر الزمان، كثير من الناس يريد أن يصلح كل شيء في ساعة، يريد أن يغير المنكر في أسبوع أو شهر!.
أيها الإخوة الكرام: إنه إذا كثرت الفتن وتنافس الناس على الدنيا وظهرت الأثرة، الاستئثار بالمال، الاستئثار بالدنيا، فالصبر -أيها الإخوة- على مثل هذه الأحوال مطلب شرعي، وهو صعب على كثير من الناس، لا سيما وقد أتيح لكل واحد في هذا الزمان أن يقول ما يشاء دون النظر إلى علمه وإلى عقله وإلى مكانته، وازدادت الفتنة بسهولة الحصول على ما يسمى بوسيلة التواصل الحديثة كالتغريدية والحسابات الالكترونية، وبعض الناس يسعى بأن يكون له متابعون، ويقول كلاما لا يدري صوابه من خطئه؛ من أجل أن يعجب به بعض الرعاع، صار كل واحد يغرد حسب رأيه، والله المستعان!.
وقد يقع المسلم في شيء من الفتنة وهو لا يدري، لا سيما إن كان قليل العلم، ووجد له أتباعا ومشجعين، نسأل الله العافية والسلامة.
أيها الإخوة المؤمنون: الصبر على تغيير الواقع وإصلاح الواقع، الصبر على ذلك شجاعة وعقل، وليس جبنا وتثبيطا وخورا كما يصوره بعض السفهاء، أجواء الثورات طالت كثيرا من الناس، في ظل هذه الأجواء صار كل حق لا ينسجم مع هذه الأجواء يتهيب صاحبه من ذكره فضلا عن الصدع به، لماذا؟.
يا أخي المسلم يا طالب العلم، أيها العالم، أيها القاضي، أيها الداعية إلى الله: اصدع بالحق لترضي ربك ولا عليك من أحد، بعض الناس يتهيب من ردود أفعال الناس، إنهم سيغضبون عليه ويقولون عنه إنه كذا وكذا.
... من اطلع على النصوص الشرعية وجعلها نبراساً له، بمعنى أن يدرس ويتعلم ثم يعتقد؛ لأن بعض الناس يعتقد ثم يستدل، هذا خطأ، تعلم وادرس واقرأ الأدلة ثم اعتقد، هذا هو الصواب.
من درس النصوص الشرعية والآثار فإنه سيجد المخرج بإذن الله، وسيجد الموقف واضحا عند حدوث الفتن واختلاط الأمور، ومن قرأ التاريخ وتدبر ما فيه وتأمل أحوال الناس فسيجد أن من أصعب الأمور على النفوس أن تصبر إذا أُمِرَت بالصبر، نعم أيها الإخوة، الشريعة أَمَرت بالصبر في أحوال الفتن وفترة الهرج والشبهات، ومن منا يطيق ذلك؟ ما أحوج شباب أهل السنة أن يتعلموا الصبر ويتعلموا المصابرة! ويقرؤوا سير الأولين؛ حتى تشيع ثقافة الصبر، نعم؛ كما هناك ثقافة ثورات نريد أيضا أن تكون هناك ثقافة صبر.
هذا الأمر -أيها الإخوة- مطلب شرعي، الذي ينتقد مثل هذه الأشياء انظروا إلى علمه، هل هو من أهل العلم؟ إن من الفتن التي لا يتفطن لها إلا أهل العلم والبصيرة، فتنة إهمال فريضة الصبر، والظن بأن الصبر يعني الخنوع والذلة والتنازل عن الحرية والكرامة...
من أين أتى بهذا الكلام؟ الرسول -عليه الصلاة والسلام- ومعه أصحابه قُيدت حريتهم في بعض الأوقات، ألم تقرؤوا ما حصل في شعب عامر؟ حوصروا سنتين، صلى الله على نبينا محمد ورضي الله عن أصحابه، كانوا يأكلون الجلود اليابسة، هل هذه ذلة؟ لا والله! إنهم أعزة، والله -عز وجل- يقول: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8]، ويقول -جل وعلا-: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ)، متى؟ بشرط (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:139].
نعم أيها الإخوة: الصبر لا يعني الخنوع، ولا يعني التنازل عن الكرامة، والسيرة مليئة بأحداث ظاهرها إذا نظر إليها من ليس بعالم قد يقول إن هذا تنازل وهذا خنوع، نسأل الله العافية والسلامة.
وكل الذين سجل التاريخ سيرهم لما تركوا الصبر والتدرج في الإصلاح والصبر على ذلك آلت أحوالهم إلى أمور ليست في صالح المسلمين، يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-، وهناك نقول كثيرة عن شيخ الإسلام اخترت قليلاً منها وهي مليئة بالعلم والحكمة، يقول -رحمه الله- في منهاج السنة: "ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد أعظم من الفساد الذي أزالته، فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا".
ويقول -رحمه الله تعالى-: "وكثير ممن خرج على ولاة الأمور أو أكثرهم إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه"، الظاهر في بعض الأحيان أنها من أجل الدين ومن أجل الشريعة، وفي الحقيقة الخروج والمظاهرات في الغالب من أجل المال، من أجل لقمة العيش.
يقول: "مع استئثارهم عليه، ولم يصبروا على الاستئثار، ثم إنه يكون لولي الأمر ذنوب أخرى"، نعم يكون السلطان أو ولي الأمر عنده معاصٍ وذنوب، فيقول شيخ الإسلام، "فيبقى بغضه لاستئثاره يعظم تلك السيئات"، فإذا أرادوا أن يتحدثوا مثلا لا يتحدثون عن الاستئثار، يتحدثون عن السيئات التي بسبب بغضه زادت وزادت وضُوعِف الكلام عنها، هذه قضية مضطردة في كل الأحوال.
يقول -شيخ الإسلام-: "ويبقى المقاتل له ظانا أنه يقاتله لئلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، ومن أعظم ما حركه عليه طلب غرضه إما ولاية وإما مال".
أيها الإخوة: هذا هو الواقع، فلنترك العواطف، هذا هو الواقع، وقال -رحمه الله تعالى- في منهاج السنة: "وبالجملة؛ العادة المعروفة أن الخروج على ولاة الأمور يكون لطلب ما في أيديهم من المال والإمارة، وهذا قتال على الدنيا"، ليس قتالا لتكون كلمة الله هي العليا!.
يقول حذيفة -رضي الله عنه- الصحابي الجليل الذي كان صاحب سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِيَّاكُمْ وَالْفِتَنَ! لا يَشْخَصْ لَهَا أَحَدٌ، وَاللَّهِ مَا شَخَصَ فِيهَا أَحَدٌ إِلا نَسَفَتْهُ كَمَا يَنْسِفُ السَّيْلُ الدِّمَنَ، إِنَّهَا -يعني الفتن- مُشْبِهَةٌ -مختلطة، متشابهة- مُقْبِلَةٌ، حَتَّى يَقُولَ الْجَاهِلُ: هَذِهِ تُشَبِّهُ مُقْبِلَةً وَتُبَيِّنُ مُدْبِرَةً، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَاجثموا فِي بُيُوتِكُمْ، وَكَسِّرُوا سُيُوفَكُمْ، وَقَطِّعُوا أوتَادَكُمْ".
أيها الإخوة: هذه بعض النقول والنصوص في هذا الباب، والمسألة -أيها الإخوة- تحتاج إلى علم وإلى تأنٍّ وإلى رَوِيَّةٍ؛ ولذلك جعل الله -تبارك وتعالى- العالِمين بالشريعة هم المرجع في الفتن، فقال -سبحانه وتعالى-: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83]
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيذنا وإياكم من مضلات الفتن، إنه سميع قريب، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على دربهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: إن هذا الأصل المقرر عند أهل السنة لا يعني أن يوصف الباطل بأنه حق، ولا يعني أن يترك الناس فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا والله! بل يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولكن بالضوابط الشرعية، وحسب الطريقة النبوية والسنة المتبعة عن السلف الصالح.
أيها الإخوة الكرام: أي فساد يوجد في أي مكان المسلم المؤمن الذي يخاف الله يسعى في إصلاحه، ولكن الله -عز وجل- يقول: (وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) [البقرة:189]، فيجب على المؤمن أن يسلك الطريق الصحيح الذي رسمته لنا شريعة الله، وهي شريعة منزلة، شريعة مطهرة.
الله -سبحانه وتعالى- يعلم مآلات الأمور ونحن لا نعلم، فلم يفرض علينا شيئا إلا لمصلحتنا، فلما فرض الله -جل وعلا- الصبر على عباده هذا لمصلحتهم، والتاريخ مليء -كما سمعتم- بحوادث كثيرة تدل على أن الاستعجال وعدم الصبر نتيجته مرارات وويلات على المسلمين.
هذا -أيها الإخوة- نقوله حتى لا يفهم أحد أن المقصود أن يترك الناس ويترك المسلمون الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لا، ولكن لكل مقام مقال، ويجب على كل أحد أن يكون عنده من العلم الشرعي ما يؤهله لمعرفة الطرق المناسبة للإصلاح، والطرق المناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى [لا يُنتج] الأثر السيئ وهو لا يدري.
يقول شيخ الإسلام الثاني وهو ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "إعلام الموقعين"، يقول: "مَن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل"، يعني ترك الصبر في التغيير، "وعدم الصبر على منكر فتولد منه ما هو أكبر منه"، هذا كلام علماء اتفقت الأمة على إمامتهم.
ويقول شيخ الإسلام في كتابه الماتع "الاستقامة": "ولا تقع الفتنة إلا مِن ترْك ما أمر الله به، فهو -سبحانه- أمر بالحق وأمر بالصبر، فالفتنة إما بترك الحق وإما من ترك الصبر".
أيها الإخوة المؤمنون: ما معنى ترك الصبر؟ ... هو ما يتوهمه بعض الناس من أن إصلاح أي فساد لا يمكن إلا بالثورات وبتغيير الأنظمة السياسية دون النظر إلى أحكام الشريعة، ودون النظر إلى المصالح والمفاسد، التاريخ مليء بالأحداث التي تدل على أن الذين سلكوا مسلك التغيير بالقوة والمواجهة قد جرّوا على الأمة ويلات وفتنا لا طاقة لها بها، الأمة لا تطيق ذلك، وهذا أمر لم يأمر الله به ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
هذا أمر مخالف للشرع أصلا؛ فكيف إذا دل الواقع على أنه فساد في فساد؟.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يهدي ضال المسلمين، وأن يهدينا جميعا لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.الحربُ أوّل ما تكونُ فتيةً تسعى بزينتها لِكُلِّ جهولِ حتى إذا اشْتَعَلَتْ وشبَّ ضرامُها ولَّتْ عَجوزاً غير ذاتِ حليل" وصدق رحمه الله