الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
فكفى بالعلم فضلاً أن الله تعالى حصر الذين يخشونه في أهل العلم، فقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]. أيها المؤمنون: إن الزمان إذا كثرت فتنته، وانكب الناس فيه على الدنيا وشهواتها، لم تكن نجاة الناجين فيه إلا بطلب العلم الشرعي. ولعلنا نأتي على بعض ما جاء في فضل العلم، لتشحذ الهمم، ويذهب الكسل، وينتبه الغافل، هذا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
أما بعد:
عباد الله: إن الطابع العام على الخلق هو البحث عن السعادة والشرف، وكل إنسان يضرب طريقًا أو أكثر ليحصل به ذلك، فمستقل ومستكثر.
إلا أنه لدى كل مسلم ومسلمة طريقًا قل سالكوه، وهو أسرع طريق يوصل العبد إلى السعادة والشرف ورضوان الله تعالى وجناته.
وهذا الطريق -أيها المؤمنون- ليس حكرًا على أحد من الخلق، بل هو لكل مسلم ومسلمة من الجن والإنس، صغر سنه أم كبر، وهذا الطريق هو ميراث الأنبياء والرسل -صلوات الله وسلامه عليهم-، الذي من أخذ به أخذ بحظ وافر.
هذا الطريق -عباد الله- هو طريق طلب العلم والتزود منه، فكفى بالعلم فضلاً أن الله تعالى حصر الذين يخشونه في أهل العلم، فقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28].
أيها المؤمنون: إن الزمان إذا كثرت فتنته، وانكب الناس فيه على الدنيا وشهواتها، لم تكن نجاة الناجين فيه إلا بطلب العلم الشرعي.
ولعلنا نأتي على بعض ما جاء في فضل العلم، لتشحذ الهمم، ويذهب الكسل، وينتبه الغافل، هذا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال -جل ذكره-: (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11]، والمعنى من الآية أن الله تعالى يرفع مكانة المؤمنين لإيمانهم، وأما الذين أوتوا العلم فإنه يرفعهم فوق المؤمنين درجات لإيمانهم وعلمهم.
قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "كذا هو العلم يزيد الشريف شرفًا، ويجلس المملوك على الأسرة".
وجاء في مقدمة صحيح مسلم أن نافع بن عبد الحارث أتى عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على أهل مكة، فقال عمر: "من استخلفت على أهل الوادي؟! قال: استخلفت عليهم ابن أبزى مولى لنا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟! فقال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم –صلى الله عليه وسلم- قد قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين".
عباد الله: لقد نوّه -عز وجل- بفضل أهل العلم في كتابه بقوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ...) [آل عمران: 18].
فاستشهد المولى أهل العلم دون غيرهم من سائر البشر، وأنه سبحانه قرن شهادتهم بشهادته، وفي ذلك تعديل لهم؛ لأن الله سبحانه لا يستشهد من خلقه إلا العدول.
وفي قوله سبحانه: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه: 114]، قال ابن جبر: "لم يأمر الله تعالى نبيه بالدعاء بالاستزادة من شيء سوى العلم، وهو العلم الشرعي، وما ذاك إلا لفضل العلم وشرفه".
ومن شرف العلم وفضله أن الله سبحانه أباح لنا الأكل مما صاده الكلب المعلم دون غيره مما لم يعلم، فكيف أن البهائم العجماوات تتفاضل بالعلم، فكيف الحال ببني آدم؟!
ولقد بيّن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حال العالم وطالب العلم بين الناس في أبين مقال؛ أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فضل العالم على العابد، كفضلي على أدناكم، إن الله تعالى وملائكة وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها والحوت ليصلون على معلم الناس الخير".
سبحان الله!! يا حسرة من توانى عن طلب العلم، ففاته هذا الأجر العظيم، ومن فضائل العلم التي حرم عنها البطالون ما أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا من طريق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب".
قال الشافعي -رحمه الله-: "من تعلم القرآن عظمت قيمته"، وقال سفيان الثوري -رحمه الله-: "من أراد الدنيا والآخرة فعليه بطلب العلم". وقال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: "أرفع الناس منزلة عند الله من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فأفضل ما اكتسبته النفوس وحصلته القلوب، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان، ولهذا قرن الله سبحانه بينهما في قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ) [الروم: 56]، وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبه، والمؤهلون للمراتب العالمية".
عباد الله: من أراد أن يعرف منزلته عند الله فليعرف منزلته من العلم.
أخرج البخاري ومسلم من حديث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"، فمن لم يفقهه في الدين فتلك علامة على أنه لم يرد به خيرًا، فكفى بذلك ندامة وخذلانًا.
قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "تعلموا العلم؛ فإن تعلمه لله حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح".
وقال الشافعي -رحمه الله-: "طلب العلم أفضل من الصلاة النافلة".
وقال سفيان الثوري -رحمه الله-: "ما من عملٍ أفضل من طلب العلم إذا صحّت فيه النية".
وقال ابن المبارك والإمام أحمد -رحمهما الله-: "لا أعلم شيئًا من الأعمال أفضل من طلب الحديث لمن لحسنت فيه نيته".
معاشر المؤمنين: لقد كان سلف الأمة يفضّلون تذاكر العلم ومدارسته على جميع أنواع العبادات النافلة، حتى على قيام الليل.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "تذاكر العلم ليلة أحب إلى من إحيائها".
وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "لأن أجلس ساعة فأتفقه في ديني أحب إليَّ من إحياء ليلة إلى الصباح".
وأخرج الطبراني في الأوسط وصححه من حديث حذيفة -رضي الله عنه-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فضل العلم -يعني نافلته- أحب إليّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع".
وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "يوزن مداد العلماء بدم الشهداء يوم القيامة، فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء".
وقال -رحمه الله-: "لولا العلماء لصار الناس كالبهائم".
عباد الله: إذا كان كذلك فالواجب على العاقل اللبيب أن يسعى جاهدًا في طلب العلم، وأن يوجه أبناءه إلى ذلك ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، والعلم إنما هو العلم الذي يعرف العبد به ربه، ألا هو العلم الشرعي.
الخطبة الثانية:
أيها المؤمنون: إن من أدرك أهمية شيء طلبه مهما بلغ ثمنه، والعلم أهم لنا في حياتنا من كل غالٍ ونفيس، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "الناس إلى العلم أحوج إلى الطعام والشراب، وذلك لأن الرجل قد يحتاج إلى الطعام والشراب مرةً أو مرتين، وأما حاجته للعلم فهي بعدد أنفاسه"
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "ولا شيء أطيب للعبد ولا ألذ ولا أهنأ ولا أنعم لقلبه وعيشه من محبة فاطره وباريه، ودوم ذكره والسعي في مرضاته، وهذا هو الكمال الذي لا كمال للعبد بدونه، وله خُلق الخلق... ولا سبيل إلى الدخول إلى ذلك إلا من باب العلم... فالعلم يفتح هذا الباب العظيم الذي هو سر الخلق والأمر".
عباد الله: العلم الشرعي هو زاد الداعية إلى الله تعالى، فمن دعا إلى الله بغير علم فقد ضل وأضل، قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي) [يوسف: 108].
قال ابن القيم تعقيبًا على هذه الآية: "وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها، فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حد يصل إليه السعي".
أيها المسلمون: ومن أعظم الخصال التي شرف العلم وطالبه بها هي انتفاء الجهل عن أهله، ولما سئل الإمام أحمد -رحمه الله-: لمَ يطلب الإنسان العلم؟! قال: "ليرفع عن نفسه الجهل".
فإن العابد إذا لم يكن ذا علم فلربما هدم عبادته بجهله، بل ربما أثم بذلك وهو يظن أنه على طاعة، قال ابن القيم -رحمه الله-: "العامل بلا علم كالسائر بلا دليل، ومعلوم أن عطب مثل هذا أقرب من سلامته".
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "من فارق الدليل ضل السبيل".
وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبًا لا تضروا به العبادة، واطلبوا العبادة طلبًا لا تضروا به العلم".
معاشر المؤمنين: كم من مجتهد بطل عمله لجهله وقلة علمه، روي أن عابدًا انقطع للعبادة عدة سنين، فزاره أحد العلماء، فوجده قد طمس إحدى عينيه بالطين، فلما سأله العالم عن ذلك، قال: "نظرت إلى الدنيا فازدريتها، وقلت: إنها ليست بأهل لأنظر إليها بعينين، فطمست إحداهما، فقال له العالم: منذ كم ذا؟! قال: منذ سنين، قال: أنت منذ سنين وصلاتك باطلة؛ لأن ماء الوضوء لا يصل إلى عينك وما حولها".
فانظروا -عباد الله- كيف دخل الشيطان على هذا العابد من طريق جهله، بل أعظم من ذلك، فلربما أفسد الشيطان عليه عقيدته من طريق جهله، وبالعلم يتحصن من ذلك.
جاء في طبقات الحنابلة أن الجيلاني الحنبلي قال: "رأيت نورًا أضاء في الأفق، وبدت لي صورة ونوديت منها: يا عبد القادر: أنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات، فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اخسأ يا لعين، فإذا ذلك النور ظلام، وتلك الصورة دخان، ثم خاطبني، وقال: يا عبد القادر: نجوت مني بعلمك بحكم ربك وفقهك، ولقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطريق، فقلت: لربي المنة والفضل، فقيل له: كيف علمت أنه شيطان؟! قال بقوله: أحللت لك المحرمات".
عباد الله: إن العلم حياة القلوب ونور الصدور وزكاة النفوس، فلنحرص جميعًا على طلبه ولا يشغلنا عنه شاغل، ولا يقل العبد: قد مضى سن طلب العلم، فإن العبد يطلب العلم حتى الموت، ولما رؤي الإمام أحمد يحمل معه المحبرة وسئل عن ذلك، قال: "من المحبرة إلى المقبرة".
وليفنِ العبد وقته في طلب العلم، ولا تشغله صوارف الدهر وزخارف الدنيا.
قال ابن فارس -رحمه الله-:
إذا كان يؤذيك حر المصيف | ويبس الخريف وبرد الشتا |
ويلهيك حسن زمان الربيع | فأخـذك للعلم قل لي متى |
اللهم وفقنا لاغتنام الأوقات، اللهم علمنا ما ينفعنا، اللهم اجعلنا من أهل العلم الذين يعملون به وينشرونه بين الناس.