العربية
المؤلف | أحمد شريف النعسان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحكمة وتعليل أفعال الله |
إن العبد المنصف هو الذي يذكر حسنات الآخر ولا ينساها ولو كان في أحلك الظروف, يذكر حسنات المسيء لتكون حسناته شفيعاً لسيئاته.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: من سمات هذا الدين الحنيف: الإنصاف, ولقد علَّم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أتباعَهُ الإنصافَ فيما بين بعضهم البعض, وفيما بينهم وبين الآخرين, ولو كانوا من أبناء القردة والخنازير.
عباد الله: إنَّ غيرَ المنصف ظالمٌ, والظالمُ لو استحضر الجزاء يوم القيامة لكان منصفاً؛ لأن الله -تعالى- يقول: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8].
أيها الإخوة الكرام: مما يعين الإنسان على الإنصاف هو: أن يضع الإنسان نفسه مكان خصمه, ثم ليتساءل فيما بينه وبين نفسه: كيف يريد أن يعامله خصمه؟
لا شك أنه يريد أن يعامله بالإنصاف؛ كما جاء في الأثر: "عامل الناس كما تحبُّ أن يعاملوك".
وفي الحديث الشريف الذي رواه البخاري عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
يا عباد الله: إن العبد المنصف هو الذي يلتمس الأعذار للآخرين, ويحاول أن يوجد التبرير لأخطائهم, ويبتعد عن سوء الظن المقيت؛ لأن الظنَّ في كثير من الأمور مذموم, قال تعالى: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) [يونس: 36].
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 12].
المنصف إذا رأى من أخيه حسنة أشاعها, وإذا رأى سيئة حاول أن يجد لها تبريراً شرعياً, وإلا نصحه ثم دفنها, أما غير المنصف فإنه إذا رأى حسنة دفنها وأعلَّها, وإذا رأى سيئة أذاعها ونشرها.
نعم -يا عباد الله- المنصف هو الملتمس للأعذار, هو المحسن ظنه في الآخرين؛ لأن المخطئ في حسن الظن خير من المصيب في سوء الظن.
معشر المسلمين: الإسلام ربَّى أتباعه على إنصاف الآخرين, وعلى قول الحق ولو على أنفسهم أو على أحد من أصولهم أو فروعهم, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء: 135].
فالإنصاف وقول الحق على نفسك أو من يلوذ بك من أصول أو فروع أو حواش هو دليل على اتباع الحق, فالحقُّ أحقُّ أن يُتَّبع.
هذا سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- عندما رُفع إليه شأن المرأة المخزومية التي سرقت, قال بعض الصحابة: "من يكلِّم فيها رسولَ الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- حتى لا يقيم عليها الحد؟" وهذا من عدم الإنصاف -لأنها شفاعة لمكانتها- لأن الإنصاف أن يُقام الحدُّ على الكبير والصغير, وعلى القوي والضعيف, وعلى السيد والمسود, وعلى الحاكم والمحكوم إذا ارتكب حداً من الحدود, وهذا يحقِّق الأمن والأمان للمجتمع.
روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: "أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ, فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!" ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ, وَإِذَا سَرَقَ فِيهِم الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ, وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا" هذا هو الإنصاف الذي يعطي القوة والأمان للأمة.
أيها الإخوة الكرام: عند غير المنصف مكيالان: مكيال لمن أحبَّ, ومكيال لمن أبغض, وهذا مندرج تحت قول الله -تعالى-: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِين * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُون * أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُون * لِيَوْمٍ عَظِيم * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 1 - 6].
غير المنصف يحرق خصمَه ويحرق معه أصوله وفروعه وحواشيه, ويحرق من يأتي من نسله ولو بعد عشرات السنين؛ لأن غيرَ المنصف حاقد حاسد لا يرى إلا نفسه ومصلحته, وهذا ليس من الإسلام في شيء؛ لأن ربَّ العباد الذي خلقهم, والذي لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون, إذا حجب محبته عن عبد من عباده لخيانته أو لكفره أو لظلمه, فإنه لا يتجاوز العبد المسيء لغيره, ولو كان من ألصق الناس به.
هذا فرعون, ذاك العبد الذي حُجِبَ عن محبة الله -تعالى- بسبب قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38].
وبسبب قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [النازعات: 24].
بسبب قوله: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَاب * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) [غافر: 36 - 37].
وبسبب قتله للأبرياء, وبسبب إفساده في الأرض, تأتي زوجته السيدة آسية -رضي الله عنها- لتقول لربنا -عز وجل-: (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) [التحريم: 11].
ويلبي ربُّنا -عز وجل- طلبها؛ لأنه هو القائل في كتابه العظيم: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164] هذا هو الإنصاف والعدل الذي يجعل العباد في قوة وأمان.
يا عباد الله: إن العبد المنصف هو الذي يذكر حسنات الآخر ولا ينساها ولو كان في أحلك الظروف, يذكر حسنات المسيء لتكون حسناته شفيعاً لسيئاته.
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد | جاءت محاسنه بألف شفيع |
يا عباد الله: انظروا في سيرة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- لتتعلموا ولتتبعوا هديَ حبيبكم المصطفى -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, تعلَّموا منه كيف يكون الإنصاف؛ لأن الإنصاف يولِّد المحبة بين الناس, ويجعلهم متماسكين متآلفين متحابِّين, ويكون الإنصاف عوناً للمسيء على ترك الإساءة.
أيها الإخوة الكرام: عندما كان الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يجهز الصحابة الكرام لفتح مكة المكرمة, فإذا بواحد من أصحابه الكرام يقع بكبيرة من الكبائر -ولا عصمة إلا للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- حيث قام بكتابة كتاب لقريش يحذِّر فيها قريشاً من غارة المسلمين عليهم, وهذا الأمر في اصطلاح الناس اليوم خيانة عسكرية تستوجب القتل.
أطلع اللهُ -عز وجل- نبيَّه -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- على هذا الأمر, فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- سيدنا علياً والمقداد والزبير لإحضار هذا الكتاب, ولما صار الكتاب بين يديه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم استدعى كاتبه, وكان اسمه "حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه-", فقال له رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "يا حاطب ما هذا"؟
سبحان الله! ما هذه العظمة؟ وما هذا الحلم والأناة؟ وما هذا الإنصاف؟ لم يتعجَّل سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- بالحكم عليه, وحاشاه من العجلة! لعلَّ حاطباً عنده عذر في ذلك! وكيف لا يسأله رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وهو الذي علَّم الأمة بأنَّ ربَّ العباد عندما يقرِّر العبد يوم القيامة على أفعاله يسأله ربنا -عز وجل-, وهو العليم بحاله: "أفلك عذر؟" [رواه الترمذي عن عمر بن العاص -رضي الله عنه-].
يا عباد الله: الإنصافَ الإنصاف, واحذروا العجلة والحكم على الآخرين بدون تثبُّت ولا روية, والتمسوا الأعذار للآخرين حتى تتثبَّتوا؛ لأن العبد المنصف يحبُّه الله -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة: 42].
وغير المقسط وغير المنصف لا يحبه الله -تعالى-, كونوا شديدين على أنفسكم رحماء بالآخرين؛ لأن الراحمين يرحمهم الله -تعالى-, ومن الرحمة: الإنصاف.
معشر المسلمين: سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يسأل حاطباً: "يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟" قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لا تَعْجَلْ عَلَيَّ, إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ, وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا, وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ, فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي, وَمَا فَعَلْتُ كُفْرًا وَلا ارْتِدَادًا وَلا رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَقَدْ صَدَقَكُمْ" قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ! قَالَ: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا, وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ) إِلَى قَوْلِهِ (..فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة: 1] [رواه البخاري عن علي -رضي الله عنه-].
هذه هي عظمة الدين التي تعلِّم المسلمين الحلم والأناة, وأن يذكروا الحسنات إذا صدرت السيئات من إخوانهم, وأن يلتمسوا الأعذار, وهذا هو القرآن العظيم يعلِّم الأمة أن لا يتعجَّلوا في الأحكام, وأن لا يُخرِجوا إخوانهم عن دائرة الإيمان ولو وقعت منهم كبيرة من الكبائر, لعلهم معذورون فيما فعلوا.
فربُّنا -عز وجل- ما أخرج حاطباً عن دائرة الإيمان, بل وجَّهه إلى الصواب في الأفعال, فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) [الممتحنة: 1] هذه هي القوة, وهذا هو الإنصاف والعدل, وهذا هو الصراط المستقيم.
يا عباد الله: لقد أكرمنا الله -تعالى- بتشريع عظيم نفخر به على الناس جميعاً, وندعو الناس جميعاً إليه, من سمات هذا التشريع: الإنصاف مع الآخرين؛ لأن الإنصاف سبيل من سبل الدعوة إلى الله -تعالى-, ولأن الإنصاف سبب للتآلف والتحابب بين العباد, ولأن الإنصاف يقطع الطريق على من يعيثون في الأرض فساداً, ولأن الإنصاف يقطع الطريق على شياطين الإنس والجن الذين يريدون أن يوقعوا العداوة والبغضاء فيما بيننا, ولأن الإنصاف يعطينا القوة ولا يفرِّق الكلمة, ولأن الإنصاف يجعل الأمة كالجسد الواحد, ومن منا لا يحب أن ينصفه الآخرون؟
فيا من يحب أن ينصفه الآخرون: أنصف الناس من نفسك, والتمس الأعذار للآخرين, وأحسن الظن بهم, لتكون من الرابحين يوم القيامة -إن شاء الله تعالى-.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم, فيا فوز المستغفرين.