الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | صالح بن مبارك بن أحمد دعكيك |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحكمة وتعليل أفعال الله |
إن بعض الذين يعظمون الناس ويرتقون المنابر ويتبوؤون صدور المجالس، وبعض من وُسِّدَ إليه التوجيه والتربية، ثم لا يقولون إلا بشدة، ولا يعظون إلا بعنف، ويحمِّلون الناس ما لا يتحملون، فمن الخير لهم أن يسكتوا ولا يكونوا لإبليس أعوانًا على الفتنة وإساءة الظن بالله، وتنفير الناس عن الدين والمساجد ومجالس العلم، وقد أمر...
الخطبة الأولى:
إن من مزايا هذا الدِّين العظيم وهذه الشريعة السمحة التيسير والإسلام يُسْرٌ كله، وهذا ما نطق به الكتاب العزيز: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، فاليسر شريعة ماضية وسنَّة محكمة، نجد ذلك في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يظهر بشكل جليِّ، فقد أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن، وقال لهما وصيته العظيمة: "يسِّروا ولا تعسِّرا، وبشّرا ولا تنفّرا"، وإنما انتدبهما لهذه المهمة لما عرفا به من فقه في الدين، ودماثة في الأخلاق، وحسن في السمت، واقتداء بالمرشد العظيم -عليه الصلاة والسلام-، وقد فقها الوصية واستوعبا الدرس وعملا على تنزيل ذلك الواقع، فالتيسير طبيعة هذا الدين القويم الذي لا يريد للناس المشقة والعنت، وإنما يحب الرفق في كل أمر، وحثّ المسلمين والدعاة والمربين والآباء والأمهات والمعلمين على وجه أخص أن يستعملوا الرفق والتيسير في الأمور كلها، بلا مراهنة ولا مجاملة ولا هوادة في الحق، وأن يكونوا بعيدين عن التشديد والتنفير والتهديد والوعيد: (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ).
والواجب أن تَغْفِر من الإساءة ما لا يضر بالدين والمجتمع، واقبل الاعتذار وغض النظر واحمل الناس على السلامة، واجعل نصب عينيك قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متنعنتًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا". مسلم.
إن بعض الذين يعظمون الناس ويرتقون المنابر ويتبوؤون صدور المجالس، وبعض من وُسِّدَ إليه التوجيه والتربية، ثم لا يقولون إلا بشدة، ولا يعظون إلا بعنف، ويحمِّلون الناس ما لا يتحملون، فمن الخير لهم أن يسكتوا ولا يكونوا لإبليس أعوانًا على الفتنة وإساءة الظن بالله، وتنفير الناس عن الدين والمساجد ومجالس العلم، وقد أمر الله موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولاً لينًا لعله يتذكر أو يخشى.
وما أشدّ حاجتنا إلى العلماء بالدين الصحيح القائم على الكتاب والسنة وطريقة السلف الصالح، الذين لا يحرِّمون إلا ما حرَّمه الله، ولا يحلِّون إلا ما أحلَّه الله، يغشون الناس بالخير في مجالسهم، ويرغّبونهم في أحكام الشريعة، ويهدونهم إلى طريق الاستقامة، وهو طريق محفوف بالعوائق والمكاره التي تحتاج إلى أهل الحكمة والبصيرة وأهل العلم والرفق، وهم قليل وقليل.
قد جاءت الشريعة بنسخ أحكام المشقة والإعلال التي كانت فيمن قبلنا، كترك معاشرة المرأة الحائض، وتحديد الزواج ومنع الطلاق وتحريم الشحوم إلا ما حملت ظهور الأنعام أو الحوايا، وأن لا تؤخذ الدية بدلاً من القصاص، وقطع موضع النجاسة من الثوب الذي به نجاسة... وغيرها من الأمور التي تعجز النفس عن تحمُّلها إلا بمشقَّة بالغة.
جاءت شريعتنا الغرَّاء بنسخ كل ذلك، ورفع الحرج عن الناس، وإزالة أسباب المشقة، وحمل الناس على ما يطيقون، ونطق القرآن بذلك: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)، وقد جاءت أحكام الشريعة تؤكد تلك القاعدة -قاعدة التيسير- في رفعه المشقة، فمن ذلك:
أن الله أسقط الجمعة والجماعة عن المسافر والمريض، وأباح لهما التيمم والفطر في رمضان، وقضاء الصيام بعد الصحة والإقامة، وأذن للمسافر قصر الصلاة وجمعها، وللمريض أن يصلي قاعدًا، ويجمع إن احتاج ذلك.
ولا زكاة ولا حج ولا جهاد إلا على القادر المستطيع، والحدود تُدرأ بالشبهات، ولا قصاص على المتعمد في الجنايات، والمرأة والعبد والصغير والمجنون يختلفون عن غيرهم في الأحكام والتكاليف، والأصل في الأشياء الحل والطهارة، ولا أثر لتلك مع اليقين، ولا ضرر ولا ضرار، والمشقة تجلب التيسر: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، وبمثل هذه الأحكام الميسرة كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرشد أصحابه إليها، ويرغبهم في الإسلام، فكان يقول: "إن خير دينكم أيسره". ثلاثًا. وفي لفظ: "إنكم أمة أريد بكم اليسر". أحمد وصححه الحافظ (فتح 1/94).
وكان يقول: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدَّلجة". وبال يومًا أعرابيًا في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا به فقال -صلى الله عليه وسلم-: "دعوه وأريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".
وكان يوصي أصحابه بالرفق واليسر فيقول: "ما دخل الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، وإن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف".
فأين الدعاة المربون والأمراء وأولياء الأمور والمدرسون من هذه التعاليم الكريمة والإرشادات النبوية السمحة؟!
نسأل الله أن يصلح أحوالنا، ويلهمنا رشدنا، ويرقق قلوبنا، ويسلك بنا مسلك الصالحين.
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
يحسن بنا ونحن نتحدث عن اليسر والرفق وأن ذلك معلم من معالم هذا الدين الحنيف، يجمل لنا أن نشير إلى أهمية التوازن والاعتدال، فإن ذلك معلم آخر من معالم الشريعة الغرَّاء، ولا شك أن التيسير مسألة نسبية، ولذلك انقسم الناس اتجاهها قسمين:
فمنهم من يغلب على طبعه التشدد والتغليظ، فيميل إلى جانب التحريم والمنع، حتى يضيِّق الواسع على الناس، وإذا كان هذا المسلك مقبولاً من باب الزهد والورع في حق الشخص نفسه، فإنه غير مقبول في باب الفقه والفتوى وحمل الناس عليه.
ومن الناس من يصل به دعم التيسير إلى التساهل وتغليب الإباحة على المنع، فيشرع في الفتوى بالإباحة فيما هو أقرب إلى المنع، ويترك أهله ومن تحته من الناس على شفا هلكة من التفلت والتساهل ربما بلغ حد الاستهتار، وهذا مسلك خطر، وخاصة في ظل حالات قلَّة الدين وتلاشي وازع الإيمان وتفلت المجتمع وغلبة الشر وأهله، فكل ذلك يحتاج إلى علم وحكمة، علم يقوم على الدليل واحترام النص الشرعي وتعظيمه، وحكمة بأن يضع الشيء في مكانه ويقدر الأمور بقدرها من غير إفراط ولا تفريط، ومن غير غلوّ ولا تساهل، فشرع الله وسط بين التشدد والتساهل، وهذا التوسط والاعتدال مع التيسير هو وصف العلماء المحققين والأكفاء من الرجال، وهو ما ربّى عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه الكرام -رضي الله عنهم-، قال عمر بن إسحاق: "لما أدركت من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر مما سبقني، فما رأيت قومًا أيسر يسرة ولا أقل تشديدًا منهم". الدارمي (1/51).
وكل ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من الهدى والأحكام حق، وهو في حقيقته التيسير ولو كان ظاهرها في نظر البشر الضعيف بخلاف ذلك، فإن أحكام الدين الثابتة الصحيحة بها كل الخير وفيها كل اليسر، ولذلك قال الله –عز وجل- آمرًا بالجهاد الحق مبينًا بعده رفع الحرج في الدين: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ).
فله الحمد -جلَّ جلاله- على كماله، وله الحمد على جميل شرعه، وله الحمد على كمال الدين ويسره.
اللهم إنَّا نسألك أن تغفر ذنوبنا...
وصلِّوا وسلِّموا...