الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | مقبل بن حمد المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزهد - المعاملات |
عباد الله: ليست العبرة أن يشتهرَ المرء بالثراء، ويملكَ الشركاتِ والمنتجعاتِ والفنادقَ والمصارفَ ونحوَها من المتع، ولكن العبرةَ أن يكون متقيا لله في ماله، سِلما لأولياء الله حربا على أعدائه، داعيا إلى العفة والفضيلة محاربا للفُحش والرذيلة، فكم من...
الحمد لله رب العالمين اللطيفُ الخبير، أحمده وأشكره وهو للحمد أهلٌ وبالشكر جدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُّ الكبير، وأشهد أن نبينا محمدا عبدالله ورسولُه البشيرُ النذير والسراجُ المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله اتقوا الله ربَّكم تحظوا بالقبول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة: 27].
إخوة الإسلام: ثمة شهوةٌ من شهوات النفوس على مدار العصور والأزمان، شهوةٌ بل فتنةٌ أخذتْ بمجامع الألباب، وتشاحنَ من أجلها الأحباب، وتبادلَ الإخوة الشتمَ والسباب، فتنةٌ تربع سلطانُها على عرش كثير من القلوب فصارت ميزاناً يقيسون بها الأمور، ويحكمون بها على الناس؛ إنها فتنةُ المال وشهوة جمعه؛ كما قال جل وعلا: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال: 28].
وروى الترمذي بسند حسن صحيح عن كعب بن عياض رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لكل أمة فتنةً، وفتنةُ أمتي المال".
إخوة الإسلام: إن شهوةَ المال وحبَّ جمعه فطرةٌ جُبل عليها العباد، ولا حرج في ذلك بحدوده المشروعة، ولذا سماه الله خيرا في قوله: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات: 8].
وجعله قِواما للحياة، وأثنى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا وافق أهله فقال: "نعم المال الصالح مع المرء الصالح".
وقال سعيد بن المسيب: "لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يكفُّ به وجهَه عن الناس، ويصلُ به رحمَه، ويعطي حقه".
فمن عرف ذلك اتقى الله في جمعه للمال وأجملَ في طلبه، واكتسبه من حلال؛ فكان بركةً عليه وأجرا، وإذا خلَّفه لوارثه فهو غانمٌ دنيا وأخرى.
وأما مَن جهل تلك الحقيقةَ للمال وتجاوزَ الحدَّ الشرعيَّ في جمعه بحيثُ لم يفرق بين حلالٍ وحرام، وجعلَه غايةً، ومُلهياً عما هو أرفعُ منه شأنا؛ فإن مالَه وبالٌ عليه، إن أمسكه لم يبارَكْ له فيه، وإن تصدقَ به لم يُقبل منه، وإن خلّفه وراء ظهره كان زادا له إلى النار لغيره غنمُه، وعليه إثمه وغرمه.
عباد الله: إن من فتنة المال أن يراه بعضُ الناس مقياسا للسعادة، وما علموا أنه قد يكون شقاءً وشؤما فكم قاد بعضَ أربابه إلى الفسق ونشر الكفرِ والرذيلة، والاستكبارِ على الخلق ثم قادهم إلى النار، وقارونُ خيرُ مثال على ذلك فقد آتاه الله من الكنوز ما إنَّ مفاتحه لتنوءُ بالعُصبة أولي القوة ولكنه طغى وتجبَّر فكان جزاؤه: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) [القصص: 81].
والله لا سعادة لذي مالٍ ما لم يجمعْه من حلال ويصرفْه في حلال، ومن بان لنا سعيدا في ظاهره فهو يتقلبُ في دركات الشقاء في باطنه.
عباد الله: إن من فتنة المال أن يحملَ على الكِبْرِ والطغيان؛ كما قال الله تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 607].
وقال سبحانه: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشورى: 27].
ومن فتنة المال أن يغريَ بكثرة التنعُّم بالمباحات حتى تصير له عادةً وإلفا، فتقودَه إلى المكروهات ثم المحرمات وقد يَغرقُ في بحر الترف المذموم الذي يجر إلى هلاك الأمم؛ قال جل وعلا: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16].
ومن فتنة المال: أنه يشغل عن الطاعة والعبادة غالبا ويوقع في المعصية، ولذا نادانا الله بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون: 9].
وأعظم الخسار والبوار أن يُشغلَ المالُ صاحبَه عند وقوفه بين يدي ربه في صلاته، فلا يُفيقُ من جَمعِه وطرحه وبيعه وشرائه إلا بسلام إمامه، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول كما في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "تعس عبدُ الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة؛ إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش".
ويقول الحسن البصري: "لكال أمة صنمٌ يعبدونه وصنم هذه الأمة الدرهم والدينار".
ومن فتنة المال: أن التعلقَّ به يزدادُ كلما تقدم بالإنسان العمر مصداقا لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يهرم ابن آدم ويشب منه اثنان الحرص على المال والحرص على العمر".
عباد الله: ومن فتنة المال: أن يمنع الإنسانُ منه حقَّ الله فيه، وحقَّ الخلق، فلا يؤدِّي الزكاة، ولا ينفقُ بالمعروف على من تجب نفقتُه عليهم من زوجة وولد وخدم وعمال، ولا يتصدقُ منه في وجوه الخير بل يتملكُه البخلُ والشح وكأن زيادةَ حسناته مرهونةٌ بزيادة أرصدته ودراهمه.
ومن فتنة المال: أنه قد يكون سببا في أخوَّة الشياطين بالإسراف والتبذير فيه ووضعِه في غير موضعِه؛ كما قال جل وعلا: (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 26- 27].
ويدخل في ذلك تجاوزُ الحدِّ في المأكل والمشرب والملبس والسكنى والمركب، وأعظمُ الإثم في هذا الباب أن يضعه في معصية الله والصدِّ عن طاعته.
عباد الله: ومن فتنة المال أن لا يبالي الإنسان في مصدره أحرامٌ هو أم حلال، بل يرى الحلالَ ما حل في يده كما في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام".
فلا يبالي بالكسب من الربا والرشوة والغش والسرقة والاختلاس والظلم والمساهمات المحرمة والتجارة المحظورة وغير ذلك.
ومثلُ هذا يُسدُّ عنه بابُ الجواب إذا دعا؛ فأبو هريرة رضي الله عنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم أنه ذكر: "الرجلَ يطيل السفرَ أشعثَ أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك".
فاتقوا الله عباد الله واجعلوا المال خادما لكم ولا تكونوا خداما له، اجعلوه في أيديكم لا في قلوبكم، واعلموا أنه عاريةٌ ستسردُّ منكم غدا، فيا فوز التقي، ويا خسارة الشقي.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين..
إخوة الإسلام: "لن تزولَ قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع منها : عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه" كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه.
فلنعدَّ لهذا السؤال جوابا صوابا.
عباد الله: ليست العبرة أن يشتهرَ المرء بالثراء، ويملكَ الشركاتِ والمنتجعاتِ والفنادقَ والمصارفَ ونحوَها من المتع، ولكن العبرةَ أن يكون متقيا لله في ماله، سِلما لأولياء الله حربا على أعدائه، داعيا إلى العفة والفضيلة محاربا للفُحش والرذيلة، فكم من ذي مال كان مالُه سببا لقسوة قلبه والجرأةِ على ربه فسقطَ من عين الله وإن علا وارتفع في عين المفتونين الذين يريدون الحياةَ الدنيا؛ لأنه جعل الدنيا غايةً ونسيَ الغايةَ الحقيقية، ولم يعمل بقول مَن خلقَه ورزقَه ولو شاء أفقرَه، فإن الله يقول: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[القصص: 77].
عباد الله: والله إن المرء ليدركُ فتنةَ المال الحقيقيةِ ويزهدُ فيه حقا عندما يحُضرُ قلبَه، وهو يقرأ أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم تُوفي وليس في بيته درهم ولا متاع، بل ودرعه مرهون عند يهودي في شيء من الشعير يقيم به أوده، وصدق الله: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83].
ومن أراد أن يقنعَ بعيشه ويُعرضَ عن الطمع في مال غيره أو حَسَدِه، فلينظر من هو أسفلُ منه في حاله وعيشه وراتبِه ومسكنه، وكم من ساكن خيمةً هو أسعدُ بلا مقارنة من سكان القصور.
فالمظاهر خادعةٌ والعبرةُ زاد الآخرة، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله".
اللهم ارزقنا القناعة والشكر.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم...