الجواد
كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...
العربية
المؤلف | محمد ابراهيم السبر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إنَّ في هذا الدين فرصاً عظيمةً، ومواسمَ جليلة، تتضاعف فيها الأعمال، وتتزايد فيها الحسنات، ويكون للعامل فيها رفيع الدرجات؛ ولكن هناك آفاتٌ ومصائب إذا حلَّت بالعبد أو وقع فيها ربما أتت على أوَّلِ عمَلِهِ وآخِرِهِ ..
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون؛ فإن تقوى الله أربح بضاعة، واحذروا معصيته، فقد خاب عبدٌ فرَّط في أمرِ اللهِ وأضاعه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:71-72]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد:33].
معاشر المؤمنين: في هذه الأيام يعود كثيرٌ من الناس إلى مسكنه وموطنه قافلاً من أداء عبادة عظيمة جليلة، ربما كان من المقبولين فرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومنهم من رجع وقد حجَّت دابته وبدنه ولم يحجّ لله من قلبِه وعملِه شيءٌ أبداً.
إِذَا حَجَجْتَ بِمَالٍ أَصْلُهُ سُحتٌ | فما حجَجْتَ ولكنْ حجَّتِ العيرُ |
ما يقبلُ اللهُ إلا كلَّ صالحةٍ | ما كُلُّ مَن حجَّ بيتَ اللهِ مبرورُ |
والناس يتباينون بعد الفراغ من أداء العبادة في أحوالهم، فمنهم من إذا أدى العبادة وفرغ منها أدركه شعور بالخوف، ونابَه الوجَل، وأصبح يقلب كفيه خوفاً ألا يكون سعيه قد قُبِل، فذاك عسى أن يكون من الذين قال الله فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون:57-60].
قال ابن كثير -رحمه الله-: أي: خائفون من الله مع ما أحسنوا وآمنوا وعملوا الصالحات، ووجلون من مَكْرِهِ بهم. قال الحسن البصري: إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة، وإن المنافق جمع إساءةً وأمناً.
أولئكم هم الذين سألت عنهم عائشة -رضي الله عنها- النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة؛ هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله -عز وجل-؟ فقال: "لا يا ابنة الصديق! ولكن هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهم يخافون ألا يُتَقَبَّلَ منهم، أولئك يسارعون في الخيرات" رواه الترمذي وأحمد والحاكم وهو حسن بشواهده.
قلوبهم وجِلَةٌ ألَّا يُتقبَّل منهم، وهذا دأَبُ الصالحين من الصحابة والتابعين، ومَنْ بعدهم بإحسان، كانوا إذا أدَّوْا العبادة أدركهم الخوف والوجل والخشية والإشفاق: هل قُبِلَتْ أم لم تُقبَل! وهل رُفِعَتْ أم رُدَّتْ! كانوا يتهمون أنفسهم بالتقصير والتفريط مخافةَ أن يدركهم هذا حتى يَرِدَ الواحد منهم على ربه آمناً مطمئناً.
بوَّب البخاري - رحمه الله تعالى - في صحيحه في كتاب الإيمان: بابُ "خوف المؤمن من أن يُحْبَطَ عملُه وهو لا يشعر"، وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشِيتُ أن أكون مكذّبا. وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
ويُذْكَرُ عن الحسن: ما خافَهُ إلا مؤمن، ولا أمِنَهُ إلا منافق، وما يُحذرُ من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة؛ لقول الله تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135].
قال الحافظ في الفتح: الصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكه مِن أجَلِّهم عائشة، وأختها أسماء، وأم سلمة، والعبادلة الأربعة، وأبو هريرة، وعقبة بن الحارث، والمِسوَر بن مخرمة، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وقد جزم بأن هؤلاء الأجلاء كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولا يلزم من خوفهم أنهم وقعوا في هذا الشيء بعد، وإنما ذلك على سبيل عظيم العناية في المحافظة على الأعمال أهـ. هكذا كان سعيهم، وهكذا كان خوفهم وإشفاقهم...
احتجب خطيب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثابت بن قيس بن شماس، وافتقده النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "مَنْ يأتينا بخبره؟"، فقال أحد الصحابة: أنا أعلم لك عِلْمَهُ يا رسول الله!.
فذهب يلتمسه، فوجده في بيته، منكِّساً رأسه يبكي، فقال: ما بك يا ثابت؟ قال: شرٌّ، قال: وأيُّ شرٍّ؟ قال: قد حبط عملي! إن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات:2].
وكان ثابت -رضي الله عنه- جهوري الصوت عظيمه، فيقول: وأنا قد يرتفع صوتي على صوت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فخشيت أن يكون قد حبط عملي! فعاد الرجل إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- فأخبره الخبر، فقال للرجل: "عُدْ إليه، وقل له إنك لستَ من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة" متفق عليه
.
وهذا أبو بكر، صدِّيق هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها، ووزيره وخليفته من بعده على أمته، ذلكم العملاق والجبل الشامخ والقمة السامقة في تاريخ الإسلام الذي صدَّق النبي يوم كذبه الناس، وآزره يوم خذله الناس، يبكي خوفاً وجزعاً بين يدي الله -جل وعلا-، ويقول عند موته: يا ليتني أقدم على ربي كفافاً لا ليَ ولا عليّ!.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يخفاكم شأنه! بُشِّر بالجنة وقصره فيها مشهود، شهده النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونظر إلى قصره وجاريته في الجنة، عمر بن الخطاب شهيدُ المحراب، الإمام الأواب، الذي وافق حكمهُ حكمَ الكتاب، يسألُ حذيفة يتبعه: هل عدَّني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من المنافقين؟!.
هكذا كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع اجتهادهم في الأعمال الصالحة، يخْشَوْنَ أنْ تَحْبَطَ أعمالُهم، وألاَّ تقبل منهم؛ لرُسوخِ عِلمِهِم، وعَمِيقِ إيمانِهم، كانوا جبالاً في العمل، وجبالاً في الخوف والوجل.
ولْنتأمل حال كثير منا يا عباد الله، إذا أدى الواحد منا عبادةً نظرَ إلى نفسه نظر الرضا، وقلب بصره في عطفيه مدلاً معجباً، كأنما يمنُ على ربه بعبادته، ناهيك عن حديثه بما فعل، وعن تصديره مناقبه، وما قال وما أحدث وما حصل!.
إن من الأمور الخطيرة التي تفسد الأعمال وتحبطها أن يُدِلَّ الرجل بعمله، وكأنما على الله شرط أن يقبلَ كُلَّ سعي سعاه ساعٍ بغض النظر عن إخلاصه أو تحقيقه الموافقةَ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: والشرك بالله تعالى أعظم مُحبِطٍ ومُفْسِدٍ للأعمال، وهو الداء الخبيث والمرض القاتل لا محالة إلا أن يتوب صاحبه، ومن تاب، تاب اللَّه عليه، قال تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الزمر:65]، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء:48].
إنَّ الشِّرْكَ بالله تعالى لا تقوم أمامه قائمة من عملٍ أبدًا، لقوله تعالى: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:88]، وروى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عبد اللَّه بن جُدْعان، وكان رجلاً مشركًا مات في الجاهلية، يُطعِم الطعام، وينصر المظلوم، وله من أعمال البر الكثير، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما نفَعَه ذلك، إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".
ومن الشرك أن يريد الرجل بعمله الدنيا، والشرك محبطة للعمل، بوَّب إمام الدعوة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في كتاب التوحيد بقوله: بابٌ من الشرك إرادة العبد بعمله الدنيا، وقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود:15-16].
إنَّ مِمَّا يُحبِط أعمالَ العاملينَ ويُخَيِّب سعْيهم الرياءَ في العمل، وهو أن يطلب العبد بعمله ثناء الناس ومدحهم وذكرهم، وإن الرياء من الشرك، وإن الإدلاء بالعمل والمفاخرة به بين الخلائق من الشرك الذي حُذِّرْنا ونُهِينا عنه، وقد يكون سبباً لحبوط العمل -عياذاً بالله-.
وفي الحديث القدسي، يقول ربنا -جل وعلا-: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمِل عملاً أشرك فيه غيري تركتُه وشِركه" رواه مسلم، وفي رواية لابن ماجة: "فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: مَن كان قد أشرك في عملٍ عمِلَه لله أحداً فلْيطلب ثوابه عنده، فإن الله أغنى الأغنياء عن الشرك" رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد وابن حبان. نعوذ بالله من الخذلان.
وإن من أسباب حبوط العمل أن يتهاون العبدُ بطاعةٍ من الطاعات، أو عبادة من العبادات، فربما كانت سبباً في حبوط عمله وهو لا يدري؛ عن أبي المليح عامر بن أسامة بن عمير الهذلي قال: كنا مع بُريدة في غزوة في يوم غيم، فقال: بكِّرُوا بصلاةِ العصر؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن ترك صلاة العصر فقد حبط عمله" رواه البخاري، وفي الصحيحين، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "الذي تفوته صلاة العصر كأنما وُتِرَ أهله وماله".
إنَّ في هذا الدين فرصاً عظيمةً، ومواسمَ جليلة، تتضاعف فيها الأعمال، وتتزايد فيها الحسنات، ويكون للعامل فيها رفيع الدرجات؛ ولكن هناك آفاتٌ ومصائب إذا حلَّت بالعبد أو وقع فيها ربما أتت على أول عمله وآخره.
إن العبد قد يضل سعيه ويحبط عمله بسبب كلمة قالها وهو لا يدري! فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب" متفق عليه، ومعنى "يتبين": يتفكر في أنها خير أم لا، وروى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن العبد لَيتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم".
إن كثيرا من الناس قد يفعل الكثير من الحسنات، وقد يقوم بالكثير من النوافل والطاعات، وقد يزل زلة، أو يقع في مهواة، أو يتكلم بكلمة من عجبٍ أو جرأة على الله تعالى؛ فأحبطت عمله، وجعلت سعيه يضل هباء منثوراً، أو كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، أو كسراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
ففي سنن ابن ماجة بسند صحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَأَعْلَمَنَّ أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً يجعلها الله هباءً منثوراً"، قال ثوبان: صِفهم لنا! جلِّهِمْ لنا يا رسول الله ألَّا نكون منهم ونحن لا نشعر، قال: "أمَا إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم إذا خلَوا بمحارم الله انتهكوها".
إن الجرأة على المعاصي في الخلوات أمر خطير، قال سحنون: إياك أن تكون عدوا لإبليس في العلانية، صديقا له في السر! وقال وهيب بن الورد: اتقِ أن يكون الله أهون الناظِرِينَ إليك.
وإِذا خلوتَ بريبةٍ في ظُلمـةٍ | والنَّفسُ داعيةٌ إلى الطغيانِ |
فاستَحْيِ مِن نظَر الإلهِ وقل لها | إنَّ الَّذِي خلَقَ الظلامَ يراني |
(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الملك:12-13].
ومن أسباب حبوط العمل التألي على الله؛ فربما يحبط العمل بكلمة يظن العبد أنه فيها محتسب أو يظن أنه يقولها غضباً لله، عن جندب أن رسول الله -صلى الله عله وسلم- حدَّث أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله -جل وعلا- من ذا الذي يتألى عليّ ألَّا أغفر لفلان؟ قد غفَرتُ لهُ وأَحْبَطتُ عملَك. رواه مسلم.
وفي مسند الإمام أحمد أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال لرجل يقال له ابن جوس اليمامي: لا تقولن لأحدٍ: والله لا يغفر الله لك، والله لا يرحمك الله. فقال ابن جوسٍ: والله إنا إذا تلاحينا أو غضب بعضنا على بعض قد يقولها بعضنا لبعض! فقال أبو هريرة: إني سمعت رسول الله -صلى الله عله وسلم- يقول: " كان رجلان من بني اسرائيل أحدهما على الطاعة والآخر عاص، وكان هذا المطيع إذا رأى العاصي على عمل من المعصية فيقول له: اتق الله وأقْلِع عن معصيتك، فيقول العاصي: أوَبُعِثتَ عليّ رقيباً؟ أم كنت على أعمالي رقيباً؟!.
قال: ثم انه رآه ذات يوم على عمل من المعصية شنيع؛ فغضب ذلك المطيع فقال له: والله لا يغفر الله لك أبداً! والله لا يرحمك الله أبدا!: قال -صلى الله عله وسلم- فبعث الله ملَكاً إليهما، فقبض أرواحهما، فقال لهذا المطيع: ما الذي حملك على ما قلت؟ أكنت على ما عندي عليماً؟ أم كنت على رحمتي وما في يدي قادراً؟ فأمر ملائكته فقال: اذهبوا بهذا إلى النار، ثم قال للآخر: وأما أنت فقد غفرت لك، وأمر الملائكة فقال: اذهبوا به إلى الجنة"، فقال كلمة أهلكته وأوبقته.
إنها كلمة كان باعثها الغيرة لله، والغضب على حرماته، إذ إن المسالة إذا تعلقت بحكم المخلوق على ما عند الخالق، وبحكم الضعيف على رحمة القوي، وبحكم الذليل على قدرة العزيز، وبتكلم العبد على ما عند الرب، كانت سبباً في حبوط العمل كُلِه.
وان كثيراً من الناس في هذا الزمان ربما ذكر عنده اسم رجل من الناس، أو تكلم في شخصية من الشخصيات، فيقول بكل طمأنينةٍ وبكل عجبٍ أو بكل ثقة: ذاك ليس من أهل الجنة، أو هو من أهل النار، أو ذاك لا يرحمه الله، أو ذاك بما فعل بالعباد إن الله لن يغفر له. أو حال ذكْر المنحرفين يستبعد هدايتهم وإيمانهم، ويقول: لو آمن حمار الخطاب ما أمن عمر! ولو آمن الناس جميعاً ما آمن فلان!.
"إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء"، فلا يؤمن على مستقيم زلل وانحراف، ولا يستبعد على المنحرف استقامة وتوبة، والواقع يشهد بهذا. فقد يقول كلمة قد تحبط عمله، وقد تُذهب سعيه؛ أو يقول: فلان لن يرزقه الله، ولن ينجح ولن يفلح. يا هذا، هل اطلعت الغيب أم اتخذت عند الرحمن عهداً أنه لن يؤتي فلاناً من قليل أو كثير؟ فلا يتألى أحد على الله في الأمور التي بيده -سبحانه-، فليس لأحد أن يتألى على ما فيها من رحمةٍ وهدايةٍ ومغفرةٍ ورزق...
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن من محبطات الأعمال ومفسداتها ظلم الناس، والاعتداء عليهم قولا أو فعلا؛ لأن حقوق الناس مبنيةٌ على العدل والمقاصة بينهم، من أكل مال مسلم، أو هتك عرضه بقول أو فعل، أو هضمه حقا كان له، فالموعد هناك عند القنطرة حين يكون القصاص وأخذ الحقوق؛ روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِي اللَّه عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عله وسلم-: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ".
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عله وسلم- قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ! فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".
وذكر القرطبي في تفسير قول الله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) [عبس:34-36]، يفر لأنه يخاف مِن أنْ يروه فيطالبوه بحقوقهم عليه في الدنيا التي قصَّر فيها.
اللهم تقبَّلْ أعمالنا، وتجاوز عن سيِّئها، وارض عَنَّا، اللهم ما كان في أعمالنا من نقص وتفريط وخلل وزلل نسألك اللهمَّ أن تُتِمَّهُ برحمتك، وأنْ تُدْخِلَ عظيمَ زَلَلِنا في عظيم عفوك برحمتك التي سبقت غضبك، وبرحمتك التي سبقت كل شيءٍ يا رحمن يا رحيم.
اللهم آمِنَّا في الأوطان والدور، وأصْلِحْ الأئمة وولاة الأمور، واعصمنا من الفتن والشرور، يا عزيز يا غفور.