المصور
كلمة (المصور) في اللغة اسم فاعل من الفعل صوَّر ومضارعه يُصَوِّر،...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
فمن أراد الوصول إلى الله تعالى والفوز بجناته والنجاة من عذابه، فعليه بالعمل بهذا القرآن؛ لأنه يهديه ويدله ويرشده إلى طريق الله وصراطه المستقيم، كما أن هذا القرآن به حياة الناس وروحهم: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا). فهو روح للقلوب، تحيا به القلوب، فإذا خالط القرآن بشاشة القلب فإنه يحيا ويستنير، ويعرف ربه ويعبده على بصيرة، ولهذا فإن القلوب الخالية من القرآن تكون ميتة بلا روح، كالبيت الخرب...
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
أما بعد:
أمة الإسلام: إن أكبر نعمة أنعم الله بها على هذه الأمة هي بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإنزال القرآن الكريم عليه هداية وتبصيرًا وتذكيرًا لهم بما ينفعهم في الدنيا والآخرة.
فإن القرآن كلام الله، حروفه ومعانيه، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود في آخر الزمان: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)، وإن هذا القرآن كتاب عالمي لجميع العالمين من الجن والإنس: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً).
وإنه لهداية للخلق: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ)، وهدايته إنما هي لما هو أقوم: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، فهو مبين وهادي لأقوم الطرق وأعدلها الموصلة إلى الله سبحانه وتعالى.
فمن أراد الوصول إلى الله تعالى والفوز بجناته والنجاة من عذابه، فعليه بالعمل بهذا القرآن؛ لأنه يهديه ويدله ويرشده إلى طريق الله وصراطه المستقيم، كما أن هذا القرآن به حياة الناس وروحهم: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا).
فهو روح للقلوب، تحيا به القلوب، فإذا خالط القرآن بشاشة القلب فإنه يحيا ويستنير، ويعرف ربه ويعبده على بصيرة، ولهذا فإن القلوب الخالية من القرآن تكون ميتة بلا روح، كالبيت الخرب؛ أما صاحب القرآن فقلبه مزهر، ولهذا سمي القرآن نورًا: (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)، فهو حياة للناس، ونور يضيء لهم الطريق، والمعرض عن القرآن قلبه ميت، وهو في الظلمات يتخبط، فمن أراد الحياة والنور، فعليه بكلام العزيز الغفور.
كما أن هذا القرآن فرقان للمؤمن، يتضح له به الشر والخير والنافع والضار: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ)، كما جعله الله سبحانه شفاءً للناس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).
فهو شفاء من الأمراض الحسية والأمراض المعنوية، أمراض الأبدان وأمراض القلوب، كيف لا؟! وهو كلام الله -جل وعلا- الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فمن هذا المنطلق يجب على المسلمين جميعًا أن يتعلموا هذا القرآن ويتدارسوه، ويدرسوه لأولادهم ولإخوانهم، وأن يعتنوا بحفظه وإتقانه، كيف لا وقد علق النبي -صلى الله عليه وسلم- الخيرية على ذلك!!
أخرج البخاري من حديث عثمان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، ولقد تعبدنا الله -جل وعلا- بتلاوة القرآن، ورتّب على ذلك أجرًا عظيمًا، أخرج الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف".
فإن كان ذلك كذلك فينبغي للمسلم أن يحرص على تلاوة القرآن في كل وقتٍ وحين، وأن يعيش مع القرآن في جميع لحظاته، فتلاوته متيسرة، في الصلاة وخارجها، عند قيام وقعود وركوب واضطجاع، ولا يمتنع من القرآن إلا في حال الجنابة.
وإن مما يعتصر له القلب: هجران بعض المسلمين لكلام ربهم؛ فلا يعرفون القرآن إلا في رمضان، فكم من الخير -يا عبد الله- قد حرمت نفسك بهجرانك كلام ربك: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً).
ولهذا ينبغي للمسلم أن لا يمر عليه شهر على الأقل إلا وقد قرأ القرآن كله، وإن قرأه فيما أقل فهو أفضل، ولقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- فمن دونهم يقسمون القرآن على سبعة أيام، قال عبد الله بن الإمام أحمد -رحمهما الله-: "كان أبي يقرأ القرآن كل يوم سبعًا".
أيها المؤمنون: كلما زاد المسلم من تلاوة القرآن زاد أجره واستنارت بصيرته، وصام قلبه، اللهم ارزقنا تلاوة كتابك آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
الخطبة الثانية:
أيها المؤمنون: إن الفائدة العظمى من تلاوة القرآن والمحافظة عليها هو تدبر معانيه والتفكر فيها، والتمعن في فوائد القرآن وأسراره: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ).
فالهدف من إنزال الكتاب تدبُّر آياته، ولقد استنكر سبحانه على المعرضين عن كتابه وبين أن سبب انحرافهم وضلالهم هو عدم تدبر كلام الله -جل وعلا-: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).
وكلما زاد تدبُّر العبد لكلام الله وجل قلبه وزاد إيمانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً)، فكلما أكثر العبد من تدبُّر القرآن والتفكر فيه زاد إيمانه، واطمأن قلبه، وزاد علمه وفقهه، فإنه لا يشبع منه العلماء ولا تفنى عجائبه.
وكلما أعرض العبد عن التدبر والتفكر في القرآن، فإن قلبه يقسو، ويمرض، وفي النهاية يقفل -والعياذ بالله-، فلا يصل إليه الهدى والنور عقوبة وخذلانًا: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا).
عباد الله: لما كان السلف يتدبرون القرآن ويتفكرون في معانيه، أثر فيهم، وظهر جليًا واضحًا، فهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- كان إذا صلى سمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، أخرج النسائي وغيره من حديث عبد الله بن الشخير قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل. يعني من البكاء.
وهذا أبو بكر كان إذا صلى لم يسمع المأموم قراءته من البكاء، وكان عمر بن الخطاب يُسمع نشيجه من خلف الصفوف، وكان عبد الله بن الزبير إذا صلى تقع الطير على رأسه تظن أنه جذع شجرة، وثبت عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنه كان يختم القرآن في ركعة واحدة.
أيها المسلمون: إن العبد إذا قرأ القرآن وتدبر فيه، أدى به ذلك إلى العمل بما تضمنه، وهذه هي الثمرة المرجوة.
قال بعض السلف: "رب قارئ للقرآن، والقرآن يلعنه"، قالوا: وكيف ذلك؟! قال: يقرأ قول الله سبحانه: (فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)، وهو يكذب، ويقرأ قول الله تعالى: (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)، وهو يظلم.
عباد الله: نحن في شهر القرآن، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فاقرؤوا القرآن بتدبر وتعقل، وفهم للمعنى، وتطبيق لأوامره، واعلموا أن العبرة بقدر الأثر، لا بِالْكَمِّ.
فإذا قرأت: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا) فعليك تطبيق ذلك في منزلك وعملك وطريقك، وإذا قرأت (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)، احفظ فرجك، وعليك بالعفاف إلا من زوجك، وهكذا حتى تكون على نور من ربك ينير طريقك وقلبك.