القريب
كلمة (قريب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فاعل) من القرب، وهو خلاف...
العربية
المؤلف | صالح بن مبارك بن أحمد دعكيك |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
إن الذي لا يتدبر في خلق نفسه ويرى من خلالها عظيم صنع الله وجميل عطائه ولطيف إحسانه فيحمده ويشكره ويعبده ويعترف بتقصيره، إن الذي يعرض عن ذلك كله جدير بأن يلحق بعالم...هل نظر الإنسان كيف حسَّن الله شكل عينيه ومقدارهما، ثم جملها بالأجفان غطاءً لها وسترًا وحفظًا وزينة، فهما يتلقيان عن العين الأذى والقذى، ويقيانها المؤذي من الأشياء، وكيف تغلقان قبل...
الخطبة الأولى:
لقد أودع الله في الكون خلقًا فيه من بديع الصنع وعجيب الخلق ما يحير العقول ويُذهب الألباب، ما يدل على كمال حكمته وألوهيته وربوبيته، ففي الكون من الآيات والعجائب ما تجعل المتأمل يخر ساجدًا لعظمة الخالق وبديع صنعه: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى)، (وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا).
وفي كل شيء له آية | تدل على أنه الواحد |
وأعجب ما في هذا الكون من الخلائق هو هذا الإنسان، هذا المخلوق العجيب في خلقه وتركيبه وصورته وما أودع الله فيه من عجائب الصنع والخلق، ولهذا قال الله: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ)، ثم أورد قائلاً: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).
فهذا الإنسان الذي يضرب في الأرض، معتدل الخلقة، تام الأعضاء، عجيب الهامة، أصله نطفة كانت مغيبة في صلب الرجل وترائب المرأة، ولا يعلم بمكانها إلا خالقها ومدبّر أمرها: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ).
إنه لم يكن قبل ذلك شيئًا، بل كان في أعماق المجهول: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً).
إن هذا المخلوق العجيب مرَّ بأطوار مختلفة حتى استوى خلقه إبداعًا وجمالاً: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).
فابن آدم خلق من نطفة وهي قطرة من ماء ضعيفة مستقذرة، ساقها الله -عز وجل- بقدرته إلى مستقرها في رحم الأم، حيث القرار المكين، الذي لا يناله هواء يفسده، ولا برد يجمده، ولا آفة تتلفه، ثم ربنا بقدرته قلب تلك النطفة علقة حمراء، ثم مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثم جعل المضغة عظامًا مجردة لا كسوة عليها، وهي مغايرة للمضغة في شكلها وهيئتها ولونها، ثم كسا سبحانه العظام لحمًا.
ثم تأملْ كيف صار الإنسان بعد ذلك مركبًا من أجزاء متناسقة، من أجهزة متعاونة دقيقة عجيبة معجزة!!
ماذا يمكن أن تقول عن القلب ودقاته وصماماته، ودورة الدم فيه، وكرات الدم الحمراء والبيضاء؟!!
ماذا تقول عن الأعصاب والعروق والمفاصل وأجهزة التنفس والهضم، وكيف شقَّ الله -سبحانه وتعالى- لهذا الجسم سمعه وبصره وفمه وأنفه؟!
ماذا تقول عن اليدين والرجلين والأصابع والعنق، وما فيها من المفاصل ليسهل حركتها؟!!
وماذا تقول عن الأنامل والأسنان والأضراس واللسان والحنجرة والحبال الصوتية؟!
وماذا تقول عن العقل والمخ والمعدة والكبد والطحال والرئة والمثانة ورحم المرأة؟! كيف تم ذلك كله؟! وغيره كثير.
وكيف هُيِّئ في قراره المكين حتى خرج الإنسان ليستقبل الضوء، ويبدأ الجولة إلى أن ينقضي العمر ليعود بعد ذلك إلى خالقه ومنشئه لجولة أخرى!! ألا يدل ذلك على عظمة الخالق العظيم وحكمته البالغة وقدرته الباهرة!! (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ).
وإن الإنسان لا ينبغي أن يغفل عن النظر إلى نفسه والتأمل في ذاته، فلم يُخلق الإنسان عبثًا، وإنما خلق لغاية عظيمة قامت عليها السماوات والأرض، فإذا لم يحقق تلك الغاية ضيَّع نفسه وأهلكها: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، هل فكّر الإنسان في قوله: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ).
هل نظر الإنسان كيف حسَّن الله شكل عينيه ومقدارهما، ثم جملها بالأجفان غطاءً لها وسترًا وحفظًا وزينة، فهما يتلقيان عن العين الأذى والقذى، ويقيانها المؤذي من الأشياء، وكيف تغلقان قبل وصول أي شيء إليها؟!
ثم كيف غرس الله أطراف تلك الأجفان والأهداب جمالاً وزينة ولمنافع كثيرة.
كل ذلك وغيره في تلك الحدقة الصغيرة التي تمثل جزءًا ضئيلاً من جسم الإنسان!!
ثم هل تأمل الإنسان لسانه وما فيه من عجائب الخلق والتمييز بين المطعومات والمشروبات على نحو عجيب جدًّا؟!
ثم هل تأمل الإنسان في شفتيه وأذنيه ورأسه!! كيف يدخل الطعام والشراب من مكان واحد ثم يخرج كل منهما من مكان خاص به!!
مَنْ المُدَبر لتلك الأشياء؟! أليس هو الله الخالق الرازق المدبر الحكيم العليم عظيم القدر والسلطان، لا شريك له في ملكه، ولا معين له في تدبيره: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
صوَّر الإنسان فأحسن صورته، خلقه في أحسن تقويم، وجعل بين أعضائه من التناسق والانتظام والتعاون، وما فيه عبرة لمن اعتبر، فيهتف من أعماق قلبه ومن كل عقله وشعوره: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
هل تتصور لو وضعت العينين في غير مكانهما كيف يمكن أن يكون شكل الإنسان؟! (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
إن أقرب شيء يلاحظه الإنسان ويلتصق به هو نفسه وخلقه الذي فيه من العجائب الدالَّة على عظمة الله ما تفنى الأعمار في الوقوف على بعضها.
والإنسان غافل عن الفكر، معرض عن التأمل والتفكر، ولو فكّر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب النفس وبديع صنعها وإحكام خلقها وجميل تدبيرها عن المعصية وكفران النعمة: (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَه).
إن الذي لا يتدبر في خلق نفسه ويرى من خلالها عظيم صنع الله وجميل عطائه ولطيف إحسانه فيحمده ويشكره ويعبده ويعترف بتقصيره، إن الذي يعرض عن ذلك كله جدير بأن يلحق بعالم الحيوان، كلاَّ بل الحيوان خير منه لأنه لم يخلق لهذا ولم يهيأ له.
أما الإنسان فقد خلق لذلك وهيئ للاختبار والامتحان: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً)، فإذا لم يتعظ ويتفكر ويتدبر لم يستفد مما خلق الله فيه آلات الاتعاظ والعبرة: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ).
جحد الجاحدون لقاء ربهم فلم يتدبروا في النشأة الأُولى، وربهم وخالقهم يدعوهم إلى التأمل والتدبر: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ).
وما خَلْقُ جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرة الله إلا كنسبة خلق نفس واحدة، والجمع هيٍّن عليه: (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).
أخرج النسائي عن بسر بن جحاش -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصق يومًا في كفه ثم وضع عليها إصبعه السبابة ثم قال: قال الله تعالى: "ابن آدم: أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى سويتك وعدلتك، مشيت بين برديك والأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق وأنى أوان الصدق".
(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ).
فاتقوا الله -عباد الله-، ولينظر الإنسان في نفسه وإلى أين يسير...
وصلوا وسلموا...