الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | عاصم محمد الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
لقد سجل القرآن أعظم فرية في الزمان، حكى فصولَها فرعونُ وهامان، حين أوهم البُلْهَ ومغفلي الطرقات والسُّذَّج الخانعين أن هؤلاء النصحة ما هم... بين القلب السليم والقلب المنكوت خيطٌ رقيقٌ اسمه قبولُ النصح وكلمةِ الحق، فماذا يبتغي مكممو أفواه الناس عن...
الحمد لله؛
سابغ النُّعْمى على كل أَحَدْ..
يخلق الخلقَ وما شاء قَصَدْ..
كُلُّ شيءٍ حدُّهُ باقٍ وما للفضلِ منه أيُّ حَدّْ..
جلَّ رَبِّي واحدٌ، جَلَّ رَبِّي، مَا سواه كُلّ شيءٍ مُسْتَرَدّْ..
لا تعدَّ الزادَ يا ابنَ الطينِ لليوم، أعِدَّ الزاد يا ابنَ الطين والتُّرْبِ لِغَدْ..
سوف يأتي اليومُ، كُلٌّ راحلٌ، سوف يأتي، وإلى الله المــَرَدّْ...
سوف يأتي اليومُ، فيه تسمع الكون ينادي: قل هو الله أحد.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته، وأشهد أن محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله، صلى الله عليه، نبي الله:
يا من ذرفْت من العينين أَدْمُعَهَا | والنفسُ ذائبةٌ شوقاً لِمَرْآَنَا |
مشاعري عجزَتْ عن وصف لَهْفَتِهَا | إليكمُ ولهيبُ الشوق أضنانا |
فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
(وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)! إذا كان حبك الشيء يُعمِي ويُصِمّ، فبغضُك الشيء يعمي ويصم! عجباً لهذا البغض! يقضي على المرء حتى يرى به حسنا ما ليس بالحسَن، ويقضي عليه حتى يريَه السوء في جلبابٍ حسن!.
عجباً لهذا البغض! يُعشي الأعين حتى لا تفرق بين أسود وأبيض! عجباً لهذا البغض حين يبدي كل عيب، وعجبا للحب حين لا يبدي العيوبا!.
يعتمل البغض في نفس صاحبه حتى يرى في الأشياء أضدادها، وفي الرجال عيوبها، وفي العيون أقذاءها.
إنه لأمر عجاب! ليس شيء أضيع للمرء حين يقرر البغضُ مواقفه، وتحرك الشحناء إرادته، وتبني عينُ السخط فيه المحاسن.
ليس شيء أضيعَ من ذاك، وإذا كان كذاك، فليس شيءٌ أخطر على امرئ وأشدّ من رده للنصح الرشيد، جامعاً مع رده بغضه لمــُهدِيه؛ أحشفاً وسوء كيل؟ فليُسعدِ النطقُ إن لم تُسعفِ الحال! (وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)!
إنه لا رُقِيَّ لحضارة، ولا فلاح لحاضر أمة، ولا صلاح لمستقبل دولة، حتى تهب الأذن السميعة مع القلب الرضِيِّ، لكُلِّ نصيحٍ أو نصيحةِ حازم.
إنه لا رقي ولا فلاح ولا نجاح حتى توهب أوسمة التقدير والإجلال لرقاب ناصحيها،
إنه لا رقي ولا فلاح ولا نجاح لها حتى يكون الناصحون هُمُ المُكْرمين المنصورين، حتى تخاط التيجان لتُنصَب فوق رؤوسٍ خافت اللهَ وأهدت النصح الرشيد!.
إنه لا ذاك ولا ذاك ولا ذاك حتى يكون مقام النَّصَحة في المحل الأرفع، والمقام الأسنى من قلوبها، وإلَّا يكُنْ تَكُنْ فتنة في الأرض وفساد عريض!
شُكراً لمــُهدِي النصحِ لي إِنِّي لَهُ | أُزْجِي حُبُوري والدعاءَ الصادقَا |
لا خير فيَّ ولا فيمن علمني إذا كنت سأجعل النصح في حقي غضاضة، وأنا أعلم أن الخوافي قوةٌ للقوادم! لا خير فيَّ ولا في من علمني إذا كرهت ناصحي لا لشيء إلا لأنه يحمل نصحا صادقا، وقلبا به سامقا، فلماذا البغض إذن؟
وهل النصيحةُ في الورى ممقوتةٌ | حتى يكون جزاءَها البغضاءُ؟ |
لقد سجلت الحضارات والقيادات والأمم موتها حين وأدت النصحَ والنصيحةَ في أفواه الناصحين، ولقد سجلت القيادات والحضارات والأمم أنها احتُضرت لأنها قالت للناس عن الناصحين: إنا نخاف أن يبدلوا دينكم ويُظهروا في الأرض الفساد!.
لقد سجلت احتضارها حين وهِمت أن أصدقاءها هم أعداؤها، وأن أعداءها هم أصدقاؤها! لقد احتُضرت لأنها ما فرقت بينهم، أحبت الغشَشَة، وأبغضت من يقول لها: يا قوم لكُمُ الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟
لقد سجل القرآن أعظم فرية في الزمان، حكى فصولَها فرعونُ وهامان، حين أوهم البُلْهَ ومغفلي الطرقات والسُّذَّج الخانعين أن هؤلاء النصحة ما هم إلا شرذمةٌ تريد أن تبتلعهم، وتذهبَ بالطريقة المثلى لهم، وتخرجَهم من ديارهم.
إنه التزوير! زوَّروا هذه الحقائق ظلما! فالصلاح العظيم صار فسادا، يا له من تزوير حين تكون للمفسد شجاعة لأن يدعي قائلا: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد!
وما هُوَ إلا مُفْسِدٌ وابنُ مُفْسِدٍ | وذو حَنَقٍ في العالمينَ عريقِ |
يا له من تزوير حين يَستبدلُ المفسدون الحقائق ليكونوا هم المصلحين، وليكون غيرُهم المفسدين!
لو أقسمَتْ حشَراتُ البيدِ ما قدرَتْ | ما أصبحت بُلْبُلَاً في البِيدِ غِرِّيدَا! |
ثم كان عاقبة أمرِهم أنْ دمَّرَهُم الله وقومهم أجمعين، ولا كرامة لمن يحارب الناصحين باسم تفريق الصف والنية المبيتة، والإخراج من الأرض، كانت تلك عاقبةَ أمرهم، كانوا لا يحبون الناصحين! والله يعيد التاريخ!.
إن النصيحة ثمنُ رَدِّها نفيس، وإن رادّها لخسيس، وإن أقبح الناس من رد النصيحة وهو عالم بصدقها، وما يمنعه من قبولها إلا بغضُ صاحبها.
لما فتح رسول الله صلى الله عليه مكة، وسمعت به هوازن، جمعها مالك بن [عوف] النَّصْري، واجتمعت إليه ثقيف؛ وأخرجت بنو جُشَم حكيمها وكبيرها دريدَ بنَ الصمة، وهو يومئذ شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه، ومعرفته بالحرب.
فلما أجمع مالك بن عوف للمسير حط مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم، فلما نزلوا بأوطاس اجتمع إليه الناس، ومنهم دريد، فقال لهم دريد: بأي واد أنتم؟ فقالوا: بأوطاس، فقال: نِعم مجال الخيل! ليس بالحزن الضَّرْس، ولا السهل الدَّهْس! مالي أسمع رغاء الإبل، ونهيق الحمير، وبكاء الصغير؟ قالوا: ساق مالكُ بنُ [عوف] مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، قال: أين مالك؟ فدعي به.
فقال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا اليوم له ما بعده من الأيام، فلم سقت مع الناس أموالهم ونساءهم وأولادهم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم! فقال دريد: هذا رأي راعي ضأن، وهل يرد المنهزمَ شيءٌ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعْك إلا رجلٌ بسيفه ورمحه؛ وإن كانت عليك فُضحت في أهلك ومالك! فارفعهم إلى أعالي بلادهم، وعليا قومهم، والق القوم بالرجال على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك، ولم تُفضح في حريمك.
فقال: والله لا أفعل ذلك أبداً، إنك قد خرفت وهرمت، وخرف رأيك وعلمك، وما أراك إلا شيخ سوء.
فجعل مالك بن عوف ينادي بالقبائل: يا بني ثقيف، يا هوازن، والله لتُطيعنني أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري! فقالوا: قد أطعناك وخالفنا دريداً، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه! ثم قال:
يا ليتني فيها جذع | أخبّ فيها وأضع |
فانهزموا شر هزيمة، وسُبيت النساء، وقتلت الرجال، ثم أنشد دريدٌ يقول:
وقلتُ لِعارِضٍ وأصحابِ عَارضٍ | وَرَهط بني السَّودَاء والقوم شُهَّدَى |
إنّ الأحاليفَ كُلّها | مطنّبة بين الستار وثَهْمَد |
ظنُّوا بألفَيْ مدَّجج | سَراتهم بالفارسيّ المْسرَّدِ |
فلما عصوني كنت منهم وقد أرَى | غِوايتَهم، أو أنَّنِي غيرُ مهتدِي! |
أمرتهمُ أمْرِي بمنْعَرجَ اللِّوىَ | فلمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْد إلا ضُحى الغد |
ثم ماذا إذا استبانوا الرشد ضحى الغد؟ وهم الذين أُوقدت لهم المصابيح في الليل ليروا الحقيقة! ولكنهم أطفؤوها! ثم ماذا؟ والثمن الباهظ دفعه الناس كلهم لأجل عنترية جبانة من فاسد مفسد، لم يكن همُّه إلا إنفاذَ زعامته لأجل لُعاعة من كبرياء، قاتل الله الكبرياء! (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) [يس:45-46].
لقد سجل لنا القرآن قصة الرهط التسعةِ الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ماذا كانوا يبتغون وهم يفسدون؟ ماذا كانوا يبتغون لكي يصدقوا نبوة نبي الله صالح؟ ماذا كانوا يبتغون وهو الذي يقول لهم: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء:143-144]، وماذا كانوا يظنون أنه يبتغي منهم، وهو الذي يقول لهم: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء:145].
ما كانت نصيحته إلا رفقا وحبا وشفقة وصدقا، (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) [الشعراء:146-149].
كان لا يبتغي منهم إلا أن يؤدوا زكاة ما آتاهم الله من لدنه رحمة ونعمة، أن يؤمنوا بالله وحده ولا يشركوا به شيئا! (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء:150-154].
ولكن؛ حتى وهم يتبجحون في مقام نبوته، فقد أضفى الله عليهم ستره وإمهاله ولطفه، فقد كان الرد من نبي الله أنْ: (قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء:155-156].
ولكن؛ كما قال الأول: ومَن لك بالحُرِّ الذي يحفَظُ اليدا؟ (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف:77].
فلما أعذروا بفعلهم, وقطعوا كل سبيل إصلاح، وأبوا سماع النصح والنُّصَّاح، (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [الأعراف:78].
وهنا يخبرنا الله لأول مرة في القرآن على لسان نبيٍّ أن هلاك قوم ما كان إلا لبغضهم لناصحيهم وما كانوا يحملون، (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف:79].
قلت ما قلت وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل خطيئة فاستغفروه...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على المفسدين الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
النصحُ مثلُ الدَّوَا مُرٌّ مَذَاقَتُهُ | لكنْ عواقبُهُ أحْلَى مِنَ الْعَسَلِ! |
رحم الله امرأً قيل له اتق الله فأخذته الذلة والوجل بالحق، وأنِفَ أنف امرئ قيل له اتق الله فأخذته العزة بالإثم!.
لقد كان كتاب الله يرشدنا وهو يسرد علينا قصص المستكبرين عن النصيحة وعن سماعها،
لقد كان يسرد قصص الذين أغوتهم شياطينهم، فما أجابوا الداعي، بل سخروا منه، ولمزوه، لتحق عليهم كلمة العذاب، أفأنت تنقذ من في النار؟!.
من كان يصدق أن أحبَّ خلق الله إلى الله إبراهيمَ -عليه السلامُ- لن تقبل شفاعته في أبيه، وهو الذي لو يستطع بكل ما أوتي من هداية الإرشاد أن يهديَ أباه لفعل، أو يشفع له بدخول الجنة لفدى بحياته.
لقد استجاب الله كل دعوة كان يدعو بها نبيُّ الله إلا شفاعتَه في أبيه، كان ينادي ربه: (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [الشعراء:86-87]، كان يستغفر لأبيه،كان يدعو له، فما أغنى عن أبيه كلُّ ذلك، وهو المستكبر عن الحق!.
أيُّ شيء كانت جريمة أبيه آزر؟ أيُّ شيء؟ أيُّ شيء به ردت شفاعات إبراهيم وتوسلاته ودعواته ورجاءاته لربه، وهو خليل الله وأحب خلق الله إلى الله؟ ماذا كانت جريرة ُ أبيه؟ يختصر الله قصته، فيذكر أنه بعد نصح إبراهيم لأبيه، بكل لطفٍ وحب وشفقة، وهو يكرر نداءاته: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) [مريم:43-45].
ولكن؛ أنى يدخل الإيمان في قلب رجل أعماه الهوى وبغضُ النصيحة والناصحين؟ (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم:46]، لئن لم تنته يا إبراهيم عن نصحك لأرجمنك واهجرني مليا! عندئذ أُغلق الباب.
والله لو تشفعتَ يا إبراهيمُ بكل جاهك وجلالك وعظمتك وخليليتك عند الله أن تدفع عن أبيك موضع درهم من العذاب ما فعلت! حقت كلمة الله أن المسرفين المستكبرين هم أصحاب النار.
"يلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟ ألم أقل لك لا تعصني؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ آزر: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ. فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِني يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، انظر مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ. فَيَنْظُرُ إبراهيم فَإِذَا أبوه يمسخ ذِيخا مُلْتَطِخا، وهو الضبع المطلي بالرجيع وبالدم، فَيُؤْخَذُ آزرُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ!"، كان لا يحب الناصحين وما يحملون!.
إنه لأمر جليل أن يُستهان بكلمة الحق، ويكون جزاءَها الردُّ والسخرية والاستغناء عنها، وما أحد بمستغن! إنه لأمر جليل وخطير أن يستهان بشأن الركن السادس من أركان الإسلام، بل هو الإسلام كله: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة"، وإنه لأمر جليل أن يستهانَ بأصحابه، إنه مقدمة للولوغ إلى باب الاستكبار الذي هو أول باب من أبواب جهنم.
إنه لأمر جليل أن تُكرْسف الأسماع عن قبول النصح المُشْفِق، والحق الأوثق؛ لِهَوَىً مطاع! وإنه لأمر أجل وأخطر أن يستهان بالحق الذي معهم ويسخرَ منه؛ لأجل حملته!
ماذا يضيرُكَ إنْ سمِعْتَ نصيحتي | والنصحُ أرخَصُ ما يُباعُ ويوهَبُ؟ |
ويزيد الأمر جُلّى حين يكون ردُّ النصح فيما كان من شأن الأمة كلها، وفيما هو عائد في مصلحتها الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية والدينية. من هو الذي يعلو على كلمة الحق؟ ومن ذا الذي هو في غنية عنها؟ وثالثُ أتقى رجلٍ في هذه الأمة يقرر لمن حوله هذا المعنى ليقول لهم: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها!.
من ذا الذي في غنية عنها، وأتقياء العالم هم أصدق الناس في قبولها، والتمثل بها، وشكر قائلها؟ بل يرددونها على أنفسهم؛ من ذا الذي في غنية عنها؟
خُذِ النُّصْحَ مِنِّي ما استطعتَ ولا تُعِنْ | شياطينَ قلبٍ أنْ تردَّ النصائحا |
إن كل إنسان يضيق بكلمة الحق ويضيق بها وبقائلها يجب أن يغسل قلبه من جديد!
أول خطوات الفساد والحفرِ تحت جذور السقوط هو الغطرسة والاستكبار عن سماع كلمة الحق، والسخرية بقائليها.
حفظت لنا السير أن هناك من المشركين الذين كانوا في عهد رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، عاشوا كفارا وماتوا كفارا، ولكنهم لم يتعرضوا لسبيل النصيحة والناصحين بشيء، فحفظها رسول الهدى لهم، وذكرهم بخير.
يُرسل رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- رسالة إلى كسرى أن أسلم تسلم، فيمزق كسرى رسالةَ رسول الله، فيدعو عليه: "اللهم مزق ملكه"، فيتمزق ملكه، وتتمزق دولته العتية على التاريخ في ظرف عشرين سنة!.
وفي المقابل: يرسل رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- رسالة إلى المقوقس ملكِ القبط في مصر، أن أسلم تسلم، فيكرم المقوقس رسالة رسول الله ويهبُ مع الرسل هداياه لرسول الله، ويبعث معهن جاريةَ الجواري: ماريةَ القبطية، ليقبلها النبي -عليه الصلاة والسلام-، ويذكره، ويذكر دولته بخير.
ما الذي تغير؟ كلاهما مات على الكفر، ولكن كلمة كسرى مزقت ملكه، وكلمة المقوقس حفظت ملكه!.
وإذا كان ذلك في حال كفر المنصوح؛ فما الحال في حال إسلامه؟ سيكون الأمر آكد وأولى بالقبول!.
بين القلب السليم والقلب المنكوت خيطٌ رقيقٌ اسمه قبولُ النصح وكلمةِ الحق، فماذا يبتغي مكممو أفواه الناس عن قولها وقبولها؟.
ماذا يبتغي المكممون؟ هل يريدون تخلية الجو ليبيِّضوا ويَصْفروا؟ ماذا يبتغي المكممون؟ هل يبتغون أن تسلم لهم السفينة ويخرقوا في نصيبهم خرقا ويشربوا من أسفلها، ليهلك الجميع؟ أم ماذا يبتغون؟.
ما ذا يبتغي المكممون، قديما أرادوا أن يكمموا أفواه من أرادوا تلاوة القرآن، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت:26].
ماذا يبتغي المكممون؟ أيريدون أن تشيع فاحشة الفساد، ويُطبع الخراب في البلاد، وينال الجميع من سكوتهم سوط عذاب، ليصفق الجميع لهم ويُقال: لهم شكرا أيها الأصدقاء؟ كلا! إذن؛ فما ذا يبتغون؟.
وقل الحق من ربكم، احتسب معذرة إلى الله، وكن كنصَحة أصحاب السبت،
قل كفى للفساد الديني، واستلهم معارك الأنبياء مع أقوامهم! قل كفى للفساد الأخلاقي، واستلهم معركة لوط -عليه السلام- مع قوم سفَلة فجرة، فإنك إن لم تفعل فخشية القلب أن يصيبك ما أصابهم.
قل كفى للفساد الاقتصادي، واستلهم معركة شعيب مع قومه، (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الشعراء:181-183].
ولا يضرك عدم استماعهم, فما أُهلك قوم شعيب إلا لعدم سماعهم النصيحة: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) [الأعراف:93].
قل كلمة الحق، ولا يضرُّك امتناع الناس، وامتثل إن امتنعوا قول نبي الله صالح -عليه السلام-: ( وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [هود:34].
قل كفى لكل فساد بكل أنواعه وألوانه ومسمياته، فالله لا يُصلح عمل المفسدين،
وإذا ضقت ذرعا عن قولها، فلا تخذل من قالها، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117].
اللهم أصلح فساد قلوبنا وأعمالنا وبلادنا وولاتِنا، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا.
اللهم صل وسلم على نبيك محمد...
اللهم أغث قلوبنا بالأمن والإيمان وبلادنا بالأمطار والبركات.
اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا.
اللهم فرج هم المهمومين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم اغفر لنا ووالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.