البحث

عبارات مقترحة:

المهيمن

كلمة (المهيمن) في اللغة اسم فاعل، واختلف في الفعل الذي اشتقَّ...

الغفار

كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...

الحسيب

 (الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...

حقيقة الفوز وأسبابه

العربية

المؤلف منديل بن محمد آل قناعي الفقيه
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. نقصان الفوز الدنيوي وتمام الفوز الحقيقي بالآخرة .
  2. عدم استواء الفائزين أهل الجنة وأهل النار .
  3. بيانُ طرقٍ موصلة لذلك الفوز العظيم المبين .

اقتباس

إن الفوز الحقيقي هو الفوز في الآخرة، بدءاً بالموت، وما يكون في القبر وسؤال الملكين، وفي عرصات القيامة، وعند الحشر والنشر والصراط، وعند تطايُر الصحف وأخذ الكتب بالأيمان. وتأملوا في حال ذلك الفائز حينما... إن الفوز بالدنيا وحظوظها فوزٌ محفوف بالمكاره، ومعرض للنقص والزوال والنسيان؛ فالغنى يعقبه الفقر، والقوة يتبعها الضعف، والصحة يتبعها المرض، والشباب يعقبه العجز والهرم؛ بل الحياة...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي وفّق من شاء للفوز بجنته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيمَاً) [الأحزاب:71].

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائل: "اللهم إني أسألك الفوز عند اللقاء، اللهم إني أسألك الفوز عند القضاء"، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين بشرهم ربهم بالفوز العظيم، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد أيها المسلمون: اتقوا الله واخشوه وأطيعوا أمره ولا تعصوه، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [النور:52].

أيها المسلمون: كثيرا ما تطرق أسماعنا كلمة: فاز، فوز، فيقال: فاز فلان بجائزة، وفاز فلان بسيارة، وفاز فريق بكأس وآخر بميدالية، وفاز فلان بالمركز الأول، وفاز فريق على فريق بهدف أو أكثر؛ وهكذا تطرق أسماعنا هذه الكلمة كثيرا فيما يتعلق بجوائز الدنيا وحظوظها.

وقليل من الناس من ينظر بعين بصيرته ويسافر بهمته إلى الفوز الأكبر الذي ليس بعده خسارة أبداً، (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185]، (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) [الأنعام:15-16].

إن الفوز بالدنيا وحظوظها فوزٌ محفوف بالمكاره، ومعرض للنقص والزوال والنسيان؛ فالغنى يعقبه الفقر، والقوة يتبعها الضعف، والصحة يتبعها المرض، والشباب يعقبه العجز والهرم؛ بل الحياة نفسها لا تدوم. فأي فوز هذا الذي يكون في الدنيا؟.

إن الفوز الحقيقي هو الفوز في الآخرة، بدءاً بالموت، وما يكون في القبر وسؤال الملكين، وفي عرصات القيامة، وعند الحشر والنشر والصراط، وعند تطايُر الصحف وأخذ الكتب بالأيمان.

وتأملوا في حال ذلك الفائز حينما يأخذ الكتاب باليمين فيطير فرحاً مسروراً ينادي في الموقف: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ) [الحاقة:19-20].

اقرؤوا هذا الكتاب وهذه علامة فوزي وسعادتي، فلقد كنت على يقين من مجيء هذا اليوم فعملت له.

وهذا هو الجزاء: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:21-24].

وعلى الجانب الآخر يقف الخاسرون النادمون الذين غفلوا عن الفوز الحقيقي متحسرين على تفريطهم، نادمين على تضيعهم: (يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [الزمر:56].

إنَّ الفوز حقاً في النجاة من النار، ودخول الجنة دار الأبرار؛ (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ).

وما أعظم الفرق بين أهل الجنة وأهل النار! ما أعظم الفرق بين أهل العذاب والجحيم، وأهل النعيم المقيم! ما أعظم الفرق بين الناجين والهالكين! ما أعظم الفرق الفائزين والخاسرين!.

فأهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ويلعبون ويمرحون ويتلذذون ويتمتعون، (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17]، وأهل النار فيها يعذبون ويحرقون ويهانون ويضربون ويصرخون ويجأرون، (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة:20]؛ فهل يستويان؟ الجواب: كلا! (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر:20].

أيها المسلمون: لعل النفوس قد اشتاقت إلى ذلك الفوز العظيم والنجاح الكبير، ولربما تساءلت: ما السبيل إلى هذا الفوز العظيم؟ وما أسباب هذا الفوز المبين؟.

فأقول مجيباً على السؤال: لقد أجاب عنه القرآن، وبين أسباب الفوز وطرق النجاح، وبين سبل الوصول إلى ذلك الفوز الكبير.

أجملها فيما يلي:

أولاً: الإيمان بالله، فهو أساس الفوز والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:72].

ثانياً: العمل الصالح، إذ إنَّ الإيمان الحق يدفع صاحبه إلى صلاح العمل: (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) [الجاثية:30]، (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) [البروج:11]، (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الطلاق:5].

فتأملوا -أيها المسلمون- كيف وصف الفوز في الآيات الثلاث، في الأولى بالفوز المبين، والثانية بالفوز الكبير، وفي الثالثة بالفوز العظيم؛ ليدل على كمال الفوز الأخروي المترتب على الإيمان والعمل الصالح.

ثالثاً: طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- والسير على هداه، والحذر من مخالفة أمره وعدم الترسم بخطاه؛ (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [النساء:13].

رابعاً: اقتفاء أثر الصحابة -رضي الله عنهم- واتباع سبيلهم؛ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:100].

خامساً: ترك المعاصي؛ وذلك أنَّ المعاصي تفسد القلب، وتسقط العبد من عين الله، وتورثه الذل والهوان، وتعرضه لأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة؛ فالمعاصي تزيل النعم، وتحل النقم، وتمحق بركة العمر، فليس للعبد فوز إلا بترك المعاصي؛ (وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [غافر:9].

سادساً: الصدق مع الله ومع الناس؛ (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [المائدة:119].

وقد أمر الله المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].

ووصفهم بالمتقين والمحسنين، وجعل جزاءهم تكفير سيئاتهم وإعطائهم ما يشاءون: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الزمر:33-35].

سابعاً: الخوف من الله وعذابه؛ فإنَّ ذلك يؤدي إلى ترك المعاصي، وذلك أعظم الفوز: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) [الأنعام:15-16]، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

ثامناً: تقوى الله؛ فقد أخبر الله عن فوز المتقين بالجنة ونجاتهم من النار: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الدخان:51-57].

وبشرهم بالفوز في الدنيا والآخرة فقال: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [يونس:62-64].

وحقيقة التقوى أن يطاع اللهُ فلا يعصى، فيذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر؛ حقيقتها فعل الأوامر وترك النواهي.

تاسعاً: الجهاد في سبيل الله الذي هو أفضل الأعمال، فقد جعله الله -تعالى- من أعظم أسباب الفوز: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:88-89].

وبين -سبحانه- أنَّ الجهاد من أعظم التجارة مع الله الموصلة إلى الفوز العظيم: (أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الصف:10-12].

(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:111].

عن ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: سمعت رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ من خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرس في سَبِيلِ اللَّهِ" رواه الترمذي وصححه الألباني.

وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- فضله: "مَن قَاتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ فَقَدْ وَجَبَتْ له الْجَنَّةُ" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وصححه الحاكم وابن حبان عن معاذ بن جبل.

وسئل -صلى الله عليه وسلم- عما يعدله فقال: "لا تستطيعونه"، فأعادوا عليه فقال في الثالثة: "مَثَلُ الْمُجَاهِدِ في سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ، لَا يَفْتُرُ من صِيَامٍ ولا صَلَاةٍ حتى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى" رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

بعث الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك من طرسوس رسالة إلى العالم العابد الفضيل بن عياض بمكة يقول فيها:

يا عابدَ الحَرَمَيْنِ لو أبصـَرْتَنَا

لَعَلِمْتَ أنَّـكَ بالعبادةِ تَلْعَـبُ
من كان يخضِبُ جِيدَهُ بدُمُوعه فنُحُـورُنا بدمائنـا تَتَخَضَّب
أو كان يُتْعِبُ خيـلَه في باطلٍ فخُيولنا يـوم الصبيحةِ تتعب
ريحُ العبيرِ لكـُمْ ونحن عبيرُنا وهجُ السنابك والغبارُ الأطيب
ولقد أتانـا عن مقـالِ نبيِّنـا قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يكذب
هـذا كتـاب الله ينطِقُ بيننـا ليس الشهيدُ بميِّتٍ لا يكـذب

فلما قرأ الفضيل الرسالة بكى، وذرفت عيناه الدموع، وقال: صدق أبو عبد الرحمن، ونصحني.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه؛ (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

أيها المسلمون: لا يزال الحديث موصولا عن أسباب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.

عاشراً: البعد عن طاعة شياطين الإنس والجن، ومخالفتهم، وإظهار العداوة لهم، خاصة القرين والصاحب منهم: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافات:51-61].

قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "يُخبر الله -تعالى- عن أهل الجنة أنَّه أقبل بعضهم على بعضٍ يتساءلون عن أحوالهم، وكيف كانوا في الدنيا، وماذا كانوا يعانون فيها، وذلك من حديثهم على شرابهم واجتماعهم في تنادمهم ومعاشرتهم في مجالسهم، وهم جلوس على السُّرُر, والخدم بين أيديهم يسعون ويجيئون بكل خير عظيم من مآكل ومشارب وملابس، وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".

(قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ). قال مجاهد: يعني شيطانا، وقال العوفي عن ابن عباس: هو الرجل المشرك يكون له صاحب من أهل الإيمان في الدنيا.

ولا تنافي بين كلام مجاهد وابن عباس، فإنَّ الشيطان يكون من الجن فيوسوس في النفس، ويكون من الإنس فيقول كلاماً تسمعه الأذنان، وكلاهما يتعاونان. اهـ.

والمقصود أنَّ المؤمن حين عصى القرين ولم يسلك سبيله ولم يتّبعه على كفره وضلاله وإنكاره للبعث كان ذلك سبباً في نجاته وفوزه بالجنة، حيث النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.

الحادي عشر: الصبر، وفضله عظيم، فهو من صفات أولي العزم من الرسل، وقد أمر الله به، وبيّن عاقبته فقال: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:153]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200]، (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157]، (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام:34]، (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:34-35].

والصبر واجب بالإجماع، وهو نصف الإيمان، وقد بين -تعالى- أنَّه من أسباب الفوز: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:24]، (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) [المؤمنون:111]، (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) [الإنسان:12]، (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) [الفرقان:75]، (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:90].

وقد علق الله تعالى خيري الدنيا والآخرة على الصبر، فقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].

وأخبر -سبحانه- أنَّ الأخلاق العالية والأعمال الصالحة لا تنال إلا بالصبر: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) [القصص:80].

بل حتى النصر على الأعداء لا يكون إلَّا بالصبر: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران:120].

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "وإنَّ النَّصْرَ مع الصَّبْرِ" رواه أحمد والحاكم.

والصبر أنواع ثلاثة:

أولاً: صبر على الطاعة، وذلك لأنَّ الطاعات كثيرة ومتكررة فتشق على النفس، فتصعب المحافظة عليها إلَّا بالصبر، فكم من إنسان لازم المسجد وحافظ على الصلاة ثم نفد صبره فهجر المسجد وقطع الصلاة! وكم من إنسان سلك طريق الالتزام ثم لمَّا قل صبره تغيَّر حاله فانتكس وعاد إلى حال شر من حاله الأولى! وكم من إنسان جالَس الصالحين ولازمهم ثم لمَّا قل صبره هجرهم وذهب إلى أصدقاء السوء.

ولذا قال -تعالى- لنبيه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28].

ثانياً: صبر عن معصية الله، ولا بد للمسلم منه، لا سيما إذا انعقدت أسباب المعصية، وقويت دواعيها.

وتأملوا في صبر يوسف -عليه الصلاة والسلام- حينما تبدَّت له الفواحش وقويت دواعيها: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف:23]، لذلك قالت امرأة العزيز: (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) [يوسف:32].

ثالثاً: صبر على أقدار الله المؤلمة؛ فإنَّ الدنيا دار ابتلاء؛ ولذا قال -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

وعن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ما يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ في نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حتى يَلْقَى اللَّهَ وما عليه خَطِيئَةٌ" رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه الحاكم.

وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما يُصِيبُ الْمُسْلِمَ من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حُزْنٍ ولا أَذًى ولا غَمٍّ حتى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلا كَفَّرَ الله بها من خَطَايَاهُ" رواه البخاري.
 

أيها المسلمون: صلوا وسلموا على رسول الله...