الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | محمد ابراهيم السبر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
جرائم وجراحات هنا وهناك تُدمي القلوب، وتدمع لها العيون، وتتفطر لها الأفئدة والأكباد، فمن الشرق إلى الغرب، تسمع صرخات الثكالى، وأنين الأطفال والعجائز والشيوخ واليتامى الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، لسان حالهم: ربنا...
عباد الله: لا يزال الصراع بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر قائما ومستمراً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يزال أهل الكفر والباطل يمكرون ويكيدون للإسلام وأهله فيقتلون ويغتصبون وينهبون ويحرقون ويذبحون ويخربون ويعيثون فساداً في بلاد الإسلام والمسلمين.
جرائم وجراحات هنا وهناك تُدمي القلوب، وتدمع لها العيون، وتتفطر لها الأفئدة والأكباد، فمن الشرق إلى الغرب، تسمع صرخات الثكالى، وأنين الأطفال والعجائز والشيوخ واليتامى الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، لسان حالهم: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيراً.
فالآهات والآلام متجددة، وأفعال الكفرة والطغاة المجرمين في المسلمين متعددة ومتشابهة، وتجد الكفرة والمنافقين يجتمعون -مع اختلافهم مللهم وأهدافهم- ضد أهل الإيمان، يمزقون بلادهم ويتأمّرون عليهم، ويسعون للقضاء عليهم.
وتجد عجباً من بعض منْ ينتسب إلى الإسلام، لا يبالي بما يجري من حوله، ولا يهمه أمر المسلمين، إنما تهمه نفسه وشهواته، ولا يقدم لإخوانه حتى ولو دعوة في ظهر الغيب.
ولا يزال- بحمد الله- ثلةٌ من أهل الحق والإيمان يُعدون العدة المادية والمعنوية لصد العدوان، والذود عن الحرمات والأوطان، ويسعون لتحقيق النصر ودحض الباطل ومقاومة الطغيان.
ولا يزال النصر نازلاً من الله -تعالى- للمسلمين ماداموا محققين لنصرة الله ودينه، وباذلين لأسباب النصر الشرعية.
إلا إن بعض المسلمين -هداهم الله– بذلوا الأسباب المادية، ونسوا أو تناسوا الأسباب الأكثر أهمية منها وهي التعلقُ والتضرعُ برب البرية.
فمن حكم الله -سبحانه وتعالى- الظاهرة في إنزال المحن والبلاء أن يتضرع إليه العباد، ويلجؤوا إليه، كما قال -جل وعلا-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:42-43]، وكما قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون:76].
فصار لزاماً أن يعلم المسلمون أن من أوجب الواجبات في زمن الكوارث والملمات، رفع اليدين بالدعاء لله رب الأرض والسماء، الذي يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ويكشف كربة المكروب إذا ناجاه، ويزيل الغم، ويذهب الهم، ويحب العبد الأواه المنيب إليه، وكل من دعاه.
فلعلّ ذلك الدعاء من أكف بيضاء نقية، وقلوب صادقة وفيَّة، وأعين باكية تقيَّة، تخفف من تلك المآسي التي أقلقت المسلمين، وأقضَّت مضاجعهم، وقد علمنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يردّ القضاء إلّا الدعاء" أخرجه الترمذي وحسَّنه الألباني.
فعليكم -عباد الله- بالدعاء، فإنه من أسباب النصر على الأعداء، وخاصَّة إذا كان ذلك من عباد الله الضعفاء، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنما ينصر الله هذه الأمَّة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم" أخرجه النسائي وصححه الألباني.
إن الدعاء -عباد الله- هو سلاح المؤمنين الصادقين، وهو أقوى سلاح، والسلاح بضاربه، فكلما كان الداعي أخلص وأتقى وأقرب لربه كلما كان مستجاب الدعوة، وكان منصورا بإذن الله -تعالى-.
وقد غفل بعض المسلمين -وللأسف!- عن ذلك السلاح العظيم والمنجي من بطش الأعداء، وتركوا الإلحاح على الله بأن يكشف الضر عن المسلمين، وتركوا الانطراح بين يديه والانكباب عليه والتوجه إليه، مع ما يسمعونه ويشاهدونه من صرخات المكلومين، وأنات الجرحى والمظلومين، وصراخ المضطهدين في الشوارع والمساجد والمنازل وفي سجون الكفرة المجرمين.
يا للأسف حين يظن البعض بأنَّ المهم أن يستمعوا ويتناقلوا الأخبار عمَّا حصل ويحصل في بقاع المسلمين ثمَّ لا يفعل شيئاً ينصر به دينه ولو بالدعاء وهو أقل ما يستطيع! ويستهين بالدعاء الذي هو أحد أسباب النصر، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.
ولا بد للأمة الإسلامية حتى تنتصر وتصحو من سباتها، لا بد لها من أخذ الأسباب كلها وبذلها وعدم إهمال شيء منها، فالدعاء جزء مهم لا يتجزأ من الأسباب الأخرى التي جعلها الله من أسباب النصر.
وقد كان للدعاء أثرٌ بالغ في إحراز النصر والثبات على الأمر، فلا يزال المسلمون المجاهدون في سبيل الله يستغيثون الله ويبتهلون إليه ويلجؤون إليه ويسألونه أن ينصرهم على عدوهم ويكف شره ويدحض مكره، وقد وعدهم الله بإجابة دعائهم ونصرهم على أعدائهم، كما قال -سبحانه-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر، وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم" رواه ابن ماجة عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وحسنه الألباني.
وعن سهل بن سعد -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء وقلما ترد على داع دعوته: عند حضور النداء، والصف في سبيل الله".
وفي لفظ: "ثنتان لا تردان: الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يُلْحِمُ بعضهم بعضاً" رواه أبو داود وابن حبان، قال الألباني في الكلم الطيب: حسن صحيح. وقوله: "حين يُلْحِمُ بعضهم بعضاً" أي: حين تشتبك الحرب بينهم.
ولا يزال المسلمون في غزواتهم وحروبهم لأعدائهم يجمعون بين الأسباب كلها التي تحقق النصر بإذن الله -تعالى-، من طاعة الله -تعالى- وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعدم التنازع، والصبر والتقوى والصدق والاجتماع والذكر وعدم التولي بوم الزحف.
وتاريخهم وسيرهم مليئة بهذا، فقد سطر التاريخ أعظم وأروع الابتهالات والاستغاثات برب البريات من نفوس مؤمنة وقلوب واثقة بنصر ربها، فمجرد أن تدق ساعة الصفر ويلتحم الصفان يجأر المسلمون -وبالأخص قادتهم- للواحد الديان والرحيم الرحمن، ويلهجون بالدعاء، ويرفعون الأكف لرب الأرض والسماء، ويسألون الله الثبات والنصر، وإدالة أهل الباطل والكفر.
هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القائد العظيم، هو أعظم من حقق ذلك وضرب المثل الأعلى، ففي غزواته كلها يستغيث بربه ويبتهل إليه ويتضرع بين يديه ويمد كفيه، حتى إنه لينكشف رداؤه ويسقط ويرى بياض إبطيه من كثرة مناجاته.
فقد بات في غزوة بدر في ليلتها قائما يصلي إلى جذع شجرة، ويطيل سجوده ويقول: "يا حيُّ يا قيوم"، يكرر ذلك -صلى الله عليه وسلم- ويسأل الله النصر، البداية والنهاية.
وحين رأى رسول الله جند قريش قال: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادّك وتكذب رسولك، اللهم أحنهم الغداة" السيرة النبوية لابن هشام.
وقد روى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: لمَّا كان يوم بدر نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين، فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- القبلة، وعليه رداؤه وإزاره، ثمَّ قال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً".
قال عمر: فما زال يستغيث ربَّه ويدعوه، حتَّى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر الصديق فأخذ رداءه فردَّه، ثمَّ التزمه من ورائه، ثمَّ قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنَّه منجز لك ما وعدك. أخرجه أحمد وقال الشيخ أحمد شاكر: سنده صحيح، ورواه مسلم، وأصله في البخاري.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا غزا قال: "اللهم أنت عضدي، وأنت نصيري، وبك أقاتل" أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب، وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي.
وكذلك صحابته الكرام، عليهم من الله الرحمة والرضوان، اقتدوا به فاستغاثوا بربهم ورفعوا أكفهم وألحوا عليه بأن ينصرهم ويمدهم بجند من عنده، فقال عنهم -سبحانه- واصفاً حالهم في غزوة بدر: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال: 9].
وهكذا دأب كل مؤمن محب لهم متبع لهم بإحسان، يستفيد من سيرتهم وتاريخهم فيقتدي ويتأسى، فعند وقوع الحرب واندلاعها ونزول الخطب يرفع أكف الضراعة ويستغيث بربه ويبكي ويسجد ويعفر وجهه بالتراب، ويتوب ويستغفر، ويسأل المولى العون والمدد والنصر على الأعداء وكسر شوكتهم ودفع شرهم وكيدهم عن المسلمين.
وهذا حال كثير من قادة الأمة الأبطال الذين سطر التاريخ سيرهم، وذاع أمرهم، وانتشر ذكرهم على مر الأيام.
ولو قلبنا صفحات التاريخ، وطيّات الأحداث لرأينا العجب العجاب من سير هؤلاء القوم الذين تواضعوا لله فرفعهم وخلّد ذكرهم، واستغاثوا بربهم فأغاثهم، وسألوه الثبات والنصر فثبتهم ونصرهم.
فتعالوا معي -إخوتي في الله- لنقرأ ونعتبر ونقتدي بهؤلاء الشجعان.
فمن هؤلاء محمد بن واسع -رحمه الله-، فقد ذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة قال: كان محمد بن واسع مع قتيبة بن مسلم في جيش، وكان صاحب خراسان، وكانت الترك خرجت إليهم فبعث إلى المسجد ينظر من فيه فقيل له ليس فيه إلا محمد بن واسع رافعاً أصبعه، فقال قتيبة: "أصبعه تلك أحب إلي من ثلاثين ألف عنان".
ويذكر أن قتيبة قال: أصبعه تلك أحبُّ إلي من ثلاثين ألف شاب طرير. ويذكر الإمام الذهبي عن قتيبة بن مسلم: "تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير، وشاب طرير" سير أعلام النبلاء.
فتأمل دعاء الإمام محمد بن واسع وقت المعركة، وحب القائد قتيبة بن مسلم لدعائه ذاك، بل تفضيله لدعائه على وجود ألف شاب مقاتل!.
ومما يدلّ على أنَّ النصر يُستنزل بالدعاء ما قاله أسد بن عبد الله القسري أمير خراسان في قتاله للفرس: "إنَّه بلغني أنَّ العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله، وإنِّي نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله، واسجدوا لربكم، وأخلصوا له الدعاء، ففعلوا، ثمَّ رفعوا رؤوسهم، وهم لا يشكُّون في الفتح".
وهكذا كان عقبة بن نافع في غزواته في فتح بلاد المغرب وغيرها، فقد كان مستجاب الدعوة، وكان يتوجه إلى الله بالدعاء عند الشروع في معاركه، ويصادم العدو في شجاعة مذهلة، كما ذكره عنه أهل السير، ثمَّ يكتب الله له النصر المبين.
وهذا الإمام الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك الحنفي يقول لألب أرسلان في موقعة "ملا ذكرد" بعد أن رأى كثرة جيش الروم والتي قُدِّرت بمائتي ألف مقاتل: إنَّك تقاتل عن دين الله وقد وعد الله بنصره، وأرجو أن يكون الله قد كتب لك بجيشك القليل شرف النصر، فسر إلى العدو الكافر يوم الجمعة بعد الزوال، والأئمة على منازلهم يدعون لجيشك بالنصر، والله غالب على أمره.
وتمَّ ذلك عند ظهيرة يوم الجمعة من صيف أربعمائة وثلاث وستين للهجرة، فقد صلَّى وبكى فبكى الناس لبكائه، ودعا الله فدعا الناس بدعائه، وعفَّر وجهه بالتراب، ثمَّ ركب وقال للناس: ليس عليكم الآن أمير وكلكم أمير نفسه، من شاء أن ينصرف فليعد إلى أهله، ولبس البياض وتحنَّط، وحمل بجيشه حملة صادقة، فوقعوا في وسط العدو يقتلون ما يشاؤون، وثبت العسكر، ونزل النصر، وولت الروم، واستحر بهم القتل، وقتل طاغيتهم أرمانوس، بعد أن أسره مملوكاً وسار به ذليلاً ليقتل رغم أنفه".
الله أكبر! فأين نحن من هؤلاء الأبطال الشجعان؟.
وهاهو القائد المغوار نور الدين محمود في فتح حارم سنة تسع وخمسين وخمسمائة بعد الهجرة، وقد انفرد تحت تل حينما التقى الجمعان، وسجد لربه -عزَّ وجل- ومرَّغ وجهه وتضرع، وقال: "هؤلاء يا رب عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك... فلا تمنعهم النصر بسبب محمود -يعني نفسه-... ثمَّ بعد ذلك فتح الله على يديه فتحاً عظيماً.
ومن منا لا يعرف البطل العظيم صلاح الدين الأيوبي محرر القدس من الصليبيين؟ فقد جمع صلاح الدين الجموع، ونظَّم الجيوش، ثمَّ عقد مجلس شوراه للتشاور في منازلة العدو وتوقيت المعركة، فاتفقوا على الخروج في السابع عشر من ربيع الآخر عام ثلاثة وثمانين وخمسمائة بعد الهجرة بعد صلاة الجمعة، وبين تكبير المسلمين وابتهالهم وتضرعهم بالدعاء.
ويقول القاضي ابن شدَّاد: " وكان صلاح الدين إذا سمع أنَّ العدو قد داهم المسلمين خرَّ إلى الأرض ساجداً لله، داعياً بهذا الدعاء: اللهم قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل!".
ويقول: "ورأيته ساجداً ودموعه تتقاطر على شيبته ثمَّ على سجَّادته، ولا أسمع ما يقول، ولم ينقض ذلك اليوم إلّا ويأتيه أخبار النصر على الأعداء، وكان أبداً يقصد بوقفاته الجمع، سيما أوقات صلاة الجمعة؛ تبركاً بدعاء الخطباء على المنابر، فربما كانت أقرب إلى الاستجابة".
وهذا بطل آخر من أبطال وقادة المسلمين يضرب أعلى عناوين الانكسار والتذلل بين يدي الله والخضوع له، المظفر قطز، فها هو في معركة عين جالوت عام ثمانية وخمسين وستمائة بعد الهجرة، وهو يحمِّس المجاهدين، يصيح: وا إسلاماه! وا إسلاماه! ويسجد ويعفِّر وجهه في التراب ويقول: يا الله! انصر عبدك قطز!.
يقول ابن كثير في البداية والنهاية يصف القائد قطز: "ولمَّا رأى عصائب التتار، قال للأمراء والجيوش: لا تقاتلوهم حتَّى تزول الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح، ويدعو لنا الخطباء في صلاتهم".
واستجاب الله دعاءه وهزم المغول ووقعوا بين يديه ما بين قتيل وجريح وأسير، بل وقع بين يديه قائد المغول فقتله تنكيلاً به، جزاء إجرامه في قتل المسلمين.
أمَّا محمد الفاتح فقد دخل المسجد في صباح يوم التاسع والعشرين من مايو عام ثلاثة وخمسين وأربعمائة وألف بعد الهجرة، فوجد شيخه ومعلمه ومربيه آق شمس الدين منطرحاً بين يدي ربه مستغرقاً بالدعاء فاستبشر خيراً بالنصر، وحين كان المجاهدون يهيئون للمعركة عدتها كان هتافهم: يا الله! يا الله!.
ولمَّا فتحت القسطنطينية رآه الناس وهو يمرِّغ وجهه في التراب تواضعاً لله، والمؤمنون يهنئونه بالنصر، وهو لا يزيد على أن يقول: النصر من عند الله، النصر من عند الله.
هؤلاء القوم الشجعان عرفوا أن الله معهم، وهو وحده يعز من يشاء ويذل من يشاء، وينصر من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأن الملك له وحده يهبه لمن يشاء، ويمنعه وينزعه ممن يشاء، فلجؤوا إليه وحده واعتمدوا عليه وسألوه أن ينصرهم؛ فاستجاب لهم لما رأى صدقهم وإخلاصهم، ومكّن لهم وأعزهم ونصرهم. فأين نحن من هؤلاء؟!.
الخطبة الثانية:
عباد الله: الدعاءُ وصدقُ اللجأ إلى الله -تعالى- والاعتصام به من أهم الأسباب وأعظمِها لتحقيق النصر ورد كيد الأعداء، إذا انضاف إلى ذلك صبرٌ وتقوى لله رب العالمين: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) [آل عمران:120].
إن هؤلاء الذين سمعنا سيرهم من الأبطال منذ عهد نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا، هؤلاء هم أهل الإيمان، وأهل البطولة والجهاد الذين خلد التاريخ ذكرهم؛ بل خلّد الوحي ذكرهم ووصف حالهم وشجاعتهم وابتهالهم واستغاثتهم وتوجههم لربهم عند لقاء عدوهم. إنهم قوم عرفوا عظيم شأن الدعاء وأثره في النصر على الأعداء، وأخذوا بشروطه وآدابه.
وقد ذكر لنا القرآن الكريم قصة طالوت وجنده ووصف حالهم عند ملاقاتهم لعدوهم: ( وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرَاً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة:250].
وبعد هذا الدعاء، كان الجواب من الله: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ) [البقرة:251]، وكان النصر حليفهم حين دعوا الله -تعالى- وتوكلوا عليه حق التوكل، وفعلوا أسباب النصر وأخذوا بها.
(وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:146-148].
فيا أيها المسلمون: الدعاءَ الدعاءَ! والإلحاحَ الإلحاح! والابتهالَ الابتهالَ! والتضرعَ التضرعَ! وإياكم والغفلةَ عن هذه السلاح العظيم أو التكاسل عنه أو الاستهزاء به!.
أتهزأُ بالدُّعاء وتَزْدَرِيهِ | وما تدري بما صَنَعَ الدُّعَاءُ |
سهامُ الليلِ لا تُخْطِي ولكنْ | لها أَمَدٌ ولِلْأَمَدِ انْقِضَاء |
الدعاء يكون من قلب خالص حاضر خاشع؛ فإن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه.
الدعاء في مواطن الإجابة والساعات التي تتحرى فيها الإجابة وترجى، تدعو لإخوانك المسلمين في سجودك، فقمين أن يستجاب لكم بعد التشهد الأخير من صلاتك في وترك بين الأذان والإقامة في الأيام الفاضلة كيوم الجمعة ويوم عرفة، وهكذا عبد الله.
وأخيرا أوجّه نداء لكل المسلمين الذين يشاهدون إخوانهم في بقاع شتى بمختلف الأسلحة يقتلون وبالطائرات يقصفون، وبالراجمات والصواريخ يُضربون، فتهدم منازلهم وتزهق أنفسهم وتغتصب نساؤهم، وتذبح بالسكاكين أطفالهم وشيوخهم، كل ذلك لأنهم قالوا: لا إله إلا الله.
فيا أيها المسلمون: إن كنتم لا تستطيعون نصرة إخوانكم بالمال والنفس، فلا أقل من أن تدعوا لهم وتؤازروهم بدعائكم، فلا تبخلوا بأقل القليل الذي لا يكلفكم سوى رفع أيديكم لبارئكم، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، وإن الله ناصرٌ من نصره، وغالبٌ من خذل جنده، ولا يكن همكم النظر إلى الشاشات وسماع الأخبار والحزن والآهات، بل تضرعوا لرب الأرض والسموات أن يفرج عن إخوانكم المسلمين وينصرهم على الكفرة والظالمين والمنافقين.
اللهم إنا نسألك في هذا اليوم المبارك العظيم، وفي هذه الفريضة والخطبة، أن تنصر عبادك المستضعفين في كل مكان، وأن تنصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المجاهدين، اللهم كن لهم وليا وظهيراً ومعيناً ونصيراً.