المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن المسلم في هذه الدنيا معرض لظروف الأيام والليالي، كما يجري عليه قدر الله -سبحانه وتعالى-، وأفعال المولى -جل وعلا- كلها لحكم عظيمة، علمها من علمها وجهلها من جهلها، وقد بيّن سبحانه بعض الحكم في كتابه وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال -جل ذكره-: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140]، وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم: 22]، وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله، واعلموا أنكم ستعرضون عليه حفاة عراة غرلاً، وستسألون عن كل ما عملته جوارحكم، فكونوا على أهبة واستعداد، ولا تكونوا من الغافلين.
عباد الله: إن المسلم في هذه الدنيا معرض لظروف الأيام والليالي، كما يجري عليه قدر الله -سبحانه وتعالى-، وأفعال المولى -جل وعلا- كلها لحكم عظيمة، علمها من علمها وجهلها من جهلها، وقد بيّن سبحانه بعض الحكم في كتابه وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال -جل ذكره-: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140]، وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم: 22]، وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].
فالعاقل الفطن اللبيب -أيها المسلمون- هو من جعل لما يجري حوله من نفسه فكرة، ومن نظره عبرة، ولا يكون كالذين تمر بهم الآيات والعبر وهم عنها معرضون: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف: 105].
عباد الله: إننا في هذه الأيام نمر بأحوال كثيرة فيها عبرة لمن تأمل فيها، وفيها عظة لمن تعقلها، والله -جل وعلا- دعانا للتفكر فيما حولنا وفي أنفسنا: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190، 191].
(وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: 20، 21]، فلنتأمل جميعًا فيما يجري حولنا، فمن ذلك:
شدة البرد هذه الأيام والتي قبلها، فلقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يذكّر أصحابه بهذا البرد زمهرير جهنم، أعاذنا الله وإياكم منها؛ أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب: أكل بعضي بعضًا، فأذِنَ لها بنفسين، نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير".
فإذا اشتد عليك البرد -أخي المسلم- فتذكر أهل النار، كيف يعيشون فيها ويقاسون زمهريرها؟! فلعل ذلك يورث لديك اتعاظًا فيكون باعثًا لك على طاعة مولاك، ومحذرًا لك عن معاصيه.
ومما يجري حولنا هذه الأيام: الاختبارات المدرسية؛ فإن حال بعض المسلمين في زمن الاختبارات ينبئ عما تكنه صدورهم من انغماس في الدنيا، وإعراض عن الآخرة، فتأمل حال الآباء والأبناء في زحمة الامتحان، تجد أن الأبناء يتفرغون للمذاكرة، ويعزفون عن كثير من اللهو واللعب الذي كانوا قد غرقوا فيه قبل أيام، وتجد الآباء قد أعدوا العدة، وهيئوا المناخ المناسب لأبنائهم، وأزالوا كل ما من شأنه إشغال الأبناء عن المذاكرة، سبحان الله!!
قارنوا -رحمكم الله- بين هذا وبين حرص الآباء والأبناء على أمور الدين، فانظروا مثلاً الصلاة، كيف حرصهم عليها، وهل ربوا أبناءهم على المحافظة عليها، وأزاحوا عنهم كل صادّ عنها.
إن الفرق بين الصورتين عظيم، والله -جل وعلا- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) [التحريم: 6].
أيها المؤمنون: إن من الآباء من ضيع أولاده، فلم يربهم التربية النافعة، في دينهم وأخلاقهم، وإنما يربيهم التربية البهيمية فقط، فيوفر لهم الطعام اللذيذ، والملابس الفاخرة، والسيارات الفارهة، ويملأ جيوبهم بالدراهم، ويتركهم مع قرناء السوء، ويظن أنه هو المربي الناجح!! سبحانك هذا بهتان عظيم.
إن الواجب على الآباء والأبناء أن يتذكروا بهذا الامتحان الامتحان الأعظم يوم القيامة، الامتحان الذي ليس فيه غش ولا تزوير ولا رشوة ولا وساطة؛ لأن المحاسب فيه هو من لا تخفى عليه خافية، يعلم السرائر وما تكنه الضمائر، سبحانه وتعالى، إن من تدبر ذلك، أورث عند الإقبال على الرب الرحيم الغفور.
أيها المسلمون: إن مما ينبغي أن نتدبر فيه كذلك، نبات الأرض وإخراجها من خيراتها بعد نزول الأمطار، فالجميع يفرح ويتنزه، ولكن أين أهل العبرة والفكرة؟!
لقد توالى الجدب على الأرض، فكم من سنة تمر عليها وهي عطشى قد ماتت وعلتها الغبرة، وأيس الناس من حياتها.
ثم ينزل الله المطر، ويتتابع نزوله، فتحيا الأرض بعد موتها، إن حياة الأرض بعد موتها قد ضربه الله في القرآن مثلاً لأمور عدة؛ منها:
بعث الأجساد بعد اندراسها: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) [فاطر: 9].
وضربه الله مثلاً لحياة القلوب الميتة: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الحديد: 16، 17].
ولما كانت هذه الخضرة لا تدوم بل عما قليل تزول وتضمحل، ضربه الله مثلاً لبهارج الدنيا وزينتها، فقال: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً) [الحديد: 20].
أيها المسلمون: إن المسلم بتدبره وتفكره فيما حوله يبعث في قلبه الروح الإيمانية، فيقبل على ربه ويشتاق إلى طاعته.
اللهم اجعلنا ممن يتفكر في آلائك، ويشكر نعماءك، ويثني عليك حتى يبلغ مرضاتك.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: إن التفكر في خلق الله عبادة يؤجر عليها العبد المسلم، فضلاً عما يورثه للقلب من حياة وإيمان.
ولقد كان السلف -رحمهم الله- يحرصون على هذه العبادة لما فيها من حياة للقلوب، ونور للبصائر، يحرصون عليها بقدر، فتدفعهم للطاعة ولا تصدهم عنها.
قال أبو سليمان الداراني -رحمه الله-: "إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة".
وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة"، وقال: "الفكرة مرآة؛ تريك حسناتك وسيئاتك".
وقال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: "الفكرة نور يدخل القلب".
وروي عن عيسى -عليه السلام- قوله: "طوبى لمن كان قلبه تذكرًا، وصمته تفكرًا، ونظره عبرًا".
وقال لقمان الحكيم: "إن طول الفكرة دليل على طرق باب الجنة".
وقال وهب بن منبه -رحمه الله-: "ما طالت فكرة امرئ قط إلا فهم، وما فهم امرؤ قط إلا علم، ولا علم امرؤ قط إلا عمل".
وقال عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-: "الفكرة في نعم الله أفضل العبادة".
وقال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-: "مر رجل براهبٍ عند مقبرة ومزبلة، فناداه فقال: يا راهب: إن عندك كنزين من كنوز الدنيا، لك فيهما معتبر، كنز الرجال، وكنز الأموال". عَنَى بكنز الرجال "المقبرة"، وبكنز الأموال "المزبلة".
وجاء عن ابن عمر أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه، يأتي إلى الخربة فيقف ببابها، فينادي بصوتٍ حزين فيقول: أين أهلك؟! ثم يرجع إلى نفسه فيقول: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) [القصص: 88].
قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "ركعتان مقتصدتان في تفكُّر، خيرٌ من قيام ليلة والقلب ساهٍ".
وقال بعض الحكماء: "من نظر إلى الدنيا بغير عبرة انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة".
وقال بشر بن الحارث -رحمه الله-: "لو تفكّر الناس في عظمة الله لما عصوه".
وقال عامر بن عبد قيس -رحمه الله-: "سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر".
بكى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يومًا بين أصحابه، فقالوا له: ما يبكيك؟! فقال: "فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها، فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مراراتها، ولئن لم يكن فيها عبر لمن اعتبر، إن فيها مواعظ لمن ادكر".
وقال قتادة -رحمه الله-: "من تفكّر في خلق نفسه عرف أنه خلق، وليست مفاصلة للعبادة".
أيها المسلمون: إن كل ما حولكم من المخلوقات فيه فكرة وعبرة، فلا تبخلوا على أنفسكم، قال ابن القيم -رحمه الله-: "كان شيخ الإسلام ابن تيمية يخرج أحيانًا من البلد لوحده يذكر الله تعالى، ويقول:
وأخرج من بين البيوت لعلني | أحدث عنك النفس بالسر خاليًا |
فيا من هو في وحشة من نفسه: عليك بذكر الله، والتفكر في خلقه، تأنس وتسعد، اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، اللهم اجعلنا من المتفكرين المعتبرين، اللهم اجعلنا عند البلاء من الصابرين، وعند النعماء من الشاكرين.