الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المعاملات |
وليس تحريم الربا من المسائل الخلافية، فالمسألة ليس فيها خلاف أبدا، ليست من المسائل الخلافية التي يدور حولها الجدال ويعلو الضجيج، وإنما الربا مقطوع بحرمته، وذلك التحريم معلوم من الدين بالضرورة، ومن أنكر معلوما من الدين بالضرورة فأمره معلوم في الدين لا يحتاج إلى مزيد بيان؛ بل لا يحتاج...
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أزكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: نواصل التواصل مع الكتاب تقليبا في معانيه، وتنقيبا عن أسراره ومراميه؛ ترسيخا للإيمان، وقطعا للطريق على الشيطان، وبعثا جديدا للروح من سباتها ورقادها الذي أريد لها من الشيطان، وأعوانه وخدامه وأزلامه.
فليس شيئا يبعث النفوس من غفلتها وينبهها ويوقفها على حقيقتها أكثر من القرآن، قال ربنا: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا) [الرعد:31] والمعنى: لو كان شيئا يمكن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض أو تكلم به الموتى لكان هذا القرآن جديرا بذلك؛ لكونه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولكن؛ ومع الأسف، هذا القرآن -ولأمر ما- عطل في حياة المسلمين، وهذا التعطيل تم عبر مراحل مدروسة, كل مرحلة تفضي إلى التي بعدها، حتى وصل الأمر إلى ما نحن عليه الآن.
ولكن عظمة القرآن تتجلى في كونه مستعصياً على المحو، مستعصياً على الإقصاء والإطفاء؛ لما فيه من الروح المتجددة، والطاقة الوقادة التي لا تنتهي ولا تنمحي ولا تزول، قد يعم الباطل وينتشر؛ ولكن، بمجرد قذفه من قاذفات الحق فإذا بالباطل صريع طريح.
ويجب على الأمة أن تنظر للقرآن نظرة شمولية، نظرة تشمل الدنيا والدين، نظرة لا تقف عند حدود المسجد، بل تتعداه لتشمل البيت والمدرسة والمصنع والإدارة والقضاء والحكم وكل مناحي الحياة، هذا هو الذي أراده منزل الكتاب، وبهذا أمر النبي الأواب -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) [الأنعام:162-163].
وعلى ضوء القرآن، واتصالا به، نتطرق إلى قضية عظيمة، قضية شغلت الناس وشوشت عليهم، مع أنها من صميم العقيدة التي ينبغي أن تكون راسخة قد انعقد عليها العقل والقلب والفكر والوجدان. إنها قضية الرزق.
فلو سألت أي واحد منا عن قضية الرزق لأجاب بسرعة وبلا تردد: الرزاق الله، أو الرزق بيد الله، ولكن شتان شتان ما بين هذه المقولة وبين تطبيقها في واقعنا! بونٌ شاسع وفرق هائل وشرخ عميق بين الكلام والتطبيق.
ولا شك أن للشيطان -لعنه الله- يدا طولى في هذا الواقع، وهذا يؤكده القرآن بقوله -تعالى-: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) [البقرة:268-269].
ونقف مع بعض أقوال المفسرين لهذه الآية، يقول الإمام القاسمي -رحمه الله- في "محاسن التأويل": "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ: أي في الإنفاق، وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء: أي: يغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر بالمأمور. والفاحش عند العرب: البخيل".
قال الشاعر طرفة:
أرى الموتَ يَعتامُ الكرامَ ويصطفي | عقيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ |
قال [بعض المفسرين] : "الفحشاء: كل ما اجتمعت عليه استقباحات الشرع، وأعظم مراد بها هنا – أي: في هذه الآية- البخل الذي هو أدوأ داء، وعليه ينبني شر الدنيا والآخرة. ويلازمه الحرص، ويتابعه الحسد، ويتلاحق به الشر كله، (وَاللّهُ يَعِدُكُم) أي بالإنفاق، لا سيما من الجيد من الحلال: (مَّغْفِرَةً مِّنْهُ) للذنوب، (وَفَضْلاً) أي :خلفَاً وثواباً في الآخرة، (وَاللّهُ وَاسِعٌ) قدرة وفضلاً، فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقونه، (عَلِيمٌ) أي: عليم بصدقاتكم، فلا يضيع أجركم".
ويقول الإمام المحدث العلامة ابن كثير في تفسيره: "(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) أي: يخوفكم، من الوعيد، يخوفكم الفقر لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله، (وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء)، أي: مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي دائما وبالمحارم وبمخالفة الخلاق، (وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ) أي: في مقابلة ما أمركم به الشيطان بالفحشاء، وفضلا، أي في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر، والله واسع عليم".
ثم يقول ربنا بعدها مباشرة: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- مبينا تفسير الحكمة في الآية: "المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومُحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه وأمثاله".
إذاً؛ فلا خلاص للعبد من تربُّص الشيطان إلا بالاتصال بالقرآن... [ليس قراءة فقط، بل قراءةً وتدبُّراً وعملاً].
وقبل أن ندلف إلى الموضوع، لا بد أن نقرر أمراً منه ننطلق، وهو أمر من المسلمات، ولكن نحتاج إلى التذكير به، وإلى الانطلاق منه؛ ترسيخا له، واحتكاما ورجوعا إليه، وهو أن الرزاق -سبحانه وتعالى- هو منزل الكتاب، فالقرآن الذي بين أيدينا هو كلام الرزاق بلا شك ولا ارتياب، ولا يمكن أن يحصل التعارض بين كونه -سبحانه- رازقا وكونه منزل الكتاب ومنزل القرآن إلا عند المضطربة نفوسهم، السفيهة أحلامهم.
إذاً؛ الشيطان يخوفنا الفقر، وبالمقابل، يأمرنا بالفحشاء، ومن الفحشاء التي يأمرنا بها من أجل تجنب هذا الفقر الذي يخوفنا منه: طرق جميع الأبواب من أجل الغنى والاغتناء، وإن كانت هذه الأبواب حراما، فيمضي العبد هائما على وجهه لا يبالي بحلال ولا بحرام، همه الكسب والاغتناء، ظناً أنه بذلك يتجنب الفقر، وما علم أن هذا هو عين الفقر! أن تعيش حياتك خائفا من الفقر، هذا هو الفقر الحقيقي.
وفي هذا المعنى يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كانت الدنيا أكبر همه أفشى الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه؛ ومن كانت الآخرة أكبر همه جمع الله له أموره، وجعل غناه في قلبه" رواه ابن ماجة والبيهقي.
حديث عظيم نراه في واقعنا المعاش، نرى كثيرا من الناس من أصحاب الأموال ومن أصحاب المناصب يشكون ويتسابقون على الدنيا، وكلما نالوا منها شيئا طمعوا في شيء أكبر منه، هَمٌّ دائم، وصراع متواصل؛ فأين الراحة والاطمئنان إذاً؟!.
أين الاستئناس بالله؟ أين لذة التوكل والضرع على الله؟ إن هذا لهو الحرمان الحق، ولله در الإمام عبد الله بن المبارك يوم يقول:
يا عائبَ الفقْر ألَا تَزْدَجِرْ | عَيْبُ الغِنَي أكبرُ لَوْ تَعْتَبِرْ |
مِن شرَفِ الفقْرِ ومِن فضْلِهِ | على الغِنَى إنْ صَحَّ مِنْكَ النظَر |
أنك تعصي كَيْ تنالَ الغِنَى | ولستَ تَعْصِي اللهَ كيْ تفتقِر |
فالغنى لا عيب فيه أبداً، بل المطلوب من المسلم أن يكون مكتفيا مستكفيا مستغنيا عن الناس، لكن بالحلال، بلا نصب ولا احتيال، ولا غش ولا خداع، ولا ربا ولا بيع خمور؛ فأما إذا كان الغنى لا يدرَك إلا بالمعصية فلا بارك الله في الغنى، وأهلا ومرحبا بفقر لا عصيان فيه!.
بعد أن ذكر الله هذه الآية: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ)، وتأملوا في هذا الترابط العجيب، وهذا من أسرار القرآن، بعد أن ذكر الله هذه الآية: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء) مضت الآية تحث على الإنفاق، وتعد المنفقين بالإخلاف والثواب الجزيل عند الله.
وفجأة يتحول السياق القرآني ليأتي التحذير من الربا، وفي هذا إشارة واضحة إلى أن الربا من أول وجوه الفحشاء التي يأمر بها الشيطان أولياءه وأتباعه، ويمنيهم بأنهم من خلالها سيطردون ويدفعون الفقر: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) ...
ثم تنقطع آيات الربا لتأتي آية يمدح الله فيها أهل الإيمان: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:277]، ثم مباشرة يتواصل التحذير من الربا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [البقرة:278].
وتمضي الآيات محذرة من الربا، في إشارة إلى أن المتعاطين للربا عندهم خلل كبير في قضية الإيمان، عندهم خلل في عقيدة أن الله هو الرزاق، فأنت إذا كنت تؤمن بالله رازقا وتؤمن بالقرآن كلاما منزلا من عند هذا الرازق، فلماذا لا تكف ولا تتوقف عن التعامل بالربا؟ لماذا؟ قل لي بربك: لماذا؟ أفي شك أنت؟ أما تثق بوعد ربك؟ أما تثق في ربك رازقا وكافيا؟ أكنت في حاجة إلى الربا وأنت جنينٌ في بطن أمك لا تملك لنفسك ضرا ولا نفعا؟ من الذي رعاك هناك؟ من الذي غذاك؟ من الذي رباك؟ من الذي سواك؟ من الذي أمدك؟ حتى إذا اشتد عظمك لجأت إلى محاربته بالربا؟.
لماذا؟ أتخاف الفقر، فوالله! لا يصلك إلا ما كتب الله لك، فأرفِقْ بنفسك، وتُبْ إلى ربك من قبل أن تقابله وأنت محارب له.
جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّرَ فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي تكفل بالأرزاق، فليس تنفد خزائنه، وجعل السعادة في تقواه، فليس يسعد بالمال خازنه، والصلاة والسلام الأكملان على من مثل قمة الطاعة، وتحلى بأجمل صور القناعة، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وتبعه إلى قيام الساعة.
معاشر الصالحين: إن المؤمن الصادق الخائف من لقاء ربه لا يحتاج لأكثر من نص صحيح يقيم الدليل، وينفي الشبهة؛ لكي يمتثل لأمر الله -عز وجل-، ويذعن لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وليس تحريم الربا من المسائل الخلافية، فالمسألة ليس فيها خلاف أبدا، ليست من المسائل الخلافية التي يدور حولها الجدال ويعلو الضجيج، وإنما الربا مقطوع بحرمته، وذلك التحريم معلوم من الدين بالضرورة، ومن أنكر معلوما من الدين بالضرورة فأمره معلوم في الدين لا يحتاج إلى مزيد بيان؛ بل لا يحتاج إلى كلام.
قال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله-: "وها هو ذا القرآن الكريم يحرم الربا كله أشد التحريم، ويفسره التفسير الواضح الذي لا يحتمل تأويلاً: أنه ما زاد على رأس المال، وتؤكده الأحاديث الصحاح في التحريم والتفسير، ويتوعد الله آكل الربا أشد الوعيد بالحرب من الله ورسوله، يتوعد آكل القليل والكثير بل يتوعد آكلي ما بقي من الربا ليشمل أقل القليل" اهـ.
فماذا تريد أيها العبد بعد ذلك؟! هل تحتاج إلى مزيد بيان؟ فليس بعد بيان الله ورسوله بيان! وإن لم تردعك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فابحث عن قلب؛ فإنه لا قلب لك.
والعجيب، أن يخرج من بين المسلمين من يرمي العلماء المتمسكين بتحريم الربا بالجهل والجمود وعدم مسايرة العصر! هل الوقوف -يا عباد الله- مع النص القرآني والحديث جهل وجمود؟! (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) [الكهف:5].
وقد يأتيهم من باب آخر فيقول لهم: إذاً؛ ما البديل؟ ما هو البديل؟ فإذا كنت -أيها العبد- تعتقد أنك سترزق من خلال الربا فإن ربك يقول لك: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ)، ومِن تقوى الله تجنب الربا (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3]، ألا يكفيك هذا البديل من ربك؟ ألا تثق في وعد الله؟ إذاً؛ فإن الخلل في مسألة الرزق خلل في الاعتقاد، والشك في الرزق شك في الرزاق؛ فهل هذا الذي خلقك -سبحانه وتعالى- وتكفل برزقك يحوجك إلى الحرام؟! كيف يستقر في بالك ذلك وهو -سبحانه- يقسم لك ويقول: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) [الذاريات:22-23].
فلماذا الغش؟ ولماذا الربا؟ ولماذا السرقة؟ ولماذا نهب الأموال؟ ولماذا التزوير وشهادات الزور؟ ولماذا أكل أموال الناس بالباطل؟ ولماذا؟ ولماذا؟...
إن ذلك كله ينبئ عن خلل في العقيدة، فالذي يبتليه الله -سبحانه وتعالى- ويختبره بشيء من الضيق في الحال والقلة في المال ثم يلجأ إلى الحرام من ربا وغش وغير ذلك من صور الحرام هذا غير راض بقضاء الله، محتج على الله، وكأنه المقصود بقوله -تعالى-: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ) -أي: فضيق عليه رزقه- (عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا) [الفجر:16-17].
يقول أبو السعود -رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية: "(وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) أي: ولا يخطر بباله -أي هذا المبتلى- أن ذلك ليبلوه أيصبر أم يجزع، مع أنه ليس من الإهانة في شيء، بل التقتير -أي: التضييق- قد يؤدي إلى كرامة الدارين، والتوسعة -أي الغني- قد تفضي إلى خسرانهما؛ لذلك يقول ربنا نافيا هذا الأمر ورادعا لأصحاب هذا الفهم: (كَلَّا)" قال أبو السعود "( كَلَّا): ردع للإنسان عن مقالته المحكية، وتكذيب له فيها في تلك الحالتين".
وما أجمل ما قال حبر الأمة وترجمان القرآن سيدنا عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، قال: "المعنى: لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ، ولم أبتله بالفقر لهوانه عليّ، بل ذلك لمحض القضاء والقدر".
ثم إنك -أيها العبد- أول ما تفتح المصحف تجد سورة الفاتحة والتي لا تصح صلاة عبد دون قراءتها، وتجد في مطلعها و-كلنا يقرؤها في كل صلاة وفي كل ركعة-: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة:2]، وهذه الآية كافية لوحدها وكفيلة بأن تخرجك من حالة الاضطراب والخوف على الرزق إن وعيتها وتدبرتها ووقفت على أسرارها.
(الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)؛ فمعنى رب العالمين أي: مربي العوالم كلها، ومرقيها من حال النقص إلى حال الكمال وغايات التمام، فهو الذي يتعهد النبات بالتغذية والإنماء، وكذا الحيوان والإنسان، وكذا العوالم العلوية، وهذه هي التربية التي كان مبدؤها الرحمة.
فكلنا يقرأ (رب العالمين)؛ ولكن -للأسف!- أغلبنا يجهل تربيته، فإنه -سبحانه- ربى النطفة حتى جعلها إنسان بصيرا ناطقا، وكيف أنبت الذرة والقمح وكيف ربى الأشجار وأنبتها وأثمرها، وهكذا صغيرات الأمور وكبيراتها.
أفتراه بعد ذلك يعجز عن رزقك أو يتخلى عن إمدادك؟! حاشاه حاشاه! ومن ظن هذا الظن فقد أساء وفرط.
وتلخيصا للأمر نقول: إن للناس مع الرزق في هذه الحياة مذاهب شتى، كل بحسب ما يحمله قلبه واعتقاده عن مفهوم الرزق ومفهوم طلبه، فمن الناس من هو متوجس لا يهنأ بنوم ولو أغمض عينيه؛ لأن هاجس الرزق مستولٍ عليه، وجاثمٌ على قلبه، تستوي عنده وسائل التحصيل حلالا كانت أم حراما، لا يهمه أمر الحلال أو الحرام.
ومثل هذا إن رأى المال سال لعابه حتى يأكل ولا يشبع، ويشرب ولا يرتوي، ليصدق فيه قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :"لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب" رواه مسلم.
وفي الناس من هو عكس ذلك تماما، أخلدت نفسه إلى الراحة، وآثر الدعة، وجلس في بيته لا يهش ولا ينش، ينتظر السماء أن تمطر ذهبا أو فضة، ويعتبر أن السعي لطلب الرزق جهد مهدر، وسلم لقدح التوكل والقناعة، وهذا قناع وتواكل وليس قناعة وتوكلا.
والغر من هؤلاء من إذا حاججته قال لك: ألم تسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا" رواه الإمام أحمد والترمذي، يأخذ من الحديث فقط توكّل الطير، ولا يأخذ منه غدوها ورواحها!.
لقد ظلم فئام من الناس القناعة فحسبوها الرضا بالدون والهوان، فعَمُوا وصمُّوا، فضعفت الهمم عن طلب معالي الأمور، وعلت همة تمجيد الفقر والجوع والخصاصة، وقد رأى سيدنا عمر أمير المؤمنين -رضي الله عنه- قوماً قابعين في ركن من المسجد بعد صلاة الجمعة، فسألهم: مَن أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون على الله، فعلاهم عمر بدرته ونهرهم وقال: "لا يقعدنّ أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني! وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة؛ فإن الله يقول: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة:10].
إن المسلم السعيد هو الذي تعتدل أمامه مسالك الحياة في طلب الرزق، فيعمل ويتصبب منه عرقه ليتطهر من فضلات الكسل وجمود التعب، ويكسب الكسب الحلال الطيب؛ لأن الإسلام لا يعرف المؤمن إلا كادحا عاملا في هذه الحياة، آخذا منها، معطياً لها: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) [الملك:15].
فالإسلام لا يريد الفقر المذل لأتباعه، كما أنه لا يريد الغنى المطغي لصاحبه، فلا هو مع الكسول المحتال باسم التكسب، ولا هو مع الذين يحبون المال حبا جما يعميهم عن دينهم وأخلاقهم، فالرزق -يا عباد الله- لا يرجع إلى كياسة المرء وعقله، فربما رأينا أكيس وأذكى الناس قد أفنى عمره في الكسب قد يفوته في الغنى من هو أجهل منه وأقل منه عقلا وذكاءً.
ولقد أحسن الإمام الشافعي -رحمه الله- حين قال:
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ | بُؤْسُ اللَّبِيبِ، وَطِيبُ عَيْشِ الأَحْمَقِ |
فليس الذكاء سبباً في الغنى، كما أن الفقر ليس سببه الغباء؛ (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [سبأ:36]، لا يعلمون هذه المعاني وهذه الأسرار.
فطب نفسا، واهدأ بالا، ولا تحمل هما، فربك كتب رزقك وأجلك، فاتق الله وأجْمِلْ في الطلب، وإياك إياك والجزع والخوف والهلع في مسألة الرزق! فإنه لا يتناسب مع المؤمنين المصلين، قال -تعالى- (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج:19-23] لا يناسبهم هذا الخوف.
وجماع الأمر محكوم بما قال سيدنا رسول لله -صلى الله عليه وسلم-، وهو حديث حاسم في المسألة، قال: "إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ -أي جبريل- نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّهُ لا تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلا بِطَاعَتِهِ" رواه الطبراني والحاكم وصححه.
اللهم أصلح أحوالنا...