البحث

عبارات مقترحة:

الأول

(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

المتين

كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...

الحليم

كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...

الإيجابية في الشدائد

العربية

المؤلف قسم الخطب بدائرة الأئمة والخطباء بسلطنة عمان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. الإيجابية سمة إيمانية .
  2. التحذير من العزلة والسلبية .
  3. مواقف إيجابية .
  4. مسؤولية الإنسان عن الرقي بمستواه .

اقتباس

الإِيجابِيَّة سِمَةٌ إِيمانِيَّةٌ، وعِمارَةٌ لِلْحَياةِ الإِنسانِيَّةِ، ومِيزَةٌ لِهَذِهِ الأُمَّةِ الإِسلاَمِيَّةِ، لأَنَّها ًامَّةُ إِصلاَحٍ وإِرشادٍ، وعَمَلٍ وَجِدٍّ واجتِهادٍ، بَلْ إِنَّ ذَلِكَ فِي مَنْهَجِها شَرْطٌ أَساسِيٌّ لِلفَلاَحِ، ومَطْلَبٌ لاَ بُدَّ مِنهُ لِمَنْ أَرادَ النَّجاةَ، إِنَّ الإِيجابِيَّةَ دافِعٌ نَفْسِيٌّ، واقتِناعٌ فِكْريٌّ وعَقْلِيٌّ، وجُهْدٌ بَدَنِيٌّ، لاَ يَكْتَفِي بِتَنْفِيذِ التَّكلِيفِ، بَلْ يَتجَاوزُهُ...

الخطبة الأولى: 

الحَمْدُ للهِ الذِي أَمَرَ عِبادَهُ بِالجِدِّ والاجتِهادِ، والسَّعْيِ لِما فِيهِ مَصلَحَةُ العِبادِ، والحِرصِ علَى رُقِيِّ وازدِهارِ البِلاَدِ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، جَعَلَ السَّعْيَ إِلى الكَمالِ الإِنسَانِيِّ طَبِيعَةً بَشَرِيَّةً، والرُّقِيَّ بِالأَوضاعِ إِلى الأَحْسَنِ غَايَةً دِينِيَّةً، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّدًا عَبْدُ اللهِ ورَسولُهُ، وَصفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وحَبِيبُهُ، عَلَّمَ أُمَّتَهَ مَعانِي الهِمَّةِ والعَزِيمَةِ، وغَرَسَ فِيهم قُوَّةَ الإِرادَةِ والشَّكِيمَةِ، ونَفَّرَهُم مِنْ صُوَرِ الاستِكانَةِ والهَزِيمَةِ، صلى الله عليه وسلم وعَلَى آلهِ وصَحْبِهِ ذَوي الأَخلاَقِ القَويمَةِ، وعَلَى مَنْ تَبِعَهُم بإِحسَانٍ إِلى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ المُسلِمَ يَعِيشُ وتَقْوى اللهِ ضَابِطَةٌ لِسُلُوكِهِ، وهِيَ دلِيلُهُ فِي جَمِيعِ شُؤونِهِ، فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ- حَقَّ التَّقوى: (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [طـه: 7].

واعلَموا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ الإِيجابِيَّةَ سِمَةٌ إِيمانِيَّةٌ، وعِمارَةٌ لِلْحَياةِ الإِنسانِيَّةِ، ومِيزَةٌ لِهَذِهِ الأُمَّةِ الإِسلاَمِيَّةِ، لأَنَّها ًامَّةُ إِصلاَحٍ وإِرشادٍ، وعَمَلٍ وَجِدٍّ واجتِهادٍ، بَلْ إِنَّ ذَلِكَ فِي مَنْهَجِها شَرْطٌ أَساسِيٌّ لِلفَلاَحِ، ومَطْلَبٌ لاَ بُدَّ مِنهُ لِمَنْ أَرادَ النَّجاةَ، إِنَّ الإِيجابِيَّةَ دافِعٌ نَفْسِيٌّ، واقتِناعٌ فِكْريٌّ وعَقْلِيٌّ، وجُهْدٌ بَدَنِيٌّ، لاَ يَكْتَفِي بِتَنْفِيذِ التَّكلِيفِ، بَلْ يَتجَاوزُهُ إِلى المُبادَرَةِ فِي طَلَبِهِ والبَحْثِ عَنْهُ، ويَزِيدُ علَى مُجَرَّدِ الأَداءِ الإِتْقانَ فِيهِ، بَلْ يُضِيفُ إِلى العَملِ المُتْقَنِ رُوحًا وحَيَوِيَّةً تُعْطِي لِلعَملِ تَأثِيرَهُ وفَعالِيَّتَهُ، دُونَ أَنْ يُخالِطَهُ جَفاءٌ، أَو تَبرُّمٌ واستِثْقالٌ.

إِنَّ الإِيجابِيَّةَ صِفَةٌ يَعِيشُها مَنْ وَقَرَ الإِيمانُ فِي قَلْبِهِ، وسَيْطَرَتِ العَزِيمَةُ علَى ظَاهِرِهِ ومَشاعِرِهِ وَلُبِّهِ، فَلاَ خُضُوعَ لِلأَوْضَاعِ القَاهِرَةِ، ولاَ اسْتِكانَةَ لِلأَحْوالِ القاصِرَةِ، أَو مُواجَهتها بِالخُمولِ والانْزِواءِ، فَالأُمَّةُ لاَ تَرتَقِي إِلاَّ بِجِيلٍ يَتَسلَّحُ بِالعَمَلِيَّةِ الجَادَّةِ فِي مُواجَهَةِ المَصاعِبِ، والخُطواتِ المُتَّزِنَةِ المَدْروسَةِ لِتَخفِيفِ وَقْعِ المَتاعِبِ، فَشأنُ الدُّنْيا رَاحَةٌ وَعنَاءٌ، ورُخْصٌ وغَلاَءٌ، ومَرَضٌ وشِفاءٌ، وسَعَةٌ وابتِلاَءٌ، والقَوِيُّ مَنْ يُقابِلُ أَفراحَها بِالحَمْدِ والشُّكْرِ، ويَقِفُ فِي وَجْهِ أَتْراحِها بِالتَّدْبِيرِ والصَّبْرِ، فَمَهْما صَعُبَتْ فِي وَجْهِ المَرْءِ الأَحْداثُ، وتَكالَبَتْ علَيهِ مِنْ حَولِهِ الخُطُوبُ، فَإِنَّ البُكاءَ والجُمودَ والاستِكانَةَ أُمورٌ لاَ يُبَرِّرُها لَهُ الدِّيِنُ، ولاَ يَجِدُ لَها مَكانًا فِي مَنْهَجِ المُسلِمينَ، ولَمَّا كَانَتِ الإِيجابِيَّةُ بِهذا القَدْرِ مِنَ الأَهمِيَّةِ، وفِي هَذِهِ المَنْزِلَةِ السَّامِيَةِ العَلِيَّةِ، شَرَعَ اللهُ تَعالَى مِنَ الشَّرائعِ ما يَجْعَلُ الفَرْدَ إِيجابيًّا فِي مَواقِفِهِ، مُتفاعِلًا مُنْتِجًا فِي مُجتَمَعِهِ وبَيْنَ مَعارِفِهِ، لِما فِي ذَلِكَ مِنْ دَوافِعِ العَملِ المُحَقِّقِ للسَّعادَةِ، قَالَ تَعالَى: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة:43].

إِنَّ المُشارَكَةَ والتَّداخُلَ تُكْسِبُ المَرْءَ مَزِيدًا مِنَ النَّشاطِ والتَّفاعُلِ، يَرَى مَنْ هُوَ أَعلَى مِنْهُ خُلُقًا فَيَطمَحُ لِلْوُصُولِ إِلى مِثْلِ مَكانِهِ، ويُعايِشُ الضَّعِيفَ فَيَسْعَى لإِصلاَحِ أَمْرِهِ وشَأْنِهِ، فَما أَروَعَهُ مِنْ تَشْرِيعٍ، وما أَحكَمَهُ مِنْ مَنْهجٍ بَدِيعٍ.

وفِي المُقابِلِ حَذَّرَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الوَحْدَةِ والعُزلَةِ السّلْبِيَّةِ، وبَيْنَ أَنَّها تَجُرُّ علَى صاحِبِها كُلَّ عَناءٍ وبَلِيَّةٍ، ومُراعاةً لِخُصوصِيَّةِ بَعْضِ الظُّروفِ والحَاجاتِ، وتَقْدِيرًا لِحالَةِ بَعْضِ الفِئاتِ، شَرَعَ اللهُ عِيادَةَ المَرِيضِ، وأَوجَبَ رِعايَةَ المُقْعَدِ المَهِيضِ، وفَرَضَ زِيارَةَ الأَرْحامِ، وحَفَّزَ علَى كَفالَةِ الأَيْتامِ، كُلُّ ذَلِكَ لِتَحْريكِ المَشاعِرِ الجَيّاشَةِ، فَيَسْعَى أَصْحابُها لِهَذِهِ الفِئاتِ بِكُلِّ ما مِنْ شَأنِهِ إِدخالُ البِشْرِ والبَشاشَةِ.

إِنَّهُ بِناءٌ لِلإِيجابِيَّةِ فِي النُّفُوسِ بِأَقْوَى الدَّعائِمِ، وشَحْذٌ أَصِيلٌ لِلْهِمَمِ والعَزائِمِ، وحَرَصَ الإِسلاَمُ إِلى جَانِبِ ذَلِكَ علَى تَشْجِيعِ كُلِّ قَولٍ يَجْعلُ المُسلِمَ إِيجابِيًّا فِي تأَثِيرِهِ وتأَثُّرِهِ، فأَعلَى مِنْ شَأْنِ الكَلِمَةِ التِي تُثْمِرُ خَيْرًا أَو تَدْعُو إِليهِ، ورَفَعَ مَكانَةَ العِبارَةِ التِي تُحَفِّزُ الإِنتاجَ وتُشَجِّعُ علَيهِ، قَالَ تَعالَى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم: 24-25].

وبَيَّنَ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ لِلْمُرشِدِ إِلَى الخَيْرِ أَجْرًا يُماثِلُ أَجْرَ فَاعِلِهِ، فَعَنْ أَبِي مَسعودٍ البَدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ دَلَّ علَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ"، وفِي رِوايَةٍ: "مَنْ دَعا إِلى هُدىً كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا"، بَلْ يَذْهَبُ الخِطابُ الإِسلاَمِيُّ إِلى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ حِينَ يَعتَبِرُ أَنَّ الكَلاَمَ لاَ فائِدَةَ مِنْهُ إِنْ لَمْ يَدُلَّ علَى خَيْرٍ، أَو يَرْشُدْ إِلى إِصلاَحٍ، أَو يُمَنْهِجْ لِمَشْروعٍ خَيْرِيٍّ، أَو يَكُنْ فِيهِ طَرْحٌ لِحَلٍّ عَمَلِيٍّ، قَالَ تَعالَى: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].

أَيُّها المُؤمِنونَ: إِنَّ المَرْءَ قَدْ يُواجِهُ فِي دُنياهُ شَيْئًا مِنَ المَتاعِبِ، وقَدْ تَعتَرِضُ طَرِيقَهُ ضُروبٌ مِنَ المَصاعِبِ، وأَمَامَ عَصْفِ الخُطُوبِ، وتَكالُبِ المِحَنِ والكُروبِ، تَنْكَشِفُ مَعادِنُ الأَشْخاصِ، فَالمُؤمِنُ الحَقُّ يَنْظُرُ إِلى الجَانِبِ المُشْرِقِ مِنَ الأَزَمَاتِ، فَيُوَجِّهُها بِما يَقْوَى علَيهِ مِنَ الحُلولِ والعِلاَجاتِ، ومَا يَستَطِيعُهُ مِنَ التَّدْبِيرِ والتَّرتِيباتِ، مِنْ غَيْرِ يأْسٍ ولاَ مَللٍ، ولاَ عَجْزٍ ولاَ كَسَلٍ، يَبْذُلُ جُهْدَهُ وعلَى اللهِ إِحسَانُ العَواقِبِ، فَعَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "المُؤمِنُ القَويُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إِلى اللهِ مِنَ المُؤمِنِ الضَّعِيفِ، وفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ علَى مَا يَنْفَعُكَ واستَعِنْ بِاللهِ ولاَ تَعْجَزْ، وإِنْ أَصابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَو أَنِّي فَعلْتُ كَذا كَانَ كَذا وكَذا، ولَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ ومَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ "لَو" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ".

ولَقَدْ ضَرَبَ لَنا القُرآنُ الكَرِيمُ أَروَعَ الأَمثِلَةِ التِي تَحكِي حَالَ المُؤمِنِ مَعَ الشَّدائِدِ، لِنَستَلْهِمَ مِنْها أَنْجَحَ الحُلُولِ لأَيِّ مُشْكِلَةٍ قَدْ نُعانِيها فِي حَياتِنا، ومَا يُصِيبُنا فِي أُمورِ مَعاشِنا، فَحِينَ استَشْرَفَ يُوسفُ الصِّديقُ -علَيهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ- أَنَّ مِصْرَ مُقْبِلَةٌ علَى قَحْطٍ وسِنينَ عِجافٍ، مَا استَعدَّ لِذلِكَ بِنَدْبِ الحُظوظِ، وانتِظارِ الآخَرِينَ لِيُقَدِّمِوا لَهُ الحُلولَ، بَلْ إِنَّهُ وَاجَهَها بِتَدْبِيرٍ حَكِيمٍ، وإِجراءٍ مُتْقَنٍ قَويمٍ، جَعلَ مِنْ وَقْعِ المُشْكِلَةِ يَسِيرًا، وسَهَّلَ اللهُ علَى يَدَيْهِ ما كَانَ عَسِيرًا، قَالَ تَعالَى: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) [يوسف: 47-49].

ويَحكِي لَنا الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- مَوقِفًا إِيجابيًّا عَنْ رَجُلٍ رأَى مُعْضِلَةً تُواجِهُ النَّاسَ فِي طَرِيقِهم، فَبادَرَ إِلى حَلٍّ عَمَلِيٍّ قَضَى علَى المُشْكِلَةِ والمُعاناةِ، فَكَتَبَ اللهُ لَهُ جَنَّتَهُ ورِضاهُ، عَنْ أَبِي هُريْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرةٍ علَى ظَهْرِ طَرِيقٍ فَقالَ: واللهِ لأَنْحِينَّ هَذا عَنِ المُسلِمينَ لاَ يُؤذِيهِم فأُدخِلَ الجَنَّةَ"، إِنَّ هَذا الرَّجُلَ لَمْ يُقابِلْ هَذِهِ المُشْكِلَةَ بِكَثْرَةِ الكَلاَمِ، وإِلقاءِ العَتَبِ واللَّوْمِ علَى الأَنامِ، لَمْ يَقُلْ: مَنْ أَلقَى هَذا الأَذَى؟! أَو يُرَدِّدْ: لِماذا لَمْ تُزِيلُوا هَذا القَذَى؟! ولِكنَّهُ كَانَ إِيجابيًّا رَائِعًا فِي مَوقِفِهِ، فَبادَرَ إِلَى حَلٍّ عَمَلِيٍّ أَراحَ بِهِ نَفْسَهُ وإِخوانَهُ، فاستَحقَّ مَغْفِرةَ اللهِ ورِضوانَهُ.

فاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَوَاجِهوُا الحَياةَ بِصَبْرٍ وعَزِيمَةٍ، وحُلُولٍ نَاجِعَةٍ قَوِيمَةٍ، فَفِي ذَلِكَ صَلاَحُ حَالِكُم وسَعادَةُ مآلِكُم.

أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ المُتَتبِّعَ لِنُصُوصِ القُرآنِ العَظِيمِ، وأَحادِيثِ رَسولِنا الكَرِيمِ -صلى الله عليه وسلم-، يَجِدُ خِطابًا واضِحًا شافِيًا، وبَيانًا ساطِعًا وافِيًا، أَنَّ الإِنسانَ مَسؤولٌ عَنِ الرُّقِيِّ بِمُستواهُ، والسَّعْيِ لِما فِيهِ سَعادَتُهُ فِي دُنياهُ وأُخراهُ، وأَنَّهُ سَيُحاسَبُ علَى ذَلِكَ حِسابًا لاَ يُظلَمُ فِيهِ، قَالَ تَعالَى: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوفَى) [النجم: 39-41]، ولِتَحقِيقِ هَذِهِ السَّعادَةِ وَهَبَ اللهُ تَعالَى الإِنسانَ مِنَ القُدُراتِ والمَلَكاتِ مَا يَجْعلُهُ قادِرًا علَى مُنافَسَةِ غَيْرِهِ، والظَّفَرِ بِمِثْلِ مُستواهُ وخَيْرِهِ، قَالَ تَعالَى: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد 8-10].

فَالمُسلِمُ الحَقُّ إِذا وَاجَهَتْهُ صُعوبَةٌ فِي حَياتِهِ، واجَهَها بِما وهَبَهُ اللهُ مِنْ طَاقاتِهِ وقُدراتِهِ، لاَ يَنتَظِرُ مَعُونَةً مِنْ مَخلُوقٍ مِثْلِهِ، قَدْ رَبَّاهُ الإِسلاَمُ علَى التَّشمِيرِ عَنْ سَاعِدِ الجِدِّ، مُتَعَفِّفًا عَمَّا فِي أَيْدِي الآخَرِينَ، بَلْ يَسْعَى ويَطْلُبُ التَّوفِيقَ مِنْ رَبِّ العالَمِينَ، قَالَ تَعالَى: (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة: 273].

فإِذا كَانَ هَذا الشَّأنُ فِيمَنْ لاَ يَستِطيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرضِ، فَكَيفَ بِمَنْ أَجسادُهُم تَفُورُ قُوّةً وشَبابًا؟! علَى أَنَّ القُوّةَ وَحْدَها لا تَكْفِي لِتَحقِيقِ الهَدَفِ، بَلْ لاَ بُدَّ لَها مِنْ حُسْنِ تَدْبِيرٍ، يَضَعُ فِي الحُسْبانِ ظُروفَ الزَّمانِ والمَكانِ، وهوَ ما كَانَ سَلَفُ هَذِهِ الأُمَّةِ يُوَاجِهُ بِهِ الأَزَماتِ، ويَتَغَلَّبُ بِهِ علَى الصُّعُوباتِ، فَهُمْ يَحْسُبونَ لِلأُمورِ حِسابَها المُناسِبَ، ويَستَغِلُّونَ الظُّروفَ لِتَحقِيقِ أَعلَى المَكاسِبِ، فَلاَ يُبْطِرُهمُ الغِنَى ولاَ يُجْزِعُهُمُ الفَقْرُ، قَالَ تَعالَى فِي وَصفِهم: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67].

إِنَّ مِنْ واجِبِ المُسلِمِ أَنْ يُحْسِنَ تَدْبِيرَ حَياتِهِ؛ لِيكونَ مُستَعِدًّا لِمُواجَهَةِ الأَزمَاتِ، ثَابِتًا أَمامَ التَّقلُّباتِ، وأَنْ يَحْمِلَ علَى ذَلِكَ أُسْرَتَهُ، فَبِصلاَحِ الأُسَرِ تَصلُحُ المُجتَمعاتُ، وإِنَّ مِنْ أَهَمِّ أُسُسِ التَّدبِيرِ الاقتِصادَ فِي الإِنْفاقِ، فإِنَّهُ يَقِي شَرَّ الفَاقَةِ والعَيْلَةِ، وتَتَضَاعَفُ هَذِهِ الأَهمِّيَّةُ فِي الظُّروفِ الاستِثنائيَّةِ، والحَالاَتِ غَيْرِ العَادِيَّةِ، التِي تَشْهَدُ تَقلُّباتٍ فِي السُّوقِ وارتِفاعٍ فِي الأَسْعارِ، فَإِنَّ الإِنفاقَ فِي حَالِ الغَلاءِ والرُّخْصِ لَيسا سِيَّانَ، فَلِكُلِّ وَقْتٍ ما يُناسِبُهُ مِنَ السُّلوكِ، والاقتِصادُ يُعِينُ المَرْءَ علَى الادِّخارِ فِي حَالاَتِ الرَّخاءِ والسَّعَةِ فِي الرِّزقِ لِحالاتِ الشِّدَّةِ، فَالادِّخارُ هُوَ كَنْزُ الأَزَمَاتِ، والمَرجِعُ المَادِّيُّ عِنْدَ الصُّعُوباتِ، وقَدْ حَثَّ علَيهِ الإِسلاَمُ أَيَّما حَثٍّ، وأَمَرَ بِهِ فِي شُؤُونِ الإِنسانِ كُلِّها، فَالمَرءُ لاَ يَعلَمُ مَاذا يَكْسِبُ غَدًا، يَقولُ -تَباركَ وتَعالَى-: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان:34]، وعَنِ ابنِ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "اغتَنِمْ خَمْسًا قَبلَ خَمْسٍ: حَياتَكَ قَبلَ مَوتِكَ، وصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وفَراغَكَ قَبلَ شُغلِكَ، وشَبابَكَ قَبلَ هَرَمِكَ، وغِناكَ قَبلَ فَقْرِكَ".

وإِنَّ مِنْ دَواعِي العَجَبِ أَنْ تَسْمَعَ مَنْ يَشْتَكِي صُعوبَةَ المَعِيشَةِ، وارتِفاعَ أَسعارِ السِّلَعِ فِي وَقْتٍ لاَ يُحَرِّكُ فِيهِ سَاكِنًا لِتَغْييرِ وَضْعِهِ، سَواءٌ بِالبَحْثِ عَنْ سُبُلٍ لِزِيادَةِ دَخْلِهِ، أَو بِتَرتِيبِ أَولَوِيَّاتِهِ، وتَرشِيدِ مَصْرُوفَاتِهِ ونَفَقَاتِهِ، فَيَجِبُ علَى أَفرادِ الأُسْرَةِ التَّعاوُنُ فِي تَنْمِيَةِ مَوارِدِ المَنْزِلِ، وتَقَعُ علَى الزَّوجَةِ بِوَجْهٍ خَاصٍّ مَسؤُوليَّةُ التَّعاوُنِ مَعَ الزَّوجِ فِي إِعدادِ مِيزانِيَّةِ البَيْتِ، فِي إِطارِ خُطَّةٍ لِلْنَّفَقاتِ والإِيراداتِ، وعلَيْهِما أَنْ يَستَشْعِرا مَسؤُولِيّتَهما فِي الادِّخارِ لِلأَجيالِ القادِمَةِ، لأَنَّ لَهُم حَقًّا فِي أَموالِ الأَجيالِ الحَاضِرَةِ، ويَكُونُ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ تَنْمِيَةِ الكَسْبِ والاقتِصادِ فِي النَّفقاتِ، فَالكَسْبُ الحَلالُ الطَّيِّبُ، والإِنْفاقُ المُقْتصِدُ يُمكِّنُ مِنَ الادِّخارِ، ولَقَدْ وَرَدَ فِي الأَثَرِ: "رَحِمَ اللهُ امرءًا اكتَسَبَ طَيِّبًا، وأَنْفقَ قَصْدًا، وَقَدَّمَ فَضْلاً لِيَومِ فَقْرِهِ وحَاجَتِهِ"، وعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّديقِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّهُ قَالَ: "إِنِّي أَبْغُضُ أَهلَ البَيْتِ الذِينَ يُنْفِقونَ رِزقَ أَيّامٍ فِي يَوْمٍ واحِدٍ"، ويَقولُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- لأَحَدِ أَصحابِهِ: "إِنَّكَ إِنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغنِياءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتكفَّفونَ النَّاسَ أَعْطَوْهُم أَو مَنَعُوهُم".

لَقَدْ وَضَعَ الإِسلاَمُ حُلُولًا إِيجابِيَّةً لِلتَّعامُلِ مَعَ الأَزماتِ الاقتِصادِيَّةِ، والتَّكيُّفِ مَعَ الصُّعوباتِ الشِّرائيَّةِ، حُلُولًا تَقُومُ علَى مَبدأِ الوِقايَةِ والاستِعدادِ المُسْبَقِ.

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَلْيَقِفْ كُلٌّ مِنَّا وَقْفَةَ تأَمُّلٍ أَمامَ هَذِهِ الإِرشاداتِ، ويَخْتَبِرْ نَفْسَهُ وأُسرَتَهُ أَيْنَ يَقعانِ مِنْ هَذِهِ التَّوجِيهاتِ، فَبِهذا نُحَقِّقُ الإِيجابِيَّةَ الفَعّالَةَ التِي تُصلِحُ الشَّأنَ، ويَسْعَدُ بِها بَنو الإِنسانِ.

هَذَا؛ وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ -عَزَّ قَائِلاً عَلِيْمًا-: (إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا) [الأحزاب: 56].

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُوْمًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُوْمًا، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْمًا.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاً مِنَّا لِسَانًا صَادِقًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا مُنِيْبًا، وَعَمَلًا صَالِحًا زَاكِيًا، وَعِلْمًا نَافِعًا رَافِعًا، وَإِيْمَانًا رَاسِخًا ثَابِتًا، وَيَقِيْنًا صَادِقًا خَالِصًا، وَرِزْقًا حَلاَلًا طَيِّبًا وَاسِعًا، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.