الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
نحن في أيامنا هذه بأمس الحاجة لعبارة نعلنها صريحة واضحة، نجعلها شعارا لحياتنا، تصدق بها قلوبنا، وتؤمن بها نفوسنا، وتنطق بها ألسنتنا حالا ومقالا: "سمعاً وطاعةً يا رب", لا نقول إلا ما يرضى ربنا، وهذا هو الموقف الذي ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذو الرضا المرغوب، يعفو ويصفح ويغفر الذنوب، يملي ويمهل لعل العاصي يتوب، يعطي ويرضي ويحقق المطلوب، يستر العيوب، ويكشف الكروب، نحمده تبارك وتعالى حمداً هو للذات العلية منسوب، ونعوذ بنور وجهه الكريم من شر الوسواس الكذوب، ونسأله السلامة فيما مضى وما سيأتي من خطوب.
وأشهد أن لا إله إلا الله ذو الجناب المرهوب، خلق السموات والأرض في ستة أيام وما مسه من لغوب، يضل من يشاء، ويهدى من يشاء، ويقلب الأبصار والقلوب، شهدت له الكواكب في شروقها والغروب.
وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله ذا المقام الموهوب، الصفي المحبوب، أُمرنا بحبه على الوجوب، من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فهو في النار مكبوب، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه وتابعيه ومحبيه صلاة دائمة متلازمة تنير لنا القلوب، وتفتح بها مغاليق الدروب.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فهي وصية الله للأولين والآخرين، وعليها تدور شرائع المرسلين وتعاليم الدين.
أيها المسلمون: لا شك أن الدنيا مليئة بالفتن والابتلاءات والرزايا التي لا يسلم منها أحد، ولو ترك العبد نفسه أمام أمواج الفتن والابتلاءات بلا سلاح يتسلح به، وترس يستجِنّ به، ودرع يتحصن به، لو ترك نفسه بلا إيمان نقي، وقلب قوي، ورضا سخي لأكلته الهموم، وعصفت به الفتن، وأغرقته الابتلاءات.
فإن من أعظم وأهم أسباب قوّة قلب العبد ورسوخ يقينه، وسلامة صدره، وتمام رضاه؛ الاستسلام لله -عز وجل- في أمره ونهيه، وقضائه وقدره، فالكون كونه، والخلق خلقه، وهو المالك على الحقيقة، وغيره مملوك، وهو الرب المتصرف بالتدبير والتقدير، وغيره مربوب.
ومن غابت عنه هذه الحقيقة وانشغل بتوافه الدنيا ورذائل أهلها لم يصمد قلبه أمام أي فتنة أو ابتلاء.
فلندخل -يا عباد الله- إلى جنة التسليم لله -عز وجل-، ولنستسلم له -جل جلاله وعز كماله- في كل شيء فإن هذا هو عز الدنيا وجنة الآخرة.
أيها الناس: إن الإسلام مأخوذ من التسليم؛ إذ إن معنى الإسلام في اللغة: الانقياد والإذعان، يقال: أسلم لله: إذا انقاد وأذعن وأطاع له، وهذا المعنى كان معروفاً عند العرب قبل ظهور الإسلام ذاته، فالتسليم لله: هو الانقياد والإذعان لله بامتثال أمره واجتناب نهيه من جميع الجهات، يعني إذعان القلب وانقياده بالاعتقاد والقصد، وإذعان اللسان وانقياده بالإقرار، وإذعان الجوارح وانقيادها بالعمل.
فالتسليم إذاً هو روح الإسلام، بل هو الإسلام نفسه، يقول الله -سبحانه وتعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [البقرة:131].
إن التسليم لله -عز وجل- من أخص أركان الدين، وبه يجوز العبد الصراط، وتثقل به الموازين، وهو من أوجب الواجبات، وأعلى القربات.
بل؛ "إن مبنى العبودية والإيمان بالله، وكتبه، ورسله على التسليم، وعدم الخوض في تفاصيل الحكمة في الأوامر، والنواهي، والشرائع، ولهذا لم يحكِ اللهُ -سبحانه- عن أمة نبي صَدَّقت نبيها وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به، ونهاها عنه، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت، وسَلَّمت، وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها، وإيمانها، واستسلامها على معرفته، ولا جعلت طلبه من شأنها" [الصواعق المرسلة 4/1560].
يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب:36]، فهذه الآية تدلّ على أن أمر اللَّه وأمر رسوله موجبٌ للامتثال، مانعٌ من الاختيار، مقتضٍ للوجوب.
يقول ابن القيم -رحمه الله- في الوابل الطيب: "إنّ من علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يحمل الأمرَ على عِلةٍ تُضعِف الانقياد والتسليم لأمر الله -عز وجل-، بل يُسَلِّمُ لأمرِ الله -تعالى- وحُكمه، ممتثلا ما أمر به، سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه أو لم تظهر، فإن ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه حمله ذلك على مزيد الانقياد بالبذل والتسليم لأمر الله".
واعلموا -يا عباد الله- أن التسليم لله ولرسوله والانقياد لحكمهما، ليس من قبيل فضائل الأعمال، أو مكمّلات الدين؛ وليس المخاطبون بالتسليم أصحاب الهمم العالية فقط، وليس الخطاب بالتسليم خطاباً للمتقين المخبتين صفوة الصالحين، كلا والله! بل هو أمر حتم لازم يؤمر به كل مسلم ومسلمة؛ لأن عدم التسليم لحكم الله كفر يخرج من الملّة، وهو حالٌ ملازمٌ للمنافقين لا ينفكّ عنهم.
يقول الله -سبحانه وتعالى- في وصف المنافقين: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) [النساء:60-61].
وقال عنهم: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) [النور:48-49].
إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم تولوا وأعرضوا؛ لأنهم لا يسلِّمون بحكم الله ورسوله، لكن؛ إذا كان الحكم لهم في الخصومة، قالوا: لا نريد إلا الشريعة، ثم جاءوا منقادين لها؛ لعلمهم أن الحق لهم، ولأنه وافق هواهم، وفي مصلحتهم.
قال الله: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [النور:49-50]، فناقض المنافقون قاعدة الإسلام العظيمة في التسليم لله ولرسوله بالحكم، وعدم الاعتراض عليه، فذمهم الله لاعتراضهم وعدم تسليمهم.
وإن من عِظَم أمر التسليم والانقياد لله -عز وجل- ولرسوله وشرعه وأمره ونهيه، أن الله -سبحانه وتعالى- ذكره في أكثر من عشرين موضعا من القرآن الكريم، وكل آية تحمل دلالة معينة وإشارة هامة على طريق التسليم.
منها: نفي الإيمان لمن لم يسلِّم لشرع الله وحكمه، ولم يرض بالحكم بقلب سليم، ونفس راضية، واقتناع تام بعدالة الحكم الإلهي؛ قَالَ -تعالى-: (فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا) [النساء:65].
ومنها أن من أخصّ صفات المؤمنين المفلحين، شعار "سمعنا وأطعنا "، لا شعار المغضوب عليهم الذين قالوا: "سمعنا وعصينا"؛ قال الله: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور:51].
وكذلك التسليم هو السبب المباشر لزيادة التدين للعبد المسلم، ورفع درجته وتزكيته عند مولاه -جل في علاه-: قال -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [النساء:125]، ومعنى أسلم وجهه لله: طاعته، وإذعانه، وانقياده لله -تعالى- بامتثال أمره، واجتناب نهيه.
كما أن الاستسلام لله ولرسوله والانقياد للشريعة سبب للنجاة من عذاب الله؛ قال -تعالى-: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) [لقمان:22]، أي: فقد أخذ موثقا من الله متينًا أنه لا يعذبه.
أيها المسلمون: نحن في أيامنا هذه بأمس الحاجة لعبارة نعلنها صريحة واضحة، نجعلها شعارا لحياتنا، تصدق بها قلوبنا، وتؤمن بها نفوسنا، وتنطق بها ألسنتنا حالا ومقالا: "سمعاً وطاعةً يا رب"، لا نقول إلا ما يرضى ربنا، وهذا هو الموقف الذي أثنى الله به على أصحاب نبيه -عليه الصلاة والسلام-: (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة:285].
ومن الأمور الهامة في قضية التسليم لله -عز وجل- والانقياد له، والتي قد يقع فيها البعض من حيث لا يعلمون، أنه لا فرق بين التسليم لنصوص القرآن والتسليم لنصوص السنة؛ إذ السنة مفسرة للقرآن ومبيّنة له، قال الله -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر:7]، ويقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63] ويقول -سبحانه-: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) [النور:51].
وقد حذّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من أخذ القرآن وترك ما في السنّة، فقال: "لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ" رواه أبو داود.
فقد أمرنا باتباع السنة الصحيحة والأخذ بها، كما أمرنا بأخذ القرآن تماماً بدون تفريق بينهما، فالسنة هي الشارحة للقرآن، المبينة له.
وقد يعترض معترض فيقول: إن التسليم ما هو إلا نوع من العجز وقلة حيلة، والجواب: إن هذا حال من لم يفقه آيات القرآن وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإلا فإن المؤمن يجب عليه أن يعلم أن الله -سبحانه- مالك حكيم لا يعبث، وعلمه وحكمته توجب عدم الاعتراض عليه، أو اعتبار التسليم له ضعفا وخورا.
إخوة الإسلام: إن الله قد يبتلي عبدَه بأنواع البلايا والرزايا حتى يعلم مدى تسليمِه له، وتفويض أمره إليه، والمطلوب من الإنسان أن يسلم لله، ويستسلم له في كل صغيرة وكبيرة، وأن يصبر ويصابر: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، وصلاة وسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله، وعلى آله ومن والاه، صلاةً وسلاماً دائمين بدوام الليل والنهار، إلي يوم تزيغ فيه القلوب والأبصار، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد: عباد الله: لقد كان رسل الله -عز وجل- وأنبياؤه خير ترجمة حية في تطبيق الاستسلام لله -عز وجل-، والإذعان والانقياد له -سبحانه-، وقد ضرب لنا القرآن أمثلة عجيبة في التسليم لأمر الله، وتفويض الأمر إليه دون اعتراض أو منازعة، بل بقلوب ملؤها الطمأنينة والرضا واليقين بموعود الله.
فهذا نوح -عليه السلام- قال الله عنه: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [هود:45-47].
نعم؛ لقد قطع الكفر كل أواصر النسب والعلاقة مع الأب المؤمن والابن المشرك، فسأل نوح -عليه السلام- ربَّه -عز وجل- أن ينجي ولده بعاطفة الأبوة الحانية، كما وعده ربه بنجاة أهله، فذكّره ربُّه بكفر ولده، ونفيه عن أهله، فما كان من نوح إلا أن أعلن تفويضه واستسلامه لأمر الله، وقطع الطريق على الشيطان ونوازع النفس الذين يحملان العبد على فتح باب الجدال والمراء في الباطل، حاشا رسل الله.
ولم يكتفِ بإبداء التسليم لأمر الله، بل استعاذ بربه أن يسأله ما ليس له به علم في قابل عمره؛ ثم طلب منه الرحمة والمغفرة على ما بدر منه.
وهذا إبراهيم -عليه السلام- ضرب مثلاً رائعا هو وأهله في التسليم لأمر الله من أول يوم أراد الله به الخير والهداية له: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) [البقرة:131-132].
أمَرَه الله -تعالى- بالإخلاص له والاستسلام والانقياد؛ فأجاب إلى ذلك شرعاً وقدراً، ووصى بنيه وأهله بهذه الملة وهي الإسلام لله والاستسلام له؛ حرصاً عليهم، ومحبة لهم، فحافظوا عليها إلى حين الوفاة، ووصوا أبناءهم بها من بعدهم.
وقد طبّق إبراهيم -عليه السلام- إسلامه واستسلامه لله في واقع عملي، وذلك حينما أتى بزوجه هاجر ومعها وليدها إسماعيل -عليه السلام- ليتركهما في بطحاء مكة، بأمر من الله -عز وجل- في وادٍ لا شجر فيه ولا ماء ولا زاد، ولا من يستأنسون به، وخلّفهم هناك فلحقت به هاجر -رحمها الله- تسأله وتناديه: لمن تتركنا هنا يا إبراهيم؟ ماذا سنفعل؟! وماذا سنأكل ونشرب؟!.
ولكن إبراهيم -عليه السلام- لم يجبها ولم يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟، قال: نعم، فأجابت بكلمة حكيمة، وباستسلام مطلق: إذن؛ لن يضيعنا.
تسليم من إبراهيم -عليه السلام-، إذ ترك زوجَه وابنه الرضيع في أرض غربة وخوف وقحط، وتسليم من هاجر، إذ علمت أن ذلك أمر من الله، فقالت: لن يضيعنا، وكان وراء هذا القرار الإلهي حكمة، ولكنها لم تعلمها في ذلك الوقت، ورغم ذلك سلمت لله -تعالى-.
ولم يكد يشب إسماعيل -عليه السلام- حتى يبتليَ الله إبراهيم -عليه السلام- في أمر عظيم على البشر تنفيذه، وصعب على النفوس امتثاله لو أن الممتحَن غير إبراهيم الخليل -عليه السلام-، فقد امتحنه الله بذبح إسماعيل الذي تعلق قلبه به؛ لأنه جاء بعد طول زمن من حرمان الأولاد.
قال الله: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات:101-107].
وفي مقابل هذا الامتحان لإبراهيم، يقف إسماعيل طرفاً في الامتحان شامخاً، صبوراً، ضارباً مثلاً فريداً في التسليم لأمر الله -تعالى- من غير تردد، وهو -إذ ذاك- فتى يافع؛ لكن انظر إلى أدبه مع الله، واعترافه بحدود القدرة والطاقة في الاحتمال، واستعانته بربه على ضعفه، ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ومساعدته على البر: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ).
لم يأخذها بطولةً، ولم يأخذها شجاعة، ولم يأخذها اندفاعًا إلى الخطر دون مبالاة، ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجمًا ولا وزنًا، إنما أرجع الفضل كله لله.
عباد الله: ولعلّ سائلا يقول: تلك النماذج من أنبياء الله -تعالى-، وهؤلاء معصومون عن المعصية والاعتراض على أمر الله -تعالى-. نقول: بل هناك نماذج أخرى غيرهم، صحابة رسول الله -عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم-، ضربوا أروع الأمثلة في الاستسلام لله ولرسوله، والانقياد لهما دون شرط أو قيد أو بحث عن علة أو سبب.
ولو حاولنا استيفاء ما سطره الصحابة رضوان الله عليهم من أمثلة ومواقف، ما وسعنا عشرات الخطب والمواعظ من أجل إيفاء هؤلاء العظام حقهم في التسليم لأمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فمن تلكم النماذج ابن رواحة، روت عَائِشَةُ -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ: "اجْلِسُوا"، فَسَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ قَوْلَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "اجْلِسُوا"، فَجَلَسَ فِي بَنِي غَنَمٍ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَاكَ ابْنُ رَوَاحَةَ جَالِسٌ فِي بَنِي غَنَمٍ، سَمِعَكَ وَأَنْتَ تَقُولُ لِلنَاسِ: "اجْلِسُوا"، فَجَلَسَ فِي مَكَانِهِ. المعجم الأوسط.
ورواه عبد الرزاق في المصنف وزاد: فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: "مَا شَأْنُكَ؟"، قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ: "اجْلِسُوا"؛ فَجَلَسْتُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "زَادَكَ اللَّهُ طَاعَةً" مصنف عبد الرزاق.
ومن النماذج ما رواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى خَاتمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ: "يَعْمدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ"، فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَمَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ! لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. رواه مسلم.
وفي قصة نزول آية تحريم الخمر خير دليل على الانقياد التام لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب من فضيخ زهو وتمر، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها، فأهرقتها. رواه البخاري.
والشاهد أنهم لم يتحققوا من قول القائل بأن الخمر هل حرمت، فبمجرد السماع بالتحريم أذعنوا مباشرة وانقادوا للأمر، وأراقوا الخمر التي كانوا يشربونها من لحظتها.
وللنساء في التسليم مثال فريد، وموقف شريف، ومشهد يذكر؛ فعنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ:"لَمَّا نَزَلَتْ: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ) [الأحزاب:59]، خَرَجَ نِسَاءُ الأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ مِنَ الأَكْسِيَةِ" رواه أبو داود. يعني: امتثلن الأمر واستسلمن له فاحتجبن وتسترن.
أما موقف أم سليم الأنصارية فكان من أعجب المواقف التي سجلها تاريخ الصحابة الحافل بالمآثر والفضائل في أمر التسليم، فقد أظهرت أم سليم الأنصارية -رضي الله عنها- قوة وثباتا على تحمل المكاره والاستسلام لقضاء الله وقدره مع الرضا.
روى الإمام البخاري من حديث أنس -رضي الله عنه- أنه قال: "مات ابن لأبي طلحة من أم سليم فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، قال: فجاء فقربت إليه عشاء، فأكل وشرب، ثم تصنَّعت له أحسن ما كانت تصنع مثل ذلك، فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قوما أعاروا أهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك؛ فغضب وقال: تركتني حتى تلطختُ ثم أخبرتني؟.
فصلى أبو طلحة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بما كان منهما، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما".
قال سفيان راوي الحديث: قال رجل من الأنصار: "فرأيت لهما تسعة أولاد، كلهم قرؤوا القران". رواه البخاري. وكان هذا ببركة التسليم والانقياد لقضاء الله وقدره.
أيها المسلمون: يجب علينا أن نستقيم على الشريعة مهما كانت تكاليف الأمر أو تبعات النهي، فليس الإسلام دين غنائم، إذا جاءتنا استقر بنا الحال على الإسلام، وإذا حلت بنا المصائب تركنا الإسلام والاستقامة على الدين ؛ كما أنه ليس موائد تُبسَط، أو ورود توزع، أو روائح تستنشق؛ بل تضحيات، وبذل، وتسليم، وانصياع لتحقيق مراد الله وشرعه، يبدأ بالوقت والمال، وينتهي بالروح والجسد. ومن لا يوطن نفسه على هذا يُخشى أن تزل قدمه بعد ثبوتها، ويرتد على أدباره بعد أن هداه الله.
والواجب كمال التسليم لله -تعالى-، والاتباع للرسول -صلى الله عليه وسلم-، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون معارضته بخيال باطل نسميه معقولاً، أو نحمله شبهة أو شكاً، أو نقدم عليه آراء الرجال، وزبالة أذهانهم...
وليعلم كل عبد أن تسليمنا اليوم للأمر واجتنابنا للنهي وانقيادنا للشرع إنما ذلك وفاء بالعهد، وتنفيذ للميثاق الذي أخذ الله على بني البشر، ميثاق الإيمان به والتسليم له، ونحن في ظهر أبينا آدم -عليه السلام-، قال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [لأعراف:172]، وما تسليم العباد وانقيادهم اليوم إلا وفاء لذلك العهد، وتجديد لذلك الميثاق.
اللهم إنا نسألك بأحب الأسماء وأحسن الصفات، ندعوك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت، أن تقذف في قلوبنا التسليم والانقياد والخضوع لك ولرسولك، وأن تجعلنا من عبادك الصالحين.
اللهم اجعل شعار حياتنا "سمعنا وأطعنا"، اللهم اجعلنا على درب رسولك سائرين، ولسنته رافعين.
اللهم انا نسألك أن تهدينا إلى السنن، ونعوذ بك من الفتن. اللهم اهدنا إلى السنن، وأعذنا من الفتن وارزقنا الاقتداء بنبيك، والاقتداء بسنته، والتمسك بها في هذا الزمن الذي سيطرت فيه الفتن.
اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.