الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | خالد بن سعد الخشلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ومن توقيره -صلى الله عليه وسلم- عدم رفع الصوت عند قبره الشريف -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن حرمته -صلى الله عليه وسلم- ميتا كحرمته حيا، روى البخاري بسنده عن السائب بن يزيد قال: "كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما, قال: من أنتما؟ أو: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف, قال: لو كنتما من أهل البلد..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله -عز وجل-، واجعلوا من أوقاتكم وأعمالكم مجالا لزيادة إيمانكم وكثرة طاعاتكم، فإن المغبون حقا والخاسر صدقا من ذهبت عليه أيام عمره دونما عمل صالح، (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100]. (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ * فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ) [فاطر:37].
جعلني الله وإياكم ممن عمروا أيامهم بطاعة مولاهم، واستثمروا حياتهم وأعمارهم في فعل كل ما يقربهم من مولاهم -سبحانه وتعالى-، كما أسأله -سبحانه وتعالى- أن يختم لنا جميعا بخاتمة السعادة، أن يختم لنا بخير ما ختم به لعباده وأوليائه الصالحين، وأن يجعل حياتنا وأيام أعمارنا كلها عونا على طاعته وذكره وشكره وحسن عبادته.
أيها الإخوة المسلمون: إنَّ من أعظم ما يتقرب به المسلم لربه -عز وجل- محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذه المحبة التي تنغرس في القلوب والأفئدة، وتفيض بظلالها وآثارها على الجوارح، "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وولده ووالده والناس أجمعين".
إن هذه المحبة -وإن كانت عملاً قلبياً- لا بد وأن تظهر آثارها على الجوارح قولا وفعلا، حتى يتم التمييز بين من هو صادق في محبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- وبين من هو دعي كاذب فيها، حتى يتم التمييز بين من سلك في حبه للرسول -صلى الله عليه وسلم- المسلك الصحيح وبين من انحرف بمسلك حبه عن الصواب والجادة.
إن من المظاهر الواضحة والشواهد الصادقة التي يستطيع كل امرئ منا أن يقيس بها محبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- طاعته -صلى الله عليه وسلم- واتباع أمره، وموافقته -صلى الله عليه وسلم- فيما يحب، وبدون هذه الموافقة، بدون هذا الاتباع والطاعة تصير محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوى كاذبة، دعوى مزيفة.
إن أكبر دليل على صدق الحب للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- طاعته واتباعه، فالاتباع -أيها الإخوة المسلمون- هو دليل المحبة الأول للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو شاهدها الأمثل.
وإذا كان ربنا -عز وجل- جعل اتباع نبيه -صلى الله عليه وسلم- دليلا على حبه -سبحانه وتعالى-، فهو من باب أولى دليل على حب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- وطاعته فيما أمر وشرع دليل على محبة الله -عز وجل-، وهو -في الوقت ذاته- دليل على صدق المحبة للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران:31]
قال ابن كثير -رحمه الله-: "هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية حاكمة عليه بأنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال "مَن عمل عملا ليس عليه أمرنا فه رد"؛ ولهذا قال: (إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ)، أن يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول، أي: إن محبة الله لمن أحبه واتبع أمر نبيه أعظم من محبة العبد لربه كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تحب إنما الشأن أن تُحَب" اهـ. قاله ابن كثير رحمه الله.
إن الصادق في حب النبي -صلى الله عليه وسلم- هو من أطاعه، إن الصادق في حب النبي -صلى الله عليه وسلم- هو من اقتدى به، هو من آثر ما يحبه الله ورسوله على هوى نفسه، وظهرت آثار ذلك عليه من موافقته -صلى الله عليه وسلم- في حب ما يحبه، وبغض ما يبغضه.
قال القاضي عياض -رحمه الله-: "الصادق في حب النبي -صلى الله عليه وسلم- من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله -تعالى-: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) [آل عمران:31]، وإيثار ما شرعه وحض عليه على هوى نفسه، وموافقة شهوته، قال الله -تعالى-: (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر:9]".
ومن أعظم دلائل الاتباع الصادق للنبي الأكرم -صلى الله عليه وسلم- الاقتداء والتأسي به -صلى الله عليه وسلم-، وتحكيم سنته، والتحاكم إليها، والرضا بحكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشرعه، والوقوف عند حدود شريعته: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء:65].
ومن مظاهر محبته -صلى الله عليه وسلم- تعظيمه -صلى الله عليه وسلم-، وتوقيره، والأدب معه، وهذا ما يقتضيه مقام النبوة والرسالة من كمال الأدب وتمام التوقير، وهو من أعظم وآكد حقوقه -صلى الله عليه وسلم- على أمته،كما أنه من أهم واجبات الدين.
تعظيمه -صلى الله عليه وسلم- يكون تعظيما بالقلب، كما يكون تعظيما باللسان والجوارح؛ فتعظيم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالقلب اعتقاد كونه -صلى الله عليه وسلم- رسولا اصطفاه الله برسالته، وخصه بنبوته، وأعلى قدره، ورفع ذكره، وفضَّله على سائر الخلق أجمعين. واعتقاد أن الله -عز وجل- ختم بنبوته النبوات، وبرسالته الرسالات، فلا نبي بعده، ولا رسول بعده، وتقديم محبته -صلى الله عليه وسلم- على النفس والولد والوالد والناس أجمعين.
أما التعظيم للنبي -صلى الله عليه وسلم- باللسان فيكون بالثناء عليه بما هو أهله -صلى الله عليه وسلم- مما أثنى به -صلى الله عليه وسلم- على نفسه، أو أثنى به عليه ربه -عز وجل- من غير غلو ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط، ويدخل في ذلك الصلاة والسلام عليه، كما يشمل الأدب في الخطاب معه، والحديث عنه -صلى الله عليه وسلم-.
وأما تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجوارح فيشمل العمل بطاعته، وتجريد متابعته، وموافقته -صلى الله عليه وسلم- في حب ما يحب وبغض ما يبغض، والسعي الحثيث في إظهار دينه، ونصرة شريعته، والذب عنه، وصون حرمته.
ومن تعظيمه -صلى الله عليه وسلم- عدم التقدم بين يديه -صلى الله عليه وسلم-، لا بقول ولا فعل ولا إذن ولا تصرف ولا قياس ولا اجتهاد، كما قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات:1]، قال ابن جرير -رحمه الله-: "أي: لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-"
وهذا الأمر، وهو عدم التقدم بين يديه -صلى الله عليه وسلم-، كما يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فرض باقٍ على الأمة إلى يوم القيامة، مثل طاعته -صلى الله عليه وسلم- حيا وميتا".
فالتقدم بين يدي سنته -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند ذوي العقول السليمة، فالأدب كل الأدب معه -صلى الله عليه وسلم- تقديم سنته، تقديم أقواله على كل قول، وعلى كل رأي، وعلى كل قياس.
ومن توقيره -صلى الله عليه وسلم- عدم رفع الصوت عند قبره الشريف -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن حرمته -صلى الله عليه وسلم- ميتا كحرمته حيا، روى البخاري بسنده عن السائب بن يزيد قال: "كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما, قال: من أنتما؟ أو: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف, قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!"
وبهذا يعلم نكارة ما يفعله بعض الجهلة عند قبره -صلى الله عليه وسلم- من رفع الأصوات واختلاطها والتشويش على المصلين والمتعبدين في مسجده -صلى الله عليه وسلم- أو المسلّمين عليه -صلى الله عليه وسلم-.
وأعظم من ذلك كله ما يفعله كثير من الناس في هذه الأزمنة، أزمنة غربة الإسلام، مِن تقديم آرائهم واجتهاداتهم على كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-! إنه لا كلام لأحد بعد كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
إن واجب المسلم مع كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- كما يقتضيه التعظيم الخضوع والانقياد لما دل عليه كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-، واطراح جميع الآراء والاجتهادات المخالفة لكلام الله وكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومن توقيره وتعظيمه -صلى الله عليه وسلم- أن أصحابه إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، كما قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النور:62].
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "ومن الأدب معه أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع كخطبة أو جهاد أو رباط لا يذهب أحدهم مذهباً في حاجته حتى يستأذنه، فإذا كان هذا مذهبا مقيدا بحاجة عارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه -صلى الله عليه وسلم-؛ فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله، وفروعه؛ دقيقة، وجليله؟ هل يشرع الذهاب بدون استئذانه؟ واستئذانه -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته بالرجوع إلى أهل الذكر وأهل العلم [لمعرفة] ما يدل عليه كلامه -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشأن: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل:43]".
إلى أن قال -رحمه الله-: "ومِن الأدب معه أن لا يستشكل قوله، بل تستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتلغى كلها لنصوصه -صلى الله عليه وسلم-، ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد،
ومن الأدب معه -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه: التأدب في الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم-، ذلك بأن المسلم وهو يتحدث عن جناب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لا يتحدث عن إنسان عادي، إنما يتحدث عن سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم-، يتحدث عن أحب الخلق إلى الله -عز وجل-، يتحدث عمن شرفه ربه بالرسالة والنبوة، واصطفاه الله -عز وجل- على الناس أجمعين.
وذلك باختيار أحسن الألفاظ وأعذبها، وأرق المعاني وألطفها، وتجنب كل ما فيه جفاء أو إساءة أدب مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وتنزيه مقام النبوة والرسالة من كل عيب أو نقص ينافي عصمته -صلى الله عليه وسلم-.
ومن تعظيمه -صلى الله عليه وسلم-: الثناء عليه بما هو أهله من غير غلو ولا تقصير، ومن أعظم وأشرف الثناء عليه -صلى الله عليه وسلم- الصلاة والسلام عليه في مواطنها، وعند ورود ذكره الشريف ... وقد أخبر الله -عز وجل- أنه -سبحانه- في عليائه وملائكته يصلون على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأمر المؤمنين أجمعين بالصلاة والسلام عليه، فقال -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
وقد رغب -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة عليه فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً".
وقال: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قُبِض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي". قالوا: يا رسول الله، كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يقولون: بليت، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء".
نسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا صدقا حبه -سبحانه-، وحب نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأن يجعلنا من المتبعين لسنته، المقتفين لأثره، السائرين على هديه، إنه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا) [الأحزاب:45-47].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، أحمده -سبحانه- على نعمه التي لا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.
أيها الإخوة المسلمون: إن من توقيره -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه نصرته والذب عنه، ونَصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- يشمل نصره باللسان والسنان والبنان، بالقول والفعل، نصرا له في ذات نفسه الشريفة حماية لعرضه وصونا لحرمته، وإرغاما لأعدائه ومبغضيه، وانتصارا له من كل من يؤذيه، وإجلالا لمقام النبوة والرسالة من كل عيب أو قدح.
وقد أجمع العلماء على وجوب قتل من سب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو عابه، أو ألحق به نقصاً في نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرّض به -صلى الله عليه وسلم-، أو شبهه بشيء على طريق السب له والازدراء به أو التحقير من شأنه.
ومِن نصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- نصر سنته، والذب عن شريعته، ودفع كيد الكائدين وطعن الطاعنين في سنته وسيرته، برد شبههم، ودحر مفترياتهم، وإظهار ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الهدى ودين الحق.
ويدخل في نصر الله ونصر رسوله -صلى الله عليه وسلم- نصر الشريعة وأهلها والداعين إليها، ... وإعانتهم على أمورهم، وقمع أعدائهم ولا يتأتى هذا النصر ولا يتحقق إلا برفع علم الجهاد في سبيل الله -عز وجل-، جهاد الكفار والمنافقين والزنادقة والملحدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة حدود الله وتطبيق شرعه بين عباده.
ومن مظاهر محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-: كثرة تذكره، وتمني رؤيته، والشوق إلى لقائه -صلى الله عليه وسلم-، لأن من أحب شيئاً أكثر من ذكره، وسؤال الله -عز وجل- اللحاق برسوله على الإيمان والسنة، وأن يجمع بينه وبين حبيبه محمد -صلى الله عليه وسلم- في جنته.
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ".
وقد كان الصحابة والتابعون شديدي الشوق إلى لقائه -صلى الله عليه وسلم-. لما احتضر بلال -رضي الله عنه- مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في ساعة الاحتضار: "وا فرحاه! غدا نلقى الأحبة: محمداً وصحبه".
وروى ابن عساكر في تاريخه أن خالد بن معدان الكلعي -وهو من أعلام التابعين- كان لا يأوي إلى فراشه ومقيله إلا وهو يذكر فيه شوقه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار، ثم يسميهم ويقول: "هم أصلي وفصلي، وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم، فعجل ربِّ قبضي إليك"، حتى يغلبه النوم وهو على ذلك.
هكذا كان شوقهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هكذا كان شوقهم، لكنه لم يكن مجرد شوق قلبي، إنما هو شوق قلبي متبوع بشدة المتابعة، بشدة التأسي والاقتداء، بشدة الطاعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فأين شوق المسلمين اليوم إلى رسولهم -صلى الله عليه وسلم-؟! لقد غاب عند كثير من العالمين -إلا مَن رحم الله-؛ لأن النفوس والقلوب شغلت بالتنافس بالدنيا وحطامها الفاني، حتى قَلَت تذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فضلا عن الشوق إلى لقائه.
وكل من اشتد شوقه للقاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتبع ذلك بمزيد عملٍ وتأسٍّ واقتداء واهتداء لهديه -صلى الله عليه وسلم-، بل غدا تذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الأزمنة عند أقوام محصورا في مواسم بدعية كبدعة الاحتفال بيوم المولد، هذه البدعة التي لم تعرف عن السلف الصالح، ولا من الصحابة، ولا من التابعين، ولا من القرون المفضلة.
ونحن نُشهد الله أنهم كانوا من أشد خلق الله حبا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فليس أحد من المسلمين أشد حبا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أبي بكر الصديق ولا من عمر الفاروق ولا من عثمان ولا من علي ولا من الصحابة أجمعين، ولا من أهل القرون المفضلة، ومع ذلك لم ينقل ولم يؤثر عن أولئك أنهم احتفلوا بمولده -صلى الله عليه وسلم-، ولا أنهم خصصوا يوما لذكرى مولده الشريف -صلى الله عليه وسلم-، لم ينقل عنهم وإنما أول من نقل عنه الاحتفال بمولده -صلى الله عليه وسلم- هم العبيديون القرامطة الفاطميون، لما حكموا مصر أوجدوا هذه البدعة النكراء، فتابعهم عليها كثيرٌ من الخلق.
إن المسلم الحق من يعيش حب النبي -صلى الله عليه وسلم- ليله ونهاره، دقائقه وساعاته، يقظته ومنامه، طيلة عمره يعيش هذا الحب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، الحب الحقيقي الذي يشبعه بشدة متابعته وتأسيه بالنبي -صلى الله عليه وسلم-.
فنسأل الله -عز وجل- أن يوقظنا جميعا من رقدة الغافلين، وأن يرزقنا جميعا الشوق إلى لقائه -سبحانه وتعالى- ولقاء حبيبه -صلى الله عليه وسلم- في غير ضراء مُضرة، ولا فتنة مضلة، نسأله -سبحانه وتعالى- أن يحيينا على سنة حبيبه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن يميتنا عليها، وأن يحشرنا تحت لوائه، وأن يوردنا حوضه، وأن يسقينا من حوضه الشريف وبيده الشريفة شربة هنية رضية لا نظمأ بعدها أبدا.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك...