الباطن
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
والحاصل أن العزةَ هي الحالَةُ المانعة للإنسان أن يُغلَب أو يمتهن، والعزة لها وجهان: ظاهر وباطن، والباطن منها أصدق من الظاهر، كما هو الحال في معظم أحوال الإنسان، فقد يوحي مظهر الإنسان عزة وهو في حقيقة الأمر ذليل، كما قال الحسن البصري في شأن المستكبرين من أثرياء العصاة وسلاطينهم: "إنهم؛ وإن طَقْطَقَتْ...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن مما ينبغي أن نراجعه بين الحين والآخر مفهوم العزة ومفهوم الذلة، العزة تأتي بمعنى القوة والغلبة، كما في قوله تعالى: (وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يونس:65].
وتأتي العزة بمعنى الحمية والأنفة، وقد يعبر عنها بلفظ الكرامة.
وهي صفة في الأصل محمودة؛ ولكن قد تكون العزة في غير محلها فتصبح مذمومة، كما في قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ) [البقرة:206]
فهذا يستمد عونه وعزته من ذنبه -والعياذ بالله!-؛ (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ)، وهو كثير.
والحاصل أن العزةَ هي الحالَةُ المانعة للإنسان أن يُغلَب أو يمتهن، والعزة لها وجهان: ظاهر وباطن، والباطن منها أصدق من الظاهر، كما هو الحال في معظم أحوال الإنسان، فقد يوحي مظهر الإنسان عزة وهو في حقيقة الأمر ذليل، كما قال الحسن البصري في شأن المستكبرين من أثرياء العصاة وسلاطينهم: "إنهم؛ وإن طَقْطَقَتْ بهم البغال، وهملجت بهم البراذين -أي الخيل-، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم؛ أبى الله إلا أن يُذِلّ مَن عصاه!".
فهذه عزة وهمية يتراءى للناظر أنها كذلك؛ لأن ذليل الهوى والشهوة لا يعز ولا يكون عزيزا أبدا ما دامت المعصية آخذة بخطام أنفه تقوده وراء شهوته.
وقول: العزة الباطنة أصدق من الظاهرة، لا يعني بالضرورة أنها مشروعة، فإن من العزة ما هو مشروع ومحبوب، ومنها ما هو في حقيقته سفه وغرور مستقبح.
ومن ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام- يوم فتح مكة: "يا أيها الناس، إن الله -عز وجل- قد أذهب عنكم عبيّة الجاهلية -أي فخر الجاهلية ونخوتها- وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل بر كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله. والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب، قال الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13]"، جاء ذلك في السنن من حديث ابن عمر.
فهذا الحديث ينص بصريح العبارة على حرمة الاعتزاز والفخر بالآباء، وما يتبع ذلك من الفخر بالقبيلة والرهط كما كان العرب يفعلون في الجاهلية.
ولذلك صح في مسلم من حديث أبي مالك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة".
وأيما محفل يثير هذه العزة والنخوة الجاهلية أو يدعو إليها فإنه محفل منتن، كما وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال: "دعوها فإنها منتنة"؛ فكل عزة لها مصدر، ومصدر العزة هو الذي يحدد أصالتها من زيفها.
فقد يكون الاعتزاز بالكثرة كما حصل من بعض المسلمين حديثي الإسلام في غزوة حُنَيْنٍ، حتى قال أحدهم: "لن نهزم اليوم من قلة"، يعتزون بكثرتهم!.
فقدّر الله -سبحانه وتعالى- ما أصبح لهم ولغيرهم موعظة وعبرة إلى يوم القيامة، قال -سبحانه-: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) [التوبة:25].
ومن أنواع العزة المذمومة "العزة بالكفار"، وهي خصلة يشتهر بها المنافقون، يعتزون بالكفار، قال -تعالى-: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا) [النساء:138-139].
إنه لا يمكن أن يعتز موحد خالص في توحيده بمشرك لا يؤمن بالله ربا ولا بالإسلام دينا ولا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا، هذا لا يمكن ولا يتصور أبداً إلا أن يكون في قلبه مرض وفي عقله فساد يدفعه إلى الاعتزاز والفخر بالكفار ومدحهم والثناء عليهم والدفاع عنهم.
وهو أمر جد خطير، لأن فيه موالاة لأعداء الله، وثمرته انتكاس وظلمة في القلب تجاه أهل الخير، كلما ازداد قربة ومحبة واعتزازا بالكافرين ازداد بعدا عن المؤمنين وازداد قلبه ظلمة وقسوة، حتى تستحكم الظلمة في قلبه فتراه يعادي المؤمنين ويتربص بهم ويهزأ بهم ويسخر منهم، ويؤذيهم بلسانه وقلمه، وربما بيده.
ومآل ذلك عند الله عقوبة في الدنيا بالطبع على القلب، وفي الآخرة بحشره مع من أحبه واعتز به في الدنيا؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الطبراني بسند صحيح من حديث علي -رضي الله عنه-: "ولا يحب رجلٌ قوماً إلا حُشِرَ معهم"، فيا لها من عقوبة أن يحشر مع المشركين!.
ومن المعزة المذمومة "الاعتزاز بالجاه والمنصب والسلطان"، وهو يدل على كبر في الصدر -نسأل الله السلامة-.
ولو عدنا إلى تعريف العبادة لوجدنا أنها غاية حب الله -تعالى-، وغاية الذل له -جل وعلا-، ومن ذلك أن يكون العبد متذللا لربه لا يترفع على عبادة الله، عزيزا على الكافرين ذليلا للمؤمنين، لا يعتز بنفسه ولا يعتز بجاهه ولا بحسبه ولا بسلطانه ولا بأعوانه؛ بل يستحضر أنه مملوك لربه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وكل ما عنده من عند الله.
وغالبا ما يظهر العز بالجاه والمال والمنصب في طريقة المشي اختيالا وتبخترا، وهي مشية يبغضها الله -عز وجل-، فقد صح في مسلم من حديث أبي هريرة، عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "بينما رجل يتبختر يمشي في برديه"، وفي رواية: "بينما رجل يتبخر في بردين قد أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض وهو يتجلل فيها إلى يوم القيامة".
وهذا ما حصل لقارون حين اعتز بماله وحاشيته: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص:76] لا تختال، لا تتكبر.
ولما خرج يتبختر في زينته خرج في مشهد يرتسم في ذهن كل مؤمن؛ (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ) [القصص:81].
صفة المشي مهمة في أخلاق الإسلام، وقد يعجب البعض عندما تبدأ صفات عباد الرحمن التي في سورة الفرقان بما هو أقل شأناً بالنسبة لما بعدها، تبدأ بوصف مشيتهم قبل عقيدتهم، قال -تعالى-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63].
بدأ بوصفهم بأنهم يمشون هونا، أي بتواضع وسكينة، هذه أول صفة، ثم قال بعدها بأربع آيات: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)! صفات المؤمنين بلا شك هي أنهم لا يدعون مع الله إلها آخر، فهم موحدون لله؛ لكن هنالك حكم عظيمة من تقديم الأقل أحيانا ثم التدرج للأعلى، فالتوحيد لا يظهر من أول وهلة على الإنسان، لكن المشية مظهر واضح ودلالاتها واضحة بمجرد إلقاء النظر، إما تدل تلك المشية على التواضع أو الكبر.
والكبر هو الصفة التي جعلت الكفار يكفرون بالرحمن ويزدادون نفورا فلا يقبلون قول الله ولا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والعصاة تبع لهم في ذلك؛ فالمتكبر يستكبر على الله وعلى الحق، يستكبر بسلطانه، يستكبر بماله وجاهه ومقامه عند الناس، يفتخر بآبائه، ويعتز بأجداده، وهكذا.
كل أنواع الكبر كان أول من سنها إبليس لما قال: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) [ص:76].
ومثل هذا قال كفار قريش: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف:31]. أي: كيف ينزل القرآن على محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو ليس عظيما من العظماء! لماذا لم ينزل القرآن على رجل من القريتين عظيم؟! يقصدون الوليد بن المغيرة أو الحكم بن هشام أو عروة بن مسعود من الطائف.
هذه هي معايير الأفضلية عندهم: الجاه والثراء، ولذلك تجد القلوب العادية اليوم أو تلك التي لم تتفقه في دين الله دائما تهتم بالمال، الكبير في ثروته وسلطانه تقدمه وتفسح له المكان وتعظمه فينتفش بعزته كما حصل من السحَرة ببادئ أمرهم لما قالوا: (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) [الشعراء:44]. وما علموا أنه كم من كبير عند الناس وهو صغير عند الله تبارك وتعالى!.
وهذا ما جعل الصحابة -أيها الإخوة- يخافون من الولايات والمناصب الكبيرة التي تغري الناس، هذا عتبة بن غزوان -رضي الله عنه- وهو من السابقين الأولين وممن هاجر إلى الحبشة عندما ولاه عمر على البصرة قام خطيبا في الناس يحاول تصحيح النظرة وربطها بالدين، فذكر ما كان عليه هو والصحابة من قبل، وما عانوا وما لاقوا، وكيف مرت عليهم أيام لا يجدون ما يكسوهم وما لهم طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقهم.
ثم تذكر ما أعطاهم الله -تعالى- بعد ذلك من الدنيا فقال: "وما منا اليوم إلا من هو أمير على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي كبيرا وعند الله صغيرا".
فليس في الجاه عز، بل العز في الدين وحده، ومن كبر في أعين الناس في الدنيا لا يعني أنه كذلك في عين الله -تعالى-.
ولذلك تظهر الأمور على حقائقها يوم القيامة فيكون المعتز بماله في الدنيا أفقر الناس، والمعتز بسلطانه أذل الناس، ويقول القائل: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) [الحاقة:28-29]، ثم يذكر المعتز بغير الله حين يغمس في العذاب بحقيقة عزه واعتزازه لغير الله في الدنيا، فيقال له: (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان:49].
فأسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا من كل عز سوى عزنا بالله تبارك وتعالى إنه سميع قريب، أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه؛ إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على نهجه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنَّ في حياة المؤمن مصدراً واحداً للعزة: دينه وكل ما يتصل بدينه فقط، قال -تعالى-: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) [فاطر:10]؛ فالعزة كلها لله، منه وحده تُستمدّ. وهذه الحقيقة حين تستقر في القلب المؤمن كفيلة بأن تبدل معاييره وقِيَمَه ونظرته للأشياء، وتبدل أخلاقه، وعلاقته بالحياة، ومقاصده منها.
(مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)، أي: مَن كان يحب أن يكون عزيزا في الدنيا والآخرة فليزم طاعة الله -تعالى-، فإنه يحصل له مقصوده، فلا يقدم المعصية على الطاعة، ولا الدنيا على الدين؛ لأن الله -تعالى- مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعا، كما قال -تعالى-: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا) [النساء:139].
وقال -تعالى-: (وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا)، وكما تقدم من قوله: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)، وحتى لو بدا للناس خلاف ذلك، أو لبعض الناس خلاف ذلك، فقد أنزل الله -تعالى- آيات تطمئن المسلمين، وهم في أدنى مراحل الصراع مع أعدائهم، والمشركون يظنون أن المسلمين حينها أذِلَّة، فأنزل -تبارك وتعالى- ما يقيم الموازين، ويضبط المقاييس: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران:139-140]. أنتم الأعلون ولو ظن الناس غير ذلك.
وأُنزل مثلها على موسى لما خاف من هزيمته وذله أمام السحرة يوم الزينة والناس مجتمعون: (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى) [طه:68].
والمنافقون بالذات لا يعلمون هذه العزة، ويحسبون أنهم هم الأعزة، قال -تعالى-: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8] فالاعتزاز يكون بالدين، وما تفرع منه ورجع إليه.
الاعتزاز بالعلم يكون من هذا المبدأ، ليس بوهج العلم، ولا درجته العالية، وإنما بكونه يوصل إلى نفع المسلمين؛ لأن ذلك من طاعة الله -تعالى-.
والاعتزاز بالأبناء من هذا المنطلق، نعتز بكونهم صالحين ذوي أخلاق كريمة؛ وليس لأنهم أبناءنا فقط.
والاعتزاز بالمال ليس بكثرته، ولا لحنكتنا بتنميته؛ بل لأننا نرجو به نفع المسلمين، فنطيع الله تعالى للدين، لا سوى الدين .
فنحن كما قال عمر -رضي الله عنه-: "قوم أعَزَّنَا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله".
فالطاعة عز والمعصية مذلة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "وجعل الذل والصغار على من خالف أمري"؛ فمن عاند وخالف أمر الله -تعالى- ذلّ، إما في الدنيا أو في الآخرة قطعا؛ "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". تريدون العزة؟ هنالك العزة في طاعة الله -تعالى-.
والمسلمون الأوائل كانوا أشد إدراكا منا بأسباب الذل، وقد ثبت عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه لما فتح المسلمون قبرص وبكى أهلها وأظهروا من الحزن والذل ما أظهروا جلس أبو الدرداء -رضي الله عنه- يبكي عندما رأى ذلك المنظر، فقال له جبير بن نفير، أحد التابعين: "يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟" فقال -رضي الله عنه-: "يا جبير، ما أهون الخلق على الله -عز وجل- إذا أضاعوا أمره! بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما صاروا".
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...