الجميل
كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحج |
إنّ وقفاتٍ يسيرةً مع آيات الحجّ في كتاب الله تعالى لهي كفيلةٌ في كشف شيء من أسرار الحج وحِكَمه، وما تحويه من معاني التكامُل والتهذيب وأصولِ التخليَة المفضِية إلى التحلية. تتمثّل هذه الوقفاتُ في أعظم الحِكَم والمقاصد لهذا النُسُك العظيم، إنها الوقفةُ مع توحيد الله -جلّ وعلا- الذي بُني البيتُ العتيق من أجلِه وجُعل قصدُ الناس إليه من أرجاءِ المعمورة...
أمّا بعد: فأوصيكم -أيّها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه، فاتقوه في الغيب والشهادة، والغضبِ والرضا، والفرح والترَح، ألا فاتقوا الله -يا أولي الألباب- لعلّكم تفلحون.
أيّها المسلمون: في هذه الأيام تترقَّب نفوسُ المسلمين بعامّة حلولَ شهر ذي الحجة، وأفئدتهم تشرئبّ إلى انبثاق هلاله الوليد، وأسرابُ الحجيج بدأت تتوافد إلى البيت العتيق لأداءِ مناسك الرّكن الخامسِ من أركان الإسلام. إنهم يفِدون إليه بخطَى الطاعةِ والاستجابة لأمر الله -جلّ وعلا- لخليله إبراهيم -عليه السلام- بقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج:37]. إنهم يفِدون إليه ليشهَدوا منافع لهم ويذكروا اسمَ الله -جلّ شأنه- ونفوسُهم في الوقت ذاته مليئةٌ بحبّ الاستطلاع على معاني الحجّ وحِكَمه وأسراره، من خلال أجواءِ النسُك والتنقّل في عرصاتِ المشاعر المقدَّسة.
عبادَ الله: إنّ وقفاتٍ يسيرةً مع آيات الحجّ في كتاب الله تعالى لهي كفيلةٌ في كشف شيء من أسرار الحج وحِكَمه، وما تحويه من معاني التكامُل والتهذيب وأصولِ التخليَة المفضِية إلى التحلية.
تتمثّل هذه الوقفاتُ في أعظم الحِكَم والمقاصد لهذا النُسُك العظيم، إنها الوقفةُ مع توحيد الله -جلّ وعلا- الذي بُني البيتُ العتيق من أجلِه وجُعل قصدُ الناس إليه من أرجاءِ المعمورة؛ لإذكاءِ شعيرةِ توحيد العبادةِ وخلوصها لله سبحانه لا شريكَ له، (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج:26].
إنّ التوحيد الخالصَ هو عماد خلافةِ الإنسان في الأرض، وهو أفضلُ ما يُطلب وأجلُّ ما يُرغب وأشرفُ ما يُنسَب، لا يُشيَّد الملك العتيدُ إلا على دعائم التوحيد، ولا يزول ويتلاشى إلى على طواسمه، ما عزّت دولةُ الإسلام إلا بانتشاره، ولا ذلَّت واستكانت إلا باندثاره.
إنّه التوحيد الخالصُ الذي يأرِز بالناس إلى بِرّ الأمان والوقايةِ من زوابع الشرك بالله في ألوهيته وربوبيته والإلحاد في أسمائه وصفاته. إنّه توحيدٌ يعلِّق الرجاء بالله، والخوف منه، والاستعانةَ والاستغاثة به، وأن لا يُحكم في الأرض إلا بما شرع الله سبحانه. إنّه التوحيدُ الذي يغمر قلوبَ المسلمين باليقين الخالص، والذي شُرع الحج لأجله؛ حيث يقول الباري سبحانه: (حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج:31].
ولذا جعل الله الكعبةَ البيتَ الحرام قيامًا للناس، وما الحجَر الأسودُ إلا موضعُ الابتداء ونقطة التمييز في هذا البناءِ المبارك، وليس للبركةِ والتبرّك محلٌّ مع الأحجار غير الاقتداءِ بالنبيّ –صلى الله عليه وسلم- بتقبيله والطواف بالبيت، ولقد صوَّر الفاروق -رضي الله عنه- هذا الفهمَ الحسَن بقوله: "إني أعلمُ أنك حجرٌ لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ رسول الله يقبِّلك ما قبَّلتك".
والمسلمُ ينبغي أن يعلمَ علمَ اليقين عندما يطوف بالبيت ويقبِّل الحجر الأسودَ ويستلم الركن اليمانيَّ أنّ النافع الضارَّ هو الله وحدَه، وأن أيَّ إخلالٍ بهذا المفهوم فإنّه يوقع في براثن الشركِ بالله الذي ما أُسِّس البيت العتيق إلا لنفيه وإزالتِه، ولذلك بعثَ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- أبا بكر -رضي الله عنه- في العام التاسِع بالحجّ ليناديَ في الناس يومَ النحر أن لا يحجَّ بعد العام مشرِك، ولا يطوفَ بالبيت عُريان. رواه البخاري ومسلم. (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج:30].
ووقفةٌ أخرى -عبادَ الله- مع آياتِ الحجّ، حيث يبيّن الله -جلّ وعلا- أحكامه وآدابَه ليعلمَ الناسُ ما يجب عليهم في تلك العرَصات، وما لأوامر الله من التعظيم والامتثالِ والتحذير من الإخلال بها أو التكاسُل عنها أو التساهُل بآحادها؛ إذ العبادةُ ليست محلاًّ للعبَث ولا للإخلال بها من أيّ وجهٍ كان؛ فلهذا جاء قول الباري سبحانه دالاًّ على توعُّد المقصِّر فيها والمتهاون عنها حيث يقول سبحانه بعد سردِ شيء من أحكام الحج: (ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [البقرة:196]، ولم يقل: واعلَموا أنّ الله غفور رحيم؛ وذلك لأجل التأكيد على حرمةِ الحجّ وعلى حُسنِ الأداء على الوجه الأكمل؛ لأنّه يقع ضمنَ حدود الله -جلّ وعلا- التي شرعَها وهو القائل: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ) [البقرة:229]، وليطالَ نفسَ المؤمن الانتباهُ إلى أنّ العقابَ في مقابِل التهاون.
ووقفةٌ أخرى مع آياتِ الحجّ -عبادَ الله-، تتَّضِح في جعل الحجّ محلاًّ للتعاون والبذلِ والإحساس بالآخرين وسدِّ حاجتهم حتى في مواطِن العبادة، فتأتي الآيةُ في سياقِ ذكر الحجّ دالّةً على عِظَم التعاوُن والحاجة إلى العطف على الفقراء والجوعَى وسدِّ مسغَبتهم، فيقول الله سبحانه: (لّيَشْهَدُواْ مَنَـافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج:28]، وفي الآية الأخرى يقول: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَـانِعَ وَلْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْنَـاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الحج:36]، والقانِع هو الذي لا يسأل الناسَ إلحافًا مع جوعه وإملاقه، والمعترُّ هو الفقير الذي يتكفَّف الناس.
ووقفةٌ رابعة -عباد الله-، تتجلّى في قيمة التقوى وعِظَم أثرِها، وأنها هي الميزانُ الذي توزَن به الأعمال ويوزن به الناس، ولذا كثُرت الوصية بالتقوى في آيات الحج، فقد قال سبحانه: (وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [البقرة:196]، وقال أيضًا: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الألْبَـابِ) [البقرة: 197]، وقال سبحانه: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) [البقرة:203]، وقال أيضًا: (ذلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32]، وقال سبحانه: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) [الحج: 37]. إنها التقوى -عبادَ الله- التي هي جماعُ الخير كلِّه.
إنّك -أيها المسلم- إذا عبدتَ الله على نورٍ من الله ترجو ثوابَ الله، وتركتَ محارمَ الله على نورٍ من الله تخشى عقابَ الله، فقد حقّقتَ التقوى بحذافيرها في واقعِ حياتك، والتي من خلالها تقوم بالحقوق المنوطَةِ بك تجاهَ خالقك وتجاه إخوانك في الدين.
ومظاهرُ الحجِّ -عباد الله- كلُّها دالّة على هذا المقصد، فالمسلمون كلُّهم كالجسد الواحد، وهم كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا، والمسلمون في عرصَات الحجّ المبارَك يعيشون لحظاتٍ تتجسَّد فيها معاني التقوى المفرِزة لأساس الأخوّة الوثيقة العُرى، التي تؤلِّف بين المسلمين على اختلاف ألوانهم وألسنَتِهم، فحينما يستبدل الحجّاج زِيَّهم المعتادَ بِزِيِّ الحجِّ الموحَّد فيصبحون حينها بمظهرٍ واحد، ويتوجّهون إلى ربٍّ واحدٍ بتلبيةٍ واحدة، ويُسقطون بهذه التّلبية كلَّ هُتافٍ وطنيّ وكلَّ شِعارٍ عِبِّيّ، يطوفون حولَ بيت واحدٍ، ويؤدّون نسكًا واحدًا، إنّ هذه الصورة الحيّةَ لتُعدُّ ثمرةً يانِعة من ثمراتِ التقوى التي توحي إلى الناس بأنّه ليست هناك دواعٍ معقولةٌ تجعلهم يعيشون متناكرين متنافرين، عن اليمين وعن الشّمال عِزين، وليس هناك دواعٍ إلى أن يتكبَّر المتكبِّرون ويتجبَّر المتجبِّرون، وليس هناك دواعٍ إلى التفاخُر بالأحساب والأنساب والألقاب، بل إنَّ تمكّنَ التقوى من نفس العبد المؤمنِ ليجعله يستحضر بداهةً أنّ الله -عزّ وجلّ- قد ردَّ أنسابَ الناس وأجناسَهم إلى أبوين اثنين، ليجعلَ من رَحِم حوّاء ملتقًى رحبًا تتشابك عنده الصِّلاتُ وتستوثِق العُرى، (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَـارَفُواْ) [الحجرات:13].
إنّه التعارف والتآلفُ والتعاون، وليس للّون ولا للِّسانِ ولا للَّقَب محلٌّ بينها، ولا للُّغة ولا للجِنس والوَطن من حسابٍ في ميزان الله، إنما هناك ميزانٌ واحد تتحدَّد به القِيَم ويُعرَف به فضلُ الناس: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَـاكُمْ) [الحجرات:13].
بالتقوى -عبادَ الله- يعلو المرءُ ويشرُف كما عَلا صهيبٌ وشرُف سلمان -رضي الله تعالى عنهما-، وبزوالها يتحقّق الذلُّ والهوان ويضَع الله تاركَها كما وضَع أبا لهبٍ بالشرك والكفر.
إنها التّقوى -عبادَ الله- التي جعلت محمّدًا -وهو مِن سادَة قريش- يزوِّج ابنةَ عمّته زينبَ بنت جحش الأسدية بزيد بن حارث -رضي الله تعالى عنه- وقد كان مولى للنبيّ –صلى الله عليه وسلم-، وقد قال -صلوات الله وسلامه عليه- لبعض أصحابه: "يا بني بَياضة: أنكِحوا أبا هندٍ وأنكِحوا إليه". وقد كان حجّامًا -رضي الله عنه-. رواه أبو داود والحاكم.
(يَـا بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُورِى سَوْءاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آيَـاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف:26].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمنَ الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطانِ، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.
أمّا بعد:
فيّا أيّها الناس: لنا وقفة خامسةٌ مع آيات الحجّ في كتاب الله تعالى، يذكّر الله من خلالها المسلمين بنعمةِ الإسلام والهدايةِ التي منَّ الله بها عليهم؛ حيث أنقَذهم من عبوديّة غير الله إلى عبوديّته وحدَه، ومن جَور الأديان إلى عدلِ الإسلام، ومن ضِيق الدنيا إلى سَعةِ الآخرة.
إنّه -جلّ وعلا- يذكِّرهم بذلك وهُم في غمَرات المناسكِ يجولون، ولرحمَة ربِّهم يرجون: (فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَـاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالّينَ) [البقرة:196]، وقال أيضًا: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج:37].
إنها نعمةُ الهداية للدين -عبادَ الله-، إنه الخروجُ من الظلماتِ إلى النور ومن الموتِ إلى الحياة، (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَـاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَـافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام:122].
إنّ استقرارَ الفرد والمجتمعاتِ لا يمكن أن يتحقَّق إلا بالالتزام بالدين والتمسُّك بالإسلام تمسُّكَ الغريق بطَوق النجاة، وإنّ موسمَ الحج المبارَك ليشدُّ الناسَ إلى الدين ويذكِّرهم بحقّ الله، إنه يرفَع في النفوس السّويّةِ درجةَ الاستعداد لتغيير ما في النفسِ ليُغيِّر الله ما حلّ بهم، (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11].
إنّ اللهَ يذكِّرهم في آياتِ الحجّ بضرورة هذا الدّين لهم، وأنّ كلَّ أمّة تهمل أمرَ دينها، وتعطِّل شرعَ ربها، أو تستخفّ به، أو تأخذ به على استحياءٍ أو على شَرَقٍ؛ فإنما هي تهمل أعظمَ طاقاتها، وأُسَّ العزّ فيها، وتعطِّل أسبابَ فلاحها في الدنيا والآخرة، وكلّ أمّةٍ يُفقَد التديُّن في مجتمعِها، أو تعلو راياتُ التراجُع بين صفوفها، فإنها تضطرِب لا محالة، ويموج بعضُها في بعض، ويقلِب الله عزَّها ذُلاًّ، وأمنَها خوفًا، فإن تولّت يستبدِل الله أقوامًا غيرَها ثم لا يكونوا أمثالها.
والمجتمعُ الذي لا يشعُر بحاجتِه للالتزام بالدّين يُعدُّ مجتمعًا عديمَ الإيمان، بعيدًا من الرحمن؛ لأنّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- يقول: "ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان؛ من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا لله، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفر بعد أن أنقذَه الله منه كما يكرَه أن يقذَف في النار". رواه البخاري ومسلم.
إنه لا أهونَ على الله من أمّةٍ لامسَ التدينُ شغافَها، وبلغ مسامعَ بنيها وأبصارَهم، ثمّ هي تتناقص وتتخاذل وتقع في الحور بعد الكَور والضعفِ بعد القوة، ألا إنّ هدايةَ الله لدينِه لا ينالها كلُّ أحد، بل هي مِنّة من الله ورحمةٌ ينبغي لمن أعطِيَها أن يعضَّ عليها بالنواجذ أفرادًا ومجتمعات، وأن لا يكونَ لحظوظ النفس ودعاوى المغرضين سبيلٌ في إضعاف مقوِّمات الدّين في النفوس، أو رجع الصّدَى لأصواتِ الناعقين بالتّراجع عن الدين بدعاوَى التحرُّر أو الإصلاح أو غير ذلك من الأساليبِ المقَنَّعة، فإنَّ الصبغةَ الحقيقية هي صبغةُ الله، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـابِدونَ) [البقرة:138].
وأمّا الحاقدون والمغرِضون ولصوصُ الحروف الذين كرهوا ما نزّل الله، فهم آفاتُ الفتَن، وخَرق السفينةِ الماخِرة، (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ) [الأنفال:23]، (وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَاتِ لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَـارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:42، 43].
هذا، وصلّوا -رحمكم الله- على خير البريّة وأزكى البشريّة، محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب، صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكتِه المسبِّحةِ بقدسه، وأيَّه بكم أيّها المؤمنون، فقال -سبحانه وتعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد...