القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | خالد بن محمد الشارخ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لقد ساد الصحابة والتابعون يوم أن كانوا أسودًا للإسلام وحماة للدين وسياجًا واقيًا قويًا للعقيدة، وذللنا يوم أن اتخذنا العزة بالدنيا والدرهم، وهُنا على الله وعلى الناس يوم أن اتخذنا الدنيا وطنًا وسكنًا، ووالينا لأجلها وعادينا لأجلها، فلأجلها نرضى ولأجلها نغضب. فها نحن لنا في كل موضع من جسدنا ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، أو وكزة بعصا. فها...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
معاشر المسلمين: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
أيها الإخوة المؤمنون: لقد تغير في هذه الأزمان كل شيء، وشمل هذا التغير جميع نواحي الحياة.
لقد تغيرت المفاهيم، وطاشت الموازين، وغاب وازع الدين، ولم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا رسمه، وصار أمر الدين وهمُّ الإسلام آخر اهتمامات المسلمين، إن كان له في نفوسهم همّ، أواصر الدين وروابط الإسلام توشك أن تنقطع، إن لم تكن قد انقطعت، وأصبحت الدهماء تسير وراء سراب الدنيا وتتسابق عليه.
ولكن السراب وإن زان لمعانه، وأعجب الناظرين بريقه وجماله فهو سراب، (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) [النور:39]، وليته لما لم يجده شيئًا قنع ونظر في نفسه وحاله، ولكنه انطلق خلف سراب آخر... وهكذا دواليك.
لقد تغير في الناس حتى دينهم والتزامهم، نعم تغير دينهم، فما كانوا يرون به بأسًا بالأمس هو من الجائزات اليوم، وما كان خطيئة وإثمًا بالأمس أصبح حسنة وطاعة اليوم، وهي الفتنة التي قال الله عنها: (فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63].
قيل لأحد علماء السلف: ما الفتنة في هذه الآية؟! قال: أن يصبح ما كنت تراه حرامًا حلالاً أو ما كنت تراه حلالاً حرامًا، يعني بدون دليل شرعي.
ولقد صدق الإمام الناسك -أعني أنس بن مالك- حين قال كما في الصحيح: "وإنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات". لمن يقول هذا الكلام -أيها الإخوة-؟! إنه يقول للتابعين، وهم من القرون المفضلة.
ولقد أدرك أنس بن مالك تغير الأمة ولاحظ بدء قصورها، فرأى حين رجع إلى المدينة بعد أن مكث في الشام دهرًا قليلاً، وجد الناس لا يسوون صفوفهم، فقال: "لقد تغيرت علي صفوف الناس في صلاتهم". يعني على عهد النبي –صلى الله عليه وسلم-.
لقد عرف أنس بن مالك أن هذه هي بداية ميلان الجادة وانحراف الطريق، فماذا يقول يا ترى لو أدرك زماننا؟! ورأى أحوالنا؟!
ليت الناس ما غيروا إلا صفوفهم، لكان الأمر سهل والخطب أخف، ولست أقول: هلك الناس، ولست بالمهلك، ففي الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا، وكيف أهلك الناس وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "من قال: هلك الناس، فهو أهلكهم". على الوجهين. ونؤمن بقول الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله". رواه البخاري ومسلم.
ولكن لا يخفى على أي مؤمن صادق ما آل إليه أمر الناس وحال المسلمين اليوم من الغرابة، فالموافق المتابع فيه لما عليه الرعيل الأول قليل، والمخالف هو الكثير، وقد اندرست رسوم كثير من الشريعة أو كادت وانمحت بعض مظاهر الدين أو زالت، وإلى الله المشتكى وإليه الملجأ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقد حفظ الله بمنّه وكرمه هذه البلاد المباركة، وفّق الله القائمين عليها لكل ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.
وكأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينطق بيننا ويعيش بين أظهرنا، حين أخبرنا عن زماننا هذا. فقال كما في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء".
وفي رواية الإمام أحمد: قيل: من الغرباء؟! قال: "الذين يصلحون إذا فسد الناس".
وروى الإمام أحمد وابن المبارك في الزهد بإسناد فيه ضعف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "طوبى للغرباء"، قالوا: يا رسول الله: من هم؟! قال: "أناس صالحون في أناس سوءٍ كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم". وفي رواية: "من يبغضهم أكثر ممن يحبهم".
أيها الإخوة الأعزاء: إن للصابر في هذا الزمان أجر خمسين صحابيًا، وإن كان لا يدرك فضلهم لقوله -عليه السلام-: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". أخرجه الشيخان في الصحيح.
فقد يدرك المسلم أجر الصحابي، ولكن لا يدرك فضله: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:21].
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر". رواه الترمذي والحديث حسن بشواهده.
وعن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من ورائكم زمان صبر، للمتمسك فيه أجر خمسين شهيد منكم". أخرجه الطبراني في المعجم الكبير بسند صحيح.
ولقد أحسن القائل:
وهذا زمان الصبر من لك بالتي | كقبض على جمر فتنجوا من البلا |
أيها المسلمون: لقد ساد الصحابة والتابعون يوم أن كانوا أسودًا للإسلام وحماة للدين وسياجًا واقيًا قويًا للعقيدة، وذللنا يوم أن اتخذنا العزة بالدنيا والدرهم، وهُنا على الله وعلى الناس يوم أن اتخذنا الدنيا وطنًا وسكنًا، ووالينا لأجلها وعادينا لأجلها، فلأجلها نرضى ولأجلها نغضب.
فها نحن لنا في كل موضع من جسدنا ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، أو وكزة بعصا. فها نحن نسمع بين حين وآخر نواح الثكالى وبكاء اليتامى ولا مجيب.
أتسبى المسلمات بكل أرضٍ | وعيش المسلمين إذن يطيبُ |
وكم سمعنا من أصوات: وامعتصماه، فإذا الصوت هو الصوت الأول الذين سمعه المعتصم فالمصدر هو المصدر، لكن السامع غير السامع، والحال غير الحال.
رب وامعتصمـاه انطلقت | ملء أفـواه الصبايا اليُتَّمِ |
لامسـت أسماعنـا لكنها | لم تلامـس نخوة المعتصم |
أيها الإخوة: إنه لا عزة للأمة الإسلامية ولا مكانة لها ما دامت لا تضحي لدينها، ولا تثأر لعقيدتها.
ولن تنال العزة والقوة والتمكين في يوم من الأيام، بالمال والجاه، أو الانهزامية، والخذلان.
وتأمل معي هذه القصة التي يرويها الحاكم في مستدركه. خرج عمر بن الخطاب إلى الشام -وذلك حينما ذهب ليتسلم مفاتيح بيت المقدس وكان خليفة المسلمين آنذاك- قال الراوي: ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة، فنزل عنها وخلع خُفَّيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين: أأنت تفعل هذا؟! تخلع نعليك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟! ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك -أي نظروا إليك وأنت على هذه الحال-، فقال عمر: أوّه، لو يقول ذا غيرك -أبا عبيدة- جعلته نكالاً لأمة محمد –صلى الله عليه وسلم-، إنا كنا أذلّ قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله.
وهذا ربعي بن عامر يرسله سعد بن أبي وقاص قِبَل القادسية رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة.
وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب مرقعة صفيقة وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبه حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسادات، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك. فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني. فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له. فأقبل متوِكئًا على رمحه فوق النمارق فتخرق عامتها فقالوا له: ما جاء بكم؟! فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
أيها المسلمون: لقد ضرب لنا جيلنا الأول من الصحابة والتابعين أروع ما عرفه التاريخ من التضحيات والإقدام والشجاعة حتى خافت الفرس والروم آنذاك من هذا السيل الجارف والقوة الكاسرة.
لقد كانت المبادئ عندهم والغايات التي يسعون لتحقيقها هي رفعة الدين، ونصرة الدعوة وحماية العقيدة فبذلوا لتحقيقها كل غاية ووسيلة صغرت أم كبرت.
كان هذا الهم وهذه المبادئ لا يختص به الرجال فقط بل حتى النساء والصبيان.
فهذا الزبير بن العوام كان جالسًا يومًا عند الكعبة مسندًا ظهره إليها، وإذا بمنادٍ ينادي: لقد قتل محمد، لقد قتل محمد، فقام الزبير فزعًا مضمومًا وسل سيفه، وانطلق يبحث عن مصدر الصوت، وكان عمره آنذاك اثني عشرة سنة، نعم أيها الإخوة عمره اثني عشرة سنة. فبينما هو كذلك إذا به يقابل النبي -صلى الله عليه وسلم- فانكب عليه، فقال: يا رسول الله: لقد سمعت عنك كذا وكذا، ووالله لقد خرجت بسيف لأقابل قريش أجمع أقتل أو يقتلوني.
نعم -أيها الأخوة-، عمره اثنا عشرة سنة وهذه اهتماماته وهذه بطولته، يريد أن يقاتل قريشًا أجمع وحده ثأرًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
فما هي اهتمامات شبابنا اليوم، ولست أقول الذين أعمارهم اثنا عشرة، ولكن الذين أعمارهم في العقد الثاني والثالث.
أخرج ابن عساكر والحاكم والبغوي بمعناه: عن سعد بن أبي وقاص قال: رد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمير بن أبي وقاص عن مخرجه إلى بدر، واستصغره، فبكى عمير فأجازه النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال سعد: فعقدت عليه -أي ربطت- حمالة سيفه، قال سعد: فقتل ببدر وهو ابن ست عشرة سنة.
واسمع معي هذه البطولة التي يقوم بها غلامان صغيران؛ أخرج الشيخان عن عبد الرحمن بن عوف قال: إني لواقف يوم بدر في الصف، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما. فقال: يا عماه: أتعرف أبا جهل؟! فقلت: نعم، وما حاجتك إليه؟! قال: أخبرت أنه يسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضًا مثلها، فلم أنشب -أي لم ألبث- أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول بين الناس، فقلت: ألا تريان؟! هذا صاحبكم الذي تسألاني عنه؟! فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبراه، فقال: "أيكما قتله؟!"، قال كل منهما: أنا قتلته، قال: "هل مسحتما سيفيكما؟!"، قالا: لا، قال: فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- في السيفين فقال: "كلاهما قتله".
ولم تكن الشجاعة والإقدام والتضحية في أطفالهم ورجالهم فسحب، بل كانت الشجاعة حتى في نسائهم، جيل متكامل، جيل يمثل الأمة المؤمنة الفاضلة التي يحلم بها الفلاسفة وعلماء الاجتماع منذ زمن بعيد.
نعم إنها تكامل الشخصيات وعلو الهمة، وسمة النظرة، وقوة اليقين، وصدق الإيمان، فله درُّهم!!
فهذه صفية تدافع عن حصن المسلمين وذلك حينما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- خارجًا في غزوة الخندق، فمر رجل يهودي فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله، تقول صفية: وليس بيننا وبين أحد يدفع عنا، فلما أحست صفية أنه يريد أن يتأكد هل بالحصن رجالٌ أم لا؟! حتى يغير على النساء، فلما دخل الحصن أخذت عمود فسطاط فقتلته ثم ألقته من أعلى الحصن، فلما رأى ذلك اليهود، قالوا: ما كان لمحمد أن يخرج ويترك النساء بلا رجال.
وهذه أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية، دافعت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكانت تسقي الناس يوم أحد، فلما رأت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أحيط به، وانهزم عنه الناس، وضعت سقاءها، وأخذت سيفًا، فجعلت تقاتل أشد القتال حتى جُرحت ثلاثة عشر جرحًا، وظل على عاتقها من هذه الجراح جُرح أجوف له غور أصابها به ابن قَمِئَة فأماته الله في نار جهنم.
وفي بعض الروايات، لما كانت تدافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكثرت عليها الجراح وهي تدافع، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة!! سليني يا أم عمارة"، فقالت: ادع الله أن نرافقك في الجنة -تريد نفسها وزوجها وابنيها حبيبًا وعبد الله-، فقال: "اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة".
هؤلاء النساء الصحابة وهذه بطولاتهم، فما لنسائنا اليوم لا يعرفن تاريخهن ولا يعشن أمجاد الأفذاذ من الصحابيات!! ولست أعني أبدًا أن نزاحم الرجل أو أن تشارك في المعارك، ولكن لتكن امرأة معتزة بدينها وكيانها وبعزتها وبحجابها، ولا تقلد الكافرات ولا تعجب في السافرات.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: إن هذا القرآن الذي قرأه الصحابة وتأثروا به وعملوا بما فيه، والذي أصبح المحرك لهم لجميع بطولتهم ومواقفهم الخالدة التي لا تنسى، إن هذا القرآن -أيها الإخوة- الذي تأثروا به تأثرًا بالغًا هو نفس القرآن الذي بين أيدينا، لكن القلوب غير القلوب والنفوس غير النفوس.
وإلا فالقرآن واحد، والأسماع واحدة، والتلاوة نفسها، لكن التي تغيرت هي القلوب (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46].
لقد كان الواحد منهم -رضي الله عنهم- من الصحابة فمن بعدهم ربما سمع الآية فتغيرت مسيرة حياته، فهذا أبو طلحة لما كبرت سنه ورق عظمه وشابت لحيته، كان يقرأ سورة براءة (التوبة)، فلما بلغ قوله تعالى: (انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً) [التوبة:41]، فقال: لا أرى ربنا إلا يستنفرنا شبابًا وشيوخًا بآية، جهزوني جهزوني. فجهزوه فغزا في البحر فمات في البحر. فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام، فدفنوه بها وهو لم يتغير.
أما نحن فقد سمعنا آيات كثيرة، وترنمنا بسماعها وقراءتها، فما فعلت فينا شيئًا، عجبًا لنا نسمع الآيات والمواعظ والخطب والكلمات، فموعظة في المسجد وموعظة عبر الشريط وموعظة في الجمعة وموعظة عبر المذياع. ولكن أحوالنا على ما هي عليه، بل كل يوم نزداد بعدًا وتقصيرًا وتفريطًا في طاعة الله إلا من رحم الله.
أيها المسلمون: قد سمعنا بعض تضحيات نسائهم وأطفالهن، فماذا عسى أن تكون تضحيات رجالهم!!
فهذا عبد الله بن جحش في معركة أحد يدعو يقول: اللهم أني أقسم عليك أن ألقى العدو غدًا فيقتلوني ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني: فيم ذلك يا عبدي؟! فأقول: فيك يا رب.
وهذا عمرو بن الجموح كان أعرج شديد العرج، وكان له أربعة أبناء يغزون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا غزا، فلما توجه رسول الله إلى أحد، أراد أن يتوجه معه، فمنعه أبناؤه لكبره، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله فقال: يا رسول الله: إن بنيّ هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك، والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه الجنة، فقال له رسول الله: "أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد"، وقال لبنيه: "وما عليكم أن تدعوه، لعل الله -عز وجل- أن يرزقه الشهادة"، فخرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقتل يوم أحد شهيدًا.
وهذا أنس بن النضر أقسم على نفسه نفس -إذ تخلف عن غزوة بدر- إذا جاءت غزوة أخرى ليرين الله ما يصنع، فلما انكشف المسلمون في غزوة أحد انطلق وقال: اللهم إني أعتذر إليك من صنع هؤلاء -ويعني أصحابه حينما نزلوا الجبل-، وأبرأ إليك من صنع هؤلاء -يعني المشركين-، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ: الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد. قال سعد: فما استطعت -يا رسول الله- ما صنع، قال أنس بن مالك: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثّل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أخته ببنانه -إصبعه-، قال أنس: فكنا نظن أن هذه الآية نزلت في أشباهه: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب:23].
وهذا رجل آخر من الصحابة يهجم عليه رجلٌ فيطعنه طعنة في صدره، فلما سال الدم، أمسك الدم بيمينه ونظر إليه وقال: فزت بها ورب الكعبة، فزت بها ورب الكعبة، فزت بها ورب الكعبة.
ولما انكشف المسلمون في معركة أحد ظهرت البطولات والتضحيات، وفي وسط هذه الدهشة المذهلة والمفاجأة المحزنة، حين خرج المشركون بقيادة خالد بن الوليد -قبل أن يسلم- على المسلمين من خلف الجبل، وبعد أن نزل الرماة من جبل أحد، صرخ الشيطان إبليس بأعلى صوته: إن محمدًا قد قتل، ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين، ومرّ أنس بن النضر صاحب القصة السابقة بقوم من المسلمين وقد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما تنتظرون؟! فقالوا: قتل رسول الله، فقال: فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا موتوا على ما مات عليه.
ولكن الحقيقة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقتل، وخلص المشركون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وثبت -صلى الله عليه وسلم- في وجه العدو وقاتلهم قتالاً شديدًا، فظل يرمي بالنبل حتى فني نبله، وانكسر قوسه، ثم ظل يرمي بالحجارة حتى دفعهم عنه.
وثبت معه نفر من أصحابه قيل: إنهم دون العشرة، وقيل: إنهم فوق العشرة، وأحاطوا به يصدون هجمات العدو الذي أحدق بهم من كل ناحية، وشدوا عليه يريدون أن يقتلوه، فما زال هؤلاء النفر يذودون عنه ويقاتلوه دونه ويتلقون ضربات العدو.
وترّس أبو دجانة نفسه دون رسول الله، فجعل النبل يقع على ظهره وهو منحنٍ على رسول الله حتى كثر فيه النبل، ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله، فجعل رسول الله يناوله النبل ويقول: "ارم فداك أبي وأمي".
ودافعت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم عمارة وقد ذكرنا قصتها.
ولكن رغم ذلك كله جرح العدو وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- وكسروا رباعيته، وهشموا البيضة -الخوذة- التي على رأسه الشريف، ورموه بالحجارة، حتى وقع وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين، فأخذ عليّ بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله، وكان الذي تولى أذى النبي -صلى الله عليه وسلم- عمرو بن قمئة وعتبة بن أبي وقاص، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه، فانتزعها أبو عبيدة بن الجراح، وعض عليها حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجهه -صلى الله عليه وسلم-.
أرأيتم -أيها الإخوة- كيف نحن تغيرنا، وأصبحت أمجادنا رهن الذكريات وسجينة كتب التاريخ!!
تكدّر من بعـد النبي محمـدِ | عليه سلام الله ما كان صافيًا |
فكم من منار كان أوضحه لنا | ومن علم أمسى وأصبح عافيًا |
ركنَّا إلى الدنيـا الدنية بعـده | وكشفت الأطماع منا المساويَ |
وإنا لنمـر من كـل يوم بنكبة | نراهـا فما تزداد إلا تعاميـًا |
أيها المسلمون: أفيقوا واعلموا أنكم أصحاب أمجاد وتاريخ عريق، وأصحاب بطولات لم يعرف التاريخ لها نظيرًا، فاربؤوا بأنفسكم أن تكونوا أذلاء صاغرين لا قيمة لكم ولا عزة لكم.
وارفعوا أنفسكم عن سفاسف الأمور، وتطلعوا إلى معاليها، وإياكم والمعاصي والاستسلام للمحرمات صغرت أم كبرت، وإن الخلق لا يهونون عند الله إلا حينما يخالفون أمره، كما قال أبو الدرداء: "ما أهون الخلق على الله إذا هم خالفوا أمره". وإذا كتب الله علينا الهون فمن يكرمنا، (وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج:18].
انتصر على نفسك على الأقل القليل، إن لم تستطع أن تكون كالصحابة والتابعين في أقدامهم وشجاعتهم فلا أقل من أن تكون منتصرًا على نفسك مسيطرًا عليها، كم من إنسان تغلبه نفسه وتتحكم به شهواته، فما أن يظهر على الساحة أي معصية أو فتنة حديثة إلا وانجرف وراءها.
ماذا عساك أن تنتظر من هؤلاء وهم لم ينتصروا على أنفسهم التي بين جنباتهم.
اللهم أيقظنا من سبات الغفلات.