المحيط
كلمة (المحيط) في اللغة اسم فاعل من الفعل أحاطَ ومضارعه يُحيط،...
العربية
المؤلف | أسامة بن عبدالله خياط |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
وإذا كان المسلمُ قد ختمَ عامَه بعبادة ربِّه المُتمثِّلة في حجِّ بيته والعُمرة وذكره -سبحانه- في أيام التشريق، والتقرُّب إليه بذبح ونحر الهدي والأضاحي، وبصيام يوم عرفة من غير الحاجِّ، وغيرها من القُرَب الواقعة في شهر ذي الحجَّة آخر شهور العام؛ فإنه يفتتِح...
الخطبة الأولى:
الحمد لله واسع الجُود والعطاء، أحمده -سبحانه- حمدًا يُبلِّغنا الزُّلفَى إليه ويُنزِلنا منازلَ السُّعداء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يختصُّ برحمته من يشاء، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ الأنبياء وقدوةُ الأتقياء، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا دائمَين ما دامَت الأرضُ والسماءُ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم البعثِ والنُشور والجزاء.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واذكروا وقوفَكم بين يديه (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)[النبأ:40].
أيها المسلمون: الرغبةُ في الخيرِ، والدأبُ في طلبه، وطرقُ أبوابه، وسُؤالُ الله التوفيق وحُسن المعونة على بلوغ أقصى الغاية فيه شأنُ كل أوَابٍ حفيظ، ودَيدَنُ من خشِيَ الرحمنَ بالغيبِ وابتغَى الوسيلةَ إلى رضوانِ ربِّه الأعلى بكل محبوبٍ لديه، أرشدَ وهدَى عبادَه إليه، وحثَّهم على إصابة حظِّهم منه والتزوُّد منه بنصيبٍ وافرٍ يصحَبهم في سيرِهم إلى لقائه أملاً في نزولِ دار كرامته، والظَّفَر بكريم موعوده، والتنعُّم بالنظَر إلى وجهه الكريم في جنةٍ عرضُها السماوات والأرضُ أُعِدَّت للمتقين.
وإن دلائل سعَة رحمته -سبحانه- وواسع فضله على عباده وإرادته الخيرَ بهم لتبدُو جليَّةً بيِّنةً في سعَة وتعدُّد أبوابِ الخير التي أمرَهم ووصَّاهم بها ودلَّهم عليها ووجَّه أنظارَهم إليها بما أنزلَ عليه من البيِّنات والهُدى، في مُحكَم الكتاب، وبماء جاءهم به رسولُه المُصطفى ونبيُّه وحبيبُه المُجتبَى -صلوات الله وسلامه عليه- فيما صحَّ سندُه من سُنَّته، وما ثبتَ به النقلُ من هديه وطريقته -عليه الصلاة والسلام-.
وإنها لأبوابُ خيرٍ مُشرَعة في كل حينٍ، وإنها لتستغرقُ كلَّ أيام العام؛ فليس شهرٌ من شهوره إلا ولأيامه أو لياليه وظائفُ ينجُو منها العبدُ إلى جمهرةٍ من الطاعات، وحشدٍ من القُرُبات يزدلِفُ بها إلى مولاه، وتقرُّ بحُسن الثواب عليها عيناه.
وإذا كان المسلمُ قد ختمَ عامَه بعبادة ربِّه المُتمثِّلة في حجِّ بيته والعُمرة وذكره -سبحانه- في أيام التشريق، والتقرُّب إليه بذبح ونحر الهدي والأضاحي، وبصيام يوم عرفة من غير الحاجِّ، وغيرها من القُرَب الواقعة في شهر ذي الحجَّة آخر شهور العام؛ فإنه يفتتِح عامَه بعبادة ربِّه المُتمثِّلة في صيام شهر الله المُحرَّم أول شهور العام الذي أخبر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن صيامَه أفضلُ الصيام بعد رمضان؛ كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلمٌ في "صحيحه" وأصحابُ السنن في "سننهم".
وهذا باعثٌ له على تذكُّر الغاية التي خُلِق لها والمقصود الذي ذرأه الله في الأرض لأجله، تلك الغاية وذلك المقصودُ الذي بيَّنه -عز وجل- في كتابه بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[الذاريات:56-58]؛ ذلك التذكُّر الذي يُفضِي به إلى داوم استِحضار الحقيقة التي تغيبُ عن أذهان كثيرٍ من الناس مع قوةِ رُسوخِها، وشدة وُضوحها، وقيامِ الدليلِ الصريحِ عليها من كتاب الله -تعالى-، وهي أن حياة المسلم كلها وأعماله كلها لله خالقه ورازِقه ومالِكه والمُتصرِّفِ في كل شؤونه بما يشاء كيف شاء، وأن عليه لذلك أن يجعله -سبحانه- مقصودَه ومُبتغاه وقبلةَ قلبه وغايةَ عمله: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام:162-163].
وآكَدُ الصيام في شهر الله المُحرَّم -يا عباد الله- صوم يوم عاشوراء؛ فإن فيما ورد من الجزاء الضافِي والأجرِ العظيم لمن صامَ يوم عاشوراء؛ من مثلِ ما أخرجَه الشيخان البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه سُئِل عن صوم عاشوراء، فقال: "ما رأيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- صامَ يومًا يتحرَّى قبلَه على الأيام إلا هذا اليوم -يعني: يوم عاشوراء -، وهذا الشهر -يعني: رمضان -".
ومن مثل ما أخرجه الإمام مسلمٌ في "صحيحه" عن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رجلاً سألَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عن صيام يوم عاشوراء، فقال: "أحتسِبُ على الله أن يُكفِّر السنةَ التي قبلَه".
ومن مثل ما جاء في "الصحيحين" من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: قدِمَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ، فوجدَ اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟" قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ نجَّى الله فيه موسى وقومَه، وأغرقَ فرعون وقومَه، فصامَه موسى شُكرًا، فنحنُ نصومُه. فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "فنحنُ أحقُّ وأولَى بموسى منكم". فصامَه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه.
إن في هذا الجزاء الكريم الموعود به من صام عاشوراء لَمَا يحفِزُ الهِمَم إلى كمال الحِرص على صيامه، واغتِنام فرصته وعدم إضاعتها؛ تأسِّيًا بهذا النبي الكريم -عليه أفضلُ الصلاة وأكملُ التسليم -، ومتابعةً له، ومُضيًّا على طريق السلف الصالح -رضوان الله عليهم- أولئك الذين كان لهم من العناية بصيام هذا اليوم ما لا مزيدَ عليه ولا نظيرَ له؛ ففي "الصحيحين" عن الرُّبيِّع بنت معوِّذ -رضي الله عنها- أنها قالت: أرسل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- غداةَ عاشوراء إلى قُرى الأنصار التي حول المدينة: "من كان أصبحَ صائمًا فليُتِمَّ صومَه، ومن كان أصبحَ مُفطِرًا فليُتِمَّ بقيةَ يومه". قالت: فكنا بعد ذلك نصومُه ونُصوِّمُ صِبياننا الصغارَ منهم، ونذهب إلى المسجد، فنجعل لهم اللعبةَ من العهن -أي: الصوف -، فإذا بكى أحدُهم على الطعام أعطيناه إياها حتى يكون عند الإفطار.
وفي روايةٍ لمسلمٍ -رحمه الله -: فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبةَ تُلهيهم حتى يُتِمُّوا صومَهم.
ولذا قال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله -: "إن صيامَه كان واجبًا حينئذٍ ثم نُسِخ وجوبُه، وأصبح مُستحبًّا مُؤكَّد الاستِحباب". وهو أيضًا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله -.
فاتقوا الله -عباد الله -، واحرِصوا على اهتِبال فرصة هذا اليوم المُبارَك بالصيام، مُخلِصين العملَ لله، مُتابِعين فيه رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم -؛ لتكونوا ممن فازَ فوزًا عظيمًا.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الهادي إلى صراطٍ مُستقيم، أحمده -سبحانه- وهو البرُّ الرؤوفُ الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله صاحبِ النهجِ الراشد والخُلُق العظيم، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن في صوم النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عاشوراء، وإن في صوم نبيِّ الله موسى -عليه السلام- من قبله شُكرًا لله تعالى على منِّه بنصر موسى وقومه وإغراق فرعون وقومه؛ إن فيه لدليلاً بيِّنًا على لُزوم شُكر الله على نعمه بطاعته استدِامةً للنعمة، وأملاً في المزيد منها الذي وعدَ الله به الشاكرين لأنعُمِه بقوله: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ...)[إبراهيم: 7] الآية.
فاحرِصوا -عباد الله- على شُكر الله على نعمه بالعمل على مرضاته، وتجنُّب أسباب غضبه وعقابه، وصوموا مع يوم عاشوراء يومًا قبله أو يومًا بعده؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "لئن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التاسعَ"؛ أخرجه مسلمٌ في "صحيحه".
وفي روايةٍ للطبراني -رحمه الله- في "معجمه الكبير" بإسنادٍ صحيحٍ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن عِشتُ -إن شاء الله- إلى قابلٍ صُمتُ التاسعَ مخافةَ أن يفوتَني عاشوراء".
وهو ما ذهبَ إليه الإمام الشافعي والإمام أحمد -رحمهما الله-، وكره الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- إفرادَ العاشر وحده بالصوم.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على خاتم النبيين، ورسولِ ربِّ العالمين؛ فقد أمرَكم بذلك في كتابه المُبين، فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم احفَظ المسلمين في فلسطين وفي سورية واليمن، اللهم كُن لهم، وارحَم ضعفَهم، واجبُر كسرَهم، واحقِن دماءَهم، وفُكَّ قيدَ أسراهم، وارفَع عنهم الشدَّة والضيقَ والبلاء؛ إنك قريبٌ سميعٌ مُجيبُ الدعاء.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء.
اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد، يا من إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الأعراف:23]، (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّاب)[آل عمران:8].
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيكَ آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة:201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.