الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | صالح بن علي أبو عراد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
حديثي إليكم اليوم سيكون بإذن الله -تعالى- عن فضائل الصدقة وفوائدها، ولاسيما أنها بابٌ من أبواب الخير والفلاح، وسبيلٌ إلى الفوز برضوان الله -جل جلاله- في... والصدقة سببٌ لعلاج الأمراض، وحماية الأعراض، بإذن الله تعالى، فقد جاء في المعجم الكبير عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أكرمنا ببلوغ شهر رمضان، والحمد لله الذي يسّر لنا صيام أيامه وقيام لياليه، والحمد لله الذي يُضاعف فيه الأجر والثواب لمن يشاء من عباده فضلاً منه وكرمًا.
وأشهد أن سيدنا ونبينا وقائدنا وقدوتنا محمد بن عبد الله النبي الجواد الذي كان أجود بالخير من الريح المُرسلة، فصلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الناس: حديثي إليكم اليوم سيكون بإذن الله -تعالى- عن فضائل الصدقة وفوائدها، ولاسيما أنها بابٌ من أبواب الخير والفلاح، وسبيلٌ إلى الفوز برضوان الله -جل جلاله- في الدنيا والآخرة.
والصدقات الطيبة تطهيرٌ وتزكيةٌ للنفوس، كما أن من الصدقة ما يكون من أعظم شعائر الدين، وأكبر براهين الإيمان؛ فقد صحَّ عند الإمام مسلم عن أبي موسى الأشعري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والصدقة برهان".
والمعنى، كما جاء عند بعض أهل العلم، يُشير إلى أن بذل الصدقات والحرص عليها دليلٌ قاطع، وبُرهانٌ حاسم على إيمان صاحبها، ودينه، ومحبته لله تعالى.
كما أن في الصدقة تنمية وزيادة للأموال، وتنمية للأجر والثواب الذي يحصل عليه المتصدق عند الله، وفيها سدٌ لحاجات الفقراء والمحتاجين، وسبيل لجلب السعادة إلى نفوسهم، ورسم الابتسامة على شفاههم.
وهي وسيلةٌ لتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد، وطريقٌ إلى انتشار الرحمة والتآخي والمودة بين الناس.
كما أنها تدفع -بإذن الله تعالى- النِقم والمكاره والأسقام عن صاحبها.
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من حرص على الإكثار من الصدقات دُعي يوم القيامة ليكون من الداخلين إلى الجنة من باب الصدقة.
وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلّم- قال: "سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وذكر من هؤلاء السبعة: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه".
عباد الله: إن للصدقات منافع وفوائد وفضائل ينبغي للمسلم أن يتأملها وأن يجتهد في تحصيلها ونيل أجرها وثوابها.
فالصدقة سببٌ في دعاء الملائكة للإنسان أن يزيد الله -تعالى- في ماله، وأن يُبارك له في رزقه؛ فقد صح عند البُخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا".
والصدقة تُطفئ الخطيئة لما صحَّ في سُنن الترمذي عن كعب بن عُجرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار".
والصدقة سببٌ لعلاج الأمراض، وحماية الأعراض، بإذن الله تعالى، فقد جاء في المعجم الكبير عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة".
والصدقة سترٌ للإنسان، وحمايةٌ له من النار، فقد جاء في مُسند الإمام أحمد بن حنبل عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "يا عائشة، استتري من النار ولو بشِقِّ تمرة".
والصدقة تُطفئ عن أصحابها حرَّ القبور، لما جاء في المعجم الكبير عن عقبة بن عامر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حر القبور".
ومن منافع الصدقة أن المتصدق يستظل في ظل صدقته يوم القيامة، لما جاء في المعجم الكبير عن عقبة بن عامر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته".
والصدقة تزيد وتُبارك في مال الإنسان، وتدفع عنه المضرات -بإذن الله تعالى- لما صحّ عند الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما نقصت صدقة من مالٍ، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله".
والصدقة رصيدٌ يدخره الله -تعالى- لعباده المتصدقين في الدار الآخرة من الأجر العظيم والثواب الجزيل، لما صحَّ في سُنن الترمذي عن سعيد بن يسار أنه سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تصدق أحدٌ بصدقةٍ من طيّبٍ، ولا يقبل الله إلا الطيب؛ إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة تربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله".
وفي الصدقات شكرٌ من العبد لنعم الله -تعالى- عليه؛ فقد جاء في سُنن أبي داود عن عبد الله بن بُريدة قال: سمعت أبي بريدة يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً فعليه أن يتصدق عن كل مفصلٍ منه بصدقة".
أما أنواع الصدقات فهي من فضل الله -تعالى- كثيرةٌ جدًا؛ إذ إن منها ما يكون بالقول، ومنها ما يكون بالعمل، ومنها ما يكون بمجرد النية.
وخير دليلٍ على ذلك ما صحَّ عند البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كل معروفٍ صدقة".
ولهذا فإن من الخطأ الكبير أن يحصر الناس مفهوم الصدقة في مجرد بذل الأموال وإخراجها من النقود للفقراء والمساكين، أو صرفها في أوجه الخير المتعددة، فقد جاءت تعاليم الدين الحنيف وتوجيهاته لتوضح لنا أن هناك أوجهًا كثيرةً لبذل الصدقات، وأنواعًا متعددةً لفعل الخير بنية الصدقة.
وانطلاقًا من هذا المعنى فإن من أنواع الصدقات التي أرشدتنا إليها تعاليم وتوجيهات ديننا الحنيف الإنفاق على النفس والأهل والأولاد، والإحسان إلى الأقارب والأرحام واحتساب ذلك كله عند الله تعالى؛ لما جاء في المستدرك عن جابر -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل معروفٍ صدقة، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله كُتب له صدقة".
ولما صحَّ عن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- في الصحيحين أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقةً وهو يحتسبها كانت له صدقة".
كما أن من الصدقات ما يبذله الإنسان في سبيل وقاية الأعراض وحمايتها من أصحاب السوء؛ لما جاء في المستدرك عن جابر -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما وقى به المرء عرضه كُتب له به صدقة".
ومن الصدقات الحرص على بشاشة الوجه وحُسن ملاقاة الآخرين، والتبسم في وجوههم، وإظهار البهجة بهم ومعهم، أو أن تُقدِّم لهم نفعًا مهما كان يسيرًا، لما جاء عند البخاري في الأدب المفرد عن جابر -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلقٍ، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك".
ومن الصدقات أن يكون المسلم من مفاتيح الخير ومغاليق الشر بأن يدل على الخير ويُرشد إليه وينصح به، لما جاء في شُعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " كُلُ معروفٍ صدقة، والدالُّ على الخير كفاعله".
ومن الصدقات التي قد يجهلها كثيرٌ من الناس إفشاء السلام على من عرف الإنسان ومن لم يعرف من إخوانه المسلمين، وإماطة الأذى عن طريق المسلمين، وعيادة المريض، والسلام عليه، والتخفيف عنه، والدعاء له.
كما أن من الصدقات إغاثة الملهوف، ومد يد العون والمساعدة لمن يحتاجها من المسلمين، ودلالة التائه وهدايته للطريق، وكل ما في حكم ذلك من الأفعال والأقوال الحسنة فهو من أنواع الصدقات التي يؤجر الإنسان عليها؛ لما جاء في شعب الإيمان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على كل مسلم في كل يوم صدقة، قالوا: يا رسول الله، ومَن يطيق هذا؟ قال: إن تسليمك على الرجل صدقة، وإماطتك الأذى عن الطريق صدقة، وعيادتك المريض صدقة، وإغاثتك الملهوف صدقة، وهدايتك الطريق صدقة، وكل معروف صدقة".
ومن الصدقات أن يُسدِّد الإنسان ما عليه من الديون والحقوق في أوقاتها، كما أن من الصدقات التي يجري أجرها على العبد ولو بعد حين -بإذن الله تعالى- أعمال الخير التي تكون بمثابة الصدقة الجارية.
والسعي في إصلاح ذات البين بين المتخاصمين طمعًا في إصلاح شأنهم، ومناصحة الجُهال والغافلين وإرشادهم إلى الحق والصواب، والصبر على أذى الناس، والعفو عن إساءاتهم، وإحسان الظن بهم، والدعاء لهم بالخير، وحُسن المعاشرة بين الأزواج، والحرص على حُسن تربية الأولاد والبنات، والإحسان إلى الخدم والعمال، ودفع الحقوق إلى أصحابها، والإحسان إلى الجيران، والرفق بالحيوان، والعطف على الأيتام، وتفقد أحوالهم، والمسح على رؤوسهم.
كما أن الكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوةٍ يمشيها الإنسان إلى الصلوات، وأماكن الطاعات، ودروس العلم، وحلقات الذكر، ومجالس الخير، صدقة.
وما أجمل أن تكون الصدقة على من يستحقها من الأهل والأقارب وذوي الرحم! فهم أولى بها من غيرهم؛ لما صحَّ عند النسائي وابن ماجة عن سلمان بن عامر -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة على المسكين صدقة, وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة".
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى، واحرصوا على الإكثار من الصدقات بالقول مرةً، وبالعمل مرة ثانية، وبالنية الصالحة مرةً ثالثة، وعليكم ببذل المال الحلال في الصدقات، وتسخير الجاه في سبيل الله، واحتساب الأجر والثواب عند الله -تعالى- في كل شأنٍ من شؤون الحياة، وفي كل جزئيةٍ من جزئياتها.
واعلموا -بارك الله فيكم- أن ما تُقدمونه من ألوان الصدقة والمعروف لن يضيع عند الله -تعالى- الذي قال في كتابه العظيم: (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المزمل:20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، واسأل الله لي ولكم السداد والعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله -تعالى- حق التقوى، واعلموا -بارك الله فيكم- أن مدار التقوى على فعل الخير واجتناب الشر والفساد.
ولذلك فإن ما تتعرض له بلادنا بين الحين والحين من محاولاتٍ يائسةٍ بائسة لزعزعة الأمن والاستقرار، وإثارة الفتن والمُشكلات، والإخلال بسير حياتنا وما نحن فيه من عيشٍ آمنٍ مطمئن، ونعمٍ كثيرةِ لا يعدها ولا يُحصيها إلا الله تعالى؛ إنما هو نوعٌ من الإفساد في الأرض من قبل فئةٍ ضالةٍ جاهلةٍ، وخارجةٍ عن منهج الدين الإسلامي الحنيف، قد استحوذ عليهم الشيطان، وهيمن على فكرهم منهج أهل الزيغ والضلال والانحراف، وصدهم عن طريق الله المستقيم، حتى أصبحوا معتنقين للمبادئ الهدامة، والمزاعم الباطلة.
فهم -لذلك كله- متشبعون بالأفكار السيئة والآراء الشاذة التي جعلتهم يتفننون في صور الإفساد في الأرض، ويُمارسونها بطرقٍ متنوعةٍ، ووسائل مختلفة، ولا يتورعون عن محاولة ترويع الآمنين، وإلحاق الضرر بالمواطنين والمقيمين والمسؤولين، والاعتداء على الحرمات، وإزهاق الأرواح والأنفس، وأهلاك الحرث والنسل، غير مبالين بحرمة الزمان أو المكان، ولا مراعين لحرمة النفوس المعصومة الموحِدة التي تشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيا معاشر المؤمنين: ليكن من صدقاتنا التي يجب أن نحرص عليها، وأن نجتهد في العناية بها أن نكون صفًا واحدًا في وجه كل من كان منتميًا لهذه الفئة من الضالين والمُضلين والمفسدين والمُخربين، وأن نتعاون جميعًا في القضاء عليهم، وأن نحرص على استئصال جذورهم، وما ذلك على الله بعزيز.
وعلينا - بارك الله فيكم - أن نبتهل إلى الله -تعالى- أن يحفظ علينا نعمة الأمن والإيمان، وألا يُبدل أمننا خوفًا ورُعبًا، وأن يمتعنا بما نحن فيه من خيري الدنيا والدين، وأن يصرف عنا بفضله ومنِّه وقدرته كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وحقد الحاقدين، وحسد الحاسدين، وإفساد المفسدين، وظلم الظالمين، واعتداء المعتدين؛ وأن يرد كيدهم في نحورهم، وان يجعل تدبيرهم تدميرًا لهم.
عباد الله: أكثروا من الصلاة والسلام على خير المتصدقين، وإمام الباذلين، سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله القائل: "مَن صلى عليَّ صلاةً واحدةً صلى الله عليه بها عشرا ".
فصلى الله وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا، وقائدنا وقدوتنا، وإمامنا وشفيعنا، محمد بن عبد الله، الذي علّمنا وهدانا وأرشدنا إلى كل قولٍ سديدٍ، وكل فعلٍ رشيد.
اللهم...