الوهاب
كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
ولو نظرنا إلى القرآن لوجدنا أن الآيات المكية لا ذكر للنفاق فيها؛ لأن المشركين ما كانوا يسترون كفرهم، فلما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، لم يكن هناك نفاق في أول الأمر؛ بل كفر ظاهر أو إيمان باطن وظاهر؛ لأنه لم يكن للمسلمين شوكة تُخاف، أو قوة تهاب، فلما عز الإسلام، وقويت شوكة المسلمين بعد بدر الكبرى، قال عبد الله بن أبي بن سلول، وكان على الكفر آنذاك: "هذا أمر قد توجَّه"، فأظهر الدخول في الإسلام ..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: أراد الله -سبحانه وتعالى- بالبشرية خيراً حينما بعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة بالدين الحق الذي ارتضاه لعباده، وجاءت شريعته موضحة ما يحتاج إلى إيضاح في عبادة ربهم، فلم يتركهم خالقهم يتعبدونه بمحض عقولهم القاصرة، أو أهوائهم الضالة؛ ولم يسلمهم لبشر ضعاف مثلهم يشرِّعون لهم ما يريدون، ويمنعونهم مما لا يريدون.
فمن رحمة أرحم الراحمين بعباده أنه تولى هذه القضية بذاته المقدسة؛ فشرع لعباده ما يقربهم إليه، وارتضى لهم من الأحكام ما به سعادتهم في الدنيا والآخرة، فلا خير إلا هدتنا شريعة الله تعالى إليه، ولا شر إلا حذرتنا منه، وكمل الدين على ذلك، وختمت النبوات به، فلا نبي بعد محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا شريعة توصل إلى رضوان الله تعالى إلا شريعته. من تمسَّك بها نجا، ومن حاد عنها فإنه يضر نفسه ولا يضر الله شيئاً.
ومقتضى حكمة العليم الحكيم -سبحانه وتعالى- في ابتلاء عباده المؤمنين أن جعل على طريق الخير أناساً يصدون الناس عنها، ويدعونهم إلى غيرها، كما جعل على طريق الشر دعاة إليها، يرغِّبون الناس فيها، فمن أطاعهم قذفوه في النار، ومن عصاهم كان من أهل الجنة.
والجماعة التي تصد عن الخير، وتدعو إلى الشر، منها طائفة بيِّنةٌ واضحةٌ، تعلن محادَّتَها لله تعالى، ولشريعته، وتصرح بدعوتها دون تلون ولا التواء، وهي الطائفة الأكثر من ضُلَّال البشر، وهي الأقوى شوكة، والأمضى عزيمة في معسكر الكفر والضلال.
والطائفة الأخرى طائفة هي أقل منها عدداً، وأضعف قوة، ولكنها أشد فتكاً وخطراً من الأولى، رغم قلتها وضعفها؛ لأنها خفية لا تبين، ومستتِرة لا تظهر.
إنها طائفة المنافقين التي انتدبت نفسها لمهمة خسيسة حقيرة، تجمع الرذائل كلها من الكفر، والجبن، والكذب، والغش، والخداع، والفساد، والإفساد؛ طائفة تعيش في صفوف المؤمنين، وتأكلُ من زادهم، وتنعم بحمايتهم، وتتبادل المصالح معهم؛ ولكن قلوب أصحابها مع الكافرين، وإخلاصهم لهم، وعملهم من أجلهم.
ولخطورة هذه الطائفة على المسلمين؛ فإن القرآن بادر على الفور إلى التحذير منها أشد من تحذيره من الكافرين؛ وذلك لئلا يغتر المؤمنون بظاهر أمرهم، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار. والنفاق في تاريخ المسلمين ابتدأ بعد غزوة بدر، وسيبقى ما بقي صراع بين حق وباطل.
ولو نظرنا إلى القرآن لوجدنا أن الآيات المكية لا ذكر للنفاق فيها؛ لأن المشركين ما كانوا يسترون كفرهم، فلما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، لم يكن هناك نفاق في أول الأمر؛ بل كفر ظاهر أو إيمان باطن وظاهر؛ لأنه لم يكن للمسلمين شوكة تُخاف، أو قوة تهاب، فلما عز الإسلام، وقويت شوكة المسلمين بعد بدر الكبرى، قال عبد الله بن أبي بن سلول، وكان على الكفر آنذاك: "هذا أمر قد توجَّه"، فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه في النفاق طوائفُ من عرب المدينة وأعرابِها المهاجرين لها، ومن اليهود، فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر.
وصدرت أطول سورة مدنية بذكر صفاتهم، والتحذير من خطرهم بعد ذكر المؤمنين وذكر الكافرين. إنها سورة البقرة، بدأها الله تعالى بذكر المؤمنين في أربع آيات، ثم ثنى بذكر الكفار في آيتين، ثم ثلَّث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية، وهذا دليل على أن الاهتمام بدفع شرهم أشد من الاهتمام بدفع شر الكفار، كما يدل على أنهم أعظم جرماً وأشد خطراً من الكفار.
إنها طائفة يصعب التعامل معها؛ لأنها تظهر الخير للمسلمين، وتضمر الشر لهم، فيشتبه أمرها على كثير من الناس، وينخدع بأفرادها جمهور المسلمين، إلا من وفَّقه الله تعالى لمعرفة حقيقتها.
إن المنافقين يتسللون إلى قلوب الغافلين بإظهار النصح للأمة، والتباكي على ما قد يلحقها من أذى ومصيبة، وتدبيج ذلك بلحن القول، وجميل العبارة، وادعاء الخبرة بالأمور، ومعرفة الأحوال، ومن قرأ ما تكتبه أقلامهم، وسمع ما تنطق به ألسنتهم ، وهو من أهل الإيمان والفراسة، علم أن الشيطان يجري في مداد أقلامهم، ويسري في جنبات أفواههم، وقد أطبق بكليته على قلوبهم.
وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من منافقٍ عليمِ اللسان، وأخبر الله تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رأيتهم أعجبتك أجسامهم، وإذا قالوا استمعت لأقوالهم؛ ووالله! إن هذا الوصف لينطبق تمام الانطباق على كثير من أهل السوء والشر، الداعين إلى الكفر والفجور، الناشرين للرذيلة والفاحشة، من كُتَّاب الصحف، وضيوف الفضائيات.
تراهم فتعجبك أجسامُهم، وإذا تكلموا شدَّكَ كلامُهم، وجذَبَك أسلوبُهم، وسمعْتَ زفَراتِهم وآهاتِهم على واقع الأمة؛ وليست زفَراتٍ على –ضَعفها، وذُلِّها، وتأخُّرِها-، وإنما هو تباكٍ على بقاء ثُلَّةٍ من أفرادها على دينهم، وظهور شيء من أحكام الشريعة معروفاً فيما بينهم.
إنهم يريدون من الأمة أن تنبذ الإسلام وراءها ظهرياً، وأن تكون ذيلاً لأمة المغضوب عليهم والضالين، ولن يهدأ لهم قرار، ولن تلين لهم عزيمة، حتى يدفنوا إسلامنا الذي عرفناه، وتلقيناه جيلاً بعد جيل حتى وصل إلينا نقياً محفوظاً؛ ليستبدلوه بإسلام آخر صنُع في معامل أسيادهم رؤوس الكفر والضلال.
يقضي هذا الإسلام الجديد على كل مظاهر القوة والعزة التي تميزت بها شخصية المسلم؛ ليحوله إلى حقير ذليل تابع، مقلد لغيره، لا هَم له إلا إشباعُ شهواته، واللهاث وراء نزواته.
لقد كانوا طيلة عقود مضت يلحون وبإصرار على فصل الدين عن السياسة، وتم فصل الدين عن السياسة فصلاً كاملاً منذ نصف قرن أو أكثر، وصار المبدأ السياسي في العالم مؤسساً على النفاق الأكبر، أليسو يقولون في عالم السياسة: لا صداقة دائمة، ولا عداوة دائمة، وإنما هي مصالح مشتركة، تبنى مع القوي مهما كان مذهبه ودينه؟! وهكذا كان حال المنافقين قبل ظهور السياسات المعاصرة.
منذ أن ظهروا في الإسلام وإلى يومنا هذا، فإن رأوا في المسلمين قوة استتروا بالإسلام، وانقلبوا إلى وُعَّاظ، وإن رأوا في المسلمين ضعفاً انقلبوا عليهم، وانتقدوا شريعتهم، واستمعوا -رحمكم الله تعالى- إلى قول الله تعالى فيهم، فإنه منطبق عليهم في هذا العصر، يقول سبحانه: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [النساء:141].
وفي آية أخرى يقول سبحانه: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) [النساء:72-73]، إنهم مع القويِّ، ومع المصلحة الآنية، كما تقول السياسة المعاصرة.
ولما كان المسلمون ضعفاء في هذا العصر صار المنافقون يتكلمون بلسان العدو؛ بل إنهم يسابقون العدو فيما يريد.
كفى اللهُ المسلمين شرورهم، وأعاذنا من النفاق والمنافقين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم افضحهم على رؤوس الأشهاد، اللهم اكشف أمرهم، واهتك سرهم، وأحبط كيدهم، وأرهم مايسوؤهم من عزّ الإسلام والمسلمين، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واحذروا النفاق، واستعيذوا بالله من شره، فإنَّ مَن أمِن النفاق أوشك أن يقع فيه، ولقد كان كبار الصحابة -رضي الله عنهم- يخافونه على أنفسهم، فعمر -رضي الله عنه- يعزم على حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- أن يخبره: هل سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنافقين؟! وهو فاروق هذه الأمة الذي فرَّق الله به بين الحق والباطل، وكان عمر إذا قُدمت جنازة ليُصلي عليها رمق حذيفة، فإن صلى عليها حذيفة صلى عمر عليها، وإن لم يصل عليها حذيفة ترك عمر الصلاة عليها؛ لأن حذيفة كان أعرف الصحابة بالمنافقين، وهو أمين سر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيهم.
وإذا كان أمر المنافقين قد خفي على بعض كبار الصحابة، وهم مَنْ هم في الفضل والدين والفراسة، فكيف بنا مع ضعفنا وعجزنا؟! أسأل الله أن يتولانا بعفوه ورحمته.
أيها المؤمنون: جرت سنة الله تعالى في المنافقين بالإملاء لهم، وإمدادهم في طغيانهم، وإنظارهم إلى حين؛ ولذا فإن نجاحهم في بعض الأزمان والأعمال، ووصولهم إلى ما يريدون، ليس نهاية المطاف، ولا هو محل غرابة عند من يقرأ القرآن ويفهمه، وقد قال الله تعالى في شأنهم: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة:15]، وهذا الإمداد لهم، وزيادة طغيانهم، ووصولهم إلى بعض ما يريدون، في حال غفلة من الغافلين؛ ما هو إلا ابتلاء للمؤمنين الصادقين، وتنبيهٌ لهم ليواجهوا باطلهم، ويكشفوا للناس زيفهم.
ومعركةُ المؤمنين مع النفاق والمنافقين طويلة الأمد، ابتدأت بعد بدر الكبرى، وستبقى ما بقي كفر وإيمان، وحصل للمسلمين من العظائم والمصائب على أيديهم ما لا يخفى. وما تمكنوا من دولة إلا كانوا السبب في سقوطها وفنائها، وسقوط دولة بني العباس التي عاشت قروناً طوالاً، وامتدت في طول العالم وعرضه، ما كان إلا بتدبير من منافقيها، كان يحمل لواء النفاق في تلك المؤامرة الدنيئة ابنُ العلقمي الرافضي.
وأخْذُ الصليبيين لبيت المقدس في القرن الخامس الهجري، ما كان إلا بسبب بني عبيد الباطنيين المنافقين. وسقوط الدولة العثمانية التي حكمت أكثر من نصف الأرض ثمانية قرون، ما كان إلا على أيدي يهود الدونمة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وكادوا المكائد بالرجل المريض، حتى قتلوه وقبروه.
وما سُلبت فلسطين في القرن الماضي واستحلتها يهود إلا بمعونة المنافقين، وما بقي اليهود فيها أكثر من نصف قرن إلا لأن المنافقين أبعدوا الإسلام عن المعركة، وأداروا الصراع تحت الرايات القومية والوطنية الجاهلية، ومن خلال الأحزاب اليمينية واليسارية العلمانية.
فمعركة المسلمين مع النفاق والمنافقين معركة طويلة وشديدة، وتحتاج إلى صبر وثبات وعزيمة، لا يلينها نصرٌ حققوه، أو هدف حصلوه، وما يقتل الأمةَ مثلُ اليأس والقنوط، فأمِّلوا –عباد الله- خيراً، وارجوا خيرا،ً وجِدُّوا في خدمة هذا الدين، والذود عن حياضه، والدفاع عن حرماته؛ وتحلّوا في ذلك بالصبر والحكمة والعزيمة، فذلك طريق النصر والفلاح في الدنيا والآخرة.
ألا وصلوا وسلموا على نبينا محمد كما أمركم بذلك ربكم...