البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | صالح بن مبارك بن أحمد دعكيك |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
وإن التوبة أرجى ما تكون وإن العبد أصدق ما يكون وهو يستقبل هذا الشهر الكريم، والتوبة النصوح هي أعظم ما يستقبل به العبد شهر ربه هذا: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ). وإن الله -عز وجل- خلق الخلق وركّب فيهم غرائز وشهوات وحب اللذات، وكثيرًا ما يضل الإنسان عن الطريق وينحرف عن الجادة بوازع من الجهل والهوى تارة، أو...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملك الوهاب، الرحيم التواب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو، يحب التوابين ويحب المتطهرين ويغفر للمخطئين والمستغفرين، يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، اللهم لك الحمد كله، ولك الشكر كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يفرح بتوبة عبده وهو غني عنه، عبده يعرض عنه وهو فقير إليه.
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، كان يتوب إلى ربه ويستغفره في اليوم أكثر من سبعين مرة، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
أيها المسلمون: إننا -ونحن على مشارف انتهاء شهر شعبان ودخول شهر رمضان، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران- يجب علينا أن نتهيأ ونستعد لملاقاة هذا الضيف الكريم حتى ينزل بنا وقد هيأنا نفوسنا وأصلحنا قلوبنا، حتى نستثمر هذا الشهر وننال من بركته وأجره وثوابه، فإنه والله أعظم محطة يتزود فيها الصالحون، وأكبر فرصة يتجر بها العاملون، وخير معين للسالكين.
وإن التوبة أرجى ما تكون وإن العبد أصدق ما يكون وهو يستقبل هذا الشهر الكريم، والتوبة النصوح هي أعظم ما يستقبل به العبد شهر ربه هذا: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ).
وإن الله -عزّ وجل- خلق الخلق وركّب فيهم غرائز وشهوات وحب اللذات، وكثيرًا ما يضل الإنسان عن الطريق وينحرف عن الجادة بوازع من الجهل والهوى تارة، أو باستجابة لإغراء عابث ونفس تارة، أو لشهوة جامحة قوية، الأمر الذي يهبط بمستواه الإنساني ويحول بينه وبين الطهر والتسامي، فيسقط قيمته، وينزل رتبته، ويهبط إلى الدرك الأسفل، وينخرط إلى حضيض البهيمة، حتى إنك لتجده بأذن لا تسمع، وبعين لا تبصر، وبقلب لا يفقه، فهو حيوان في صورة بشر.
والإنسان قد تمر به ساعات يغفو فيها ضميره، فتستيقظ غرائزه، وتخر فيها قواه، فيسقط صريع الهوى والشهوة، ويا له من سقوط مسيء، ويا لحقارتها من لذَّة مؤقتة تورث مذلة وترمي بصاحبها في أوحال العبودية للشهوات، ويبقى بعدها يجتر سوء مغبتها ويلاحقه الإثم والعار، ولا خير في لذَّة تفضي إلى النار، وإن ظل على صنيعه ذاك وأصر على مخالفته تلك ولم يوفق لتوبة نصوح فإن سوء الخاتمة مصير محقق له، ويوم العرض الأكبر يفتضح أمام الخلائق في المحشر: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ).
ولكن على كل حال فعلى الواحد منَّا أن يتذكر أنه لم يخلق ملكًا كريمًا ولا بشرًا معصومًا، وإنما هو إنسان تتنازعه قوى الخير والشر، فتارة يغلب خيره شره، فيكون خيرًا من الملائكة، وتارة يغلب شره خيره، فيكون شرًّا من البهائم، وكلنا ذووا خطأ، والمعصوم من عصمه الله؛ يقول نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون". وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "والذي نفسي بيده لو لم تخطئوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون ربهم فيغفر لهم".
فلا بد من الخطأ، ولا مفر من التقصير:
مَنْ الذي ما ساء قط | ومَنْ له الحسنى فقط |
ولكن من زلت به قدمه، وقارف إثمًا، وعالج خطأً، وعاقر ذنبًا، ثم عاد إلى ربه نادمًا حزينًا كسيرًا إلاَّ تقبله ربه وهو أرحم الراحمين؛ قال -جلَّ شأنه-: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً).
وفي الحديث: "إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وإن الله تعالى سبقت رحمته غضبه، بل وسعت رحمته كل شيء، وإن لله تعالى مائة رحمة أنزل فيها إلى الدنيا رحمة واحدة يتراحم الخلق والدواب، حتى إن الدابة ذات القوة والشراسة لترفع رجلها ليرضع منها وليدها، فإذا كان يوم القيامة جاءت تسعة وتسعين رحمة وهي للمؤمنين خاصة". وفي الصحيحين في قصة السبي الذي أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان من بين السبي امرأة تبحث عن طفل لها فقدته لا تلوي على شيء، حتى وجدت طفلها بعد مشقة وعناء فاحتضنته وألصقته ببطنها، وهي لا تكاد تصدق عثورها عليه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يراقبون ذلك الموقف فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أترون هذه طارحة ولدها في النار؟! قالوا: لا والله يا رسول الله، فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها".
فيا من وسعت رحمته كل شيء فارحمنا:
يا كثير العفو عمن | كثـر الـذنب لـديه |
جاءك المذنب يرجو | الصفح عن جرح لديه |
أنـا ضيف وجزاء | الضـيف إحسان إليه |
عباد الله: لقد دعانا الله -جلَّ وعلا- إلى التوبة، وفتح لنا أبوابًا فقال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً).
وأمرنا الله بالتوبة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً)، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وأبان الله لنا جزاء التائبين لديه بقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).
وعند الترمذي وصححه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -جل وعلا- في الحديث القدسي: "يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أُبالي، يا ابن آدم: لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة".
سبحان الذي يعفو وتهفو دائمًا | ولا يزال مهما صفا العبد عفا |
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه | جـلاله عـن العطاء لذي الغطا |
يا من يجول في المعاصي قلبه وهمه، يا مؤثرًا الهوى على التقى لقد ضاع حزمه، يا معتقدًا صحته فيما هو سقمه، يا من كلما زاد عمره زاد إثمه، يا طويل الأمل وقد رقَّ عظمه، يا قليل العبر وقد رحل أبوه وأمه، يا من سيجمعه اللحد عن قريب ويضمه، كيف يوعظ مَنْ لا يعظه عقله ولا فهمه، كيف يوقظ من نام قلبه لا عينه ولا جسمه.
بك أستجير ومن يجير سـواك | فأجر ضعيفًا يحتمي بحماكَ |
يا غافرًا للذنب العظيم وقـابلاً | للتوب قلب تائبٌ ناجاكَ |
أتـرده وترد صـادق تـوبتي | حاشاك تطرد لائذًا حاشاكَ |
أنا كنت يا ربي أسـير غشاوة | رانت على قلبي فضل سناكَ |
ذقت الهوى مرًا ولم أذق الهوى | يا رب حلوًا قبل أن أهواكَ |
عباد الله: إن العمر ساعات تذهب وأوقات تنهب، وكلها معدودة علينا، والموت يدنو كل لحظة منا، فعلينا المبادرة إلى التوبة قبل فوات الأوان.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله القائل في كتابه المبين: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، أحمده سبحانه إذ فتح لعباده باب التوبة، ودعاهم إليها وتوعدهم بقبولها، ويمحو سيئاتهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا رب لنا سواه ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير من زكى وتطهر واستغفر وأناب إلى مولاه.
عباد الله: إن ابن آدم مخلوق ضعيف، وقد حف به أعداء كثير من شياطين الجن والإنس، يحسِّنون له القبيح، ويقبّحون له الحسن، ومع هؤلاء الأعداء نفسه الأمَّارة بالسوء تدعوه لمقارفة الشهوات المحرمة، وإلى جانب ذلك دنيا مؤثرة، فهو معرَّض للخطر من كل جانب، ولكن مع هذا كله جعل الله حصنًا حصينًا إذا آوى إليه رجعت تلك السهام خاسئة مدحورة، ذلكم هو حصن التوبة والاستغفار لله والاستعانة به: (وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).
فيا من بدرت منه خطيئة، وصدرت منه سيئة، بادر بالتوبة والاستغفار، وأتبعها الحسنة محاها الله وكفر عنه ووقاه شرها وخطرها بإذنه -جلَّ جلاله-.
وإن أعظم ما يصاب به الإنسان هو استصغار الذنب واحتقار الخطيئة، وإنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلاله وعظمته سبحانه وتوقيره له، ولذا قال العارفون: "لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، وإن المؤمن ليرى ذنبه كأنه جبل عظيم يخشى أن يقع عليه، وإن المنافق يرى ذنبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا بيده".
واسمعوا من أنس بن مالك وهو يخاطب جيل التابعين: "إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، إن كنا لنعدها في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات".
فهذا خطاب سادات التابعين، فكيف بحالنا ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فيا أيها الناس: إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإن لها من الله طالبًا، وإنها لتجتمع على الرجل فتهلكه واتعظوا بقول نبيكم -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس: توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة".
عباد الله: إن كان هذا شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد غفر ذنبه ما تقدم منه وما تأخر، وقد شرح صدره ورفع ذكره وحط وزره، فما هو حالنا -نحن المذنبين المخطئين-.
رباه:
أنا العبد الذي كسب الذنوبَ | وصـدته الأمـاني أن يتـوبَ |
أنا العبد الذي أضحى حـزينًا | عـلى زلاته قـلـقًا كئـيبًا |
أنا العبد المسيء عصـيت سرًّا | فما لي الآن لا أُبدي النحيبَ |
أنا العبد الفقير مـددت كفي | إليـك فـارفع عني الخطوبَ |
أنا المضطر أرجو منـك عفوًا | ومن يرجو رضـاك فلن يخيبَ |
فيا أسفى على عمر تقـضى | ولم أكسب به إلا الــذنوبَ |
ويا خجلاه من كبح اكتسابي | إذا ما أبدت الصحف العيوبَ |
وذله موقف وحساب عـدل | أكون به على نفسي حـسيبًا |
فيا من مدَّ في كسب الخطايا | خطاه أما آن الأوان أن تتـوبَ |
أيها الأحبة: علينا أن نعقد العزم والنية على التوبة النصوح والرجوع إلى الله تعالى، وأن الله تعالى لناظر إلينا كيف نعمل، فهل آن أوان التوبة؟! وهل حان وقت الحوبة؟!
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون).
فيا رب: سر بنا في سرب السحابة، ووفقنا للتوبة والإنابة، افتح لنا أبواب الإجابة، برحمتك يا غفور يا رحيم.
ربنا: إنَّا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا وارحمنا، اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا.
وصلوا وسلموا...
إن الله يأمر بالعدل والإحسان...