الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إنَّها الضلالةُ بعد الهدى، والحورُ بعد الكور، إنَّها الانتكاسةُ والسقوطُ على الطريق. إنَّها ظاهرةٌ تبعثُ على القلقِ، وتدعو المسلم الجاد أن لا يقفَ موقفَ الحيادِ تجاهها، فخسارةُ فردٍ من أبناءِ الأمةِ بعد أن هداهُ اللهُ وأنقذهُ لا يمكنُ أن يرضى به مسلم. إنَّها ظاهرةٌ مؤلمةٌ لأنَّها تمثلُ تآكلاً من الداخل، وفي وقتٍ ومرحلةٍ الأمةُ فيها أحوجَ ما تكونُ إلى...
الخطبة الأولى:
الحمد للهِ يغفرُ الذنوبَ، ويتوبُ على من يتوب، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدهُ لا شريك له، مُقلب القلوبِ وعالمُ الغيوب، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله.
كان الفتى يعيشُ في جنةِ الاستقامةِ، يتفيأُ ظلالَ الإيمان، ويشربُ من رحيقِ القرآن، كان يأوي إلى حملةِ المسكِ من الجُلساءِ الصالحين، ينهلُ من خيرِهم ويطربُ لمجالسهم.
كان الفتى يشعرُ بانشراحِ الصدرِ، وراحةَ البالِ، لأنَّ من اتبع هُدى اللهِ فلا يضلُّ ولا يشقى.
كان الفتى ممن يعمرُ المساجد، ويرتادُ الحلقات، ويسابقُ إلى الخيرات.
كان الفتى تجللهُ الهيبةُ والوقار، فهيئتُهُ تسُرُّ الأنظار، ووجههُ تزينه شعراتٌ من لحيتهِ تزيدهُ نورًا وجلالاً.
كان الفتى يتَّقِدُ نشاطًا وحماسًا، ويمضي وقتهُ دعوةً وجهادًا، وفي فترةٍ من الفتراتِ تغيرَ الحالُ فلم يعدِ الفتى هو الفتى، لقد تركَ الفتى حياةَ المُستمعِ ليعيشَ في المستنقعِ، وهجرَ النورُ والهدى ليؤثرَ الظلماتِ والردى.
لقد بدأت معالمُ التغيرِ حينما هجرَ الفتى مجالس الأخيارِ، وأكثرَ من الاعتذار، مختلقًا الواهي من الأعذار، افتقدهُ إخوانُهُ، وابتعد عنهُ أقرانهُ ليبدأَ مرحلةً أخرى من التغيرِ، ألا وهي التغيرات المظهرية.
زالَ من الوجهِ ضياؤه، فخُففتِ الشعراتُ المهيبة، وبدأ الاهتمامُ المفرط بالمظهر، والثوبُ طال، ولبس العقال، وما هو واللهِ بحرامٍ ولا مكروه، ولكن لبسه إعلانًا منهُ بتغيرِ حاله.
وتغير الظاهرِ نذيرٌ بخرابِ الباطن، فقسا القلبُ، وهجرَ كتابَ الله، والصلواتُ بدأت تفوتُ وتُقضى، واستحلَّ ما كان حرامًا من نظرٍ للقنوات، واستماعٍ للمُحرمات، وسهرٍ في الاستراحاتِ، لقد استبدلَ الفتى حياةَ الذلِّ بالعز، وتركَ حياةَ النعيمِ والاستقرارِ مع الصالحينَ والأخيار، ليقترنَ بالعارِ مع الطالحينَ والأشرار.
إنَّها الضلالةُ بعد الهدى، والحورُ بعد الكور، إنَّها الانتكاسةُ والسقوطُ على الطريق.
إنَّها ظاهرةٌ تبعثُ على القلقِ، وتدعو المسلم الجاد أن لا يقفَ موقفَ الحيادِ تجاهها، فخسارةُ فردٍ من أبناءِ الأمةِ بعد أن هداهُ اللهُ وأنقذهُ لا يمكنُ أن يرضى به مسلم.
إنَّها ظاهرةٌ مؤلمةٌ لأنَّها تمثلُ تآكلاً من الداخل، وفي وقتٍ ومرحلةٍ الأمةُ فيها أحوجَ ما تكونُ إلى تنامي هذا التيارِ المبارك.
إنَّها تمثلُ إهدارًا لجهودٍ خيِّرةٍ من الشبابِ والدعاةِ في الدعوةِ والتربية، إنَّ الانتكاسَ عن الهدى جُرمٌ عظيم؛ لأنَّ المنتكسَ بفعلهِ هذا يشوِّهُ الحقَّ الذي تنكرَ له، ويشككُ بالدعوةِ التي نكصَ منها، كما أنَّهُ يشمتُ الأعداءَ، ويغري الأشقياءَ، ويضعفُ القولَ ويخلخلُ الصف.
لقد شنَّع كتابُ اللهِ على المتساقطينَ الزائغين بعد الهداية، فأعلنَ خسارتهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)، وبيّنَ أنَّ ذلك من تزيينِ الشيطانِ: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ).
ودعا عليهم رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "إنِّي على الحوضِ حتى أنظرَ من يردُ عليَّ منكم، وسيؤخذُ أناسٌ دوني، فأقول: يا رب منِّي ومن أمتي، فيقالُ، أما شعرتَ ما عملوا بعدك، والله ما برحوا بعدكَ يرجعونَ على أعقابهم، فأقولُ: سحقًا سحقًا، لمن بدَّلَ بعدي".
فكان ابن أبي مليكة يقول: اللهمَّ إنَّا نعوذُ بك أن نرجعَ على أعقابنا أو أن نُفتنَ عن ديننا.
إنَّ المنتكسَ يعارضُ بفعلهِ قولَ الله: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)، ويدعو بسلوكهِ وانتكاسهِ إلى حياةٍ الضلالِ والشقاء.
إنَّ الانتكاسَ قدح في الشريعةِ ونورها وضيائها، وتشكيكٌ في الاستقامةِ وآثارها.
إننا بحاجةٍ إلى مثلِ هذا الحديثِ، لأنَّ من شبابنا الصالحينَ من يشعرُ أنَّه اجتاز القنطرةَ، ووصل إلى برِّ الأمانِ، فأمنَ من الضلالةِ ومن الحورِ بعد الكور، وهي أولُ أمارةٍ على ضعفِ الإيمانِ والغرورِ والعجب.
لقد أخبرَ -سبحانه- أن نبيَّهُ -صلى الله عليه وسلم- يحتاجُ إلى توفيقهِ وتثبيته: (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)، وفي آيةٍ أُخرى: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ).
ويوسفُ -عليه السلام- وهو القدوةُ في العفةِ والنزاهةِ والتسامي، يستعينُ بربهِ ليحميهِ من مواقعةِ الفاحشةِ، متبرئًا من كلِّ حولٍ وقوة: (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ).
وإنَّ القلوبَ بيدِ الله -سبحانه وتعالى-؛ ففي الحديثِ: "ما من قلبٍ إلاَّ بين أصبعينِ من أصابعِ ربِّ العالمين، إن شاءَ أن يقيمهُ أقامه، وإن شاءَ أن يزيغهُ أزاغه".
وكان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربَّهُ قائلاً: "يا مثبتَ القلوبِ: ثبت قلوبنا على دينك".
إنَّ المنتكسَ -أيُّها المسلمون- إنَّما يجني على نفسه، وما ربُّكَ بظلامٍ للعبيد: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
وزيغ الإنسانِ سببٌ لأن يزيغ اللهُ قلبه: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، وانصرافهِ عن الهُدى سببٌ لصرفِ قلبهِ: (ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون).
والمتكبرون عن آياتِ اللهِ، والمعرضُون عن الحقِّ بعد أنَّ رأوهُ واضحًا، يصرفهم اللهُ عن الانتفاعِ بها: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)، والقلبُ إنَّما يطبعُ اللهُ عليه لتراكمِ الذنوبِ على صاحبه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم).
واتباعُ الهوى، والإخلادُ إلى الأرضِ سببٌ لحرمانِ العبدِ طريقَ الفلاح: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا).
الانتكاسُ -يا مسلمونَ- طريقٌ شائك يسلُكُهُ الإنسانُ بنفسهِ وإرادتهِ، لأنَّ اللهَ لا يظلمُ أحدًا، وقد هدانا النجدين، وألهمَ نفُوسنا فجُورَها وتقواها، الانتكاسُ طريقٌ مُظلم، يسلُكُهُ الإنسانُ حينما يضعفُ إيمانهُ، فالإيمانُ حصنٌ عن كلِّ شهوةٍ وشبهة، وإذا خالطت بشاشتهُ القلوبَ ولّد أمةً ثابتةً لا تهزُّها الخطوب، ولا تُزلزِلها الشهواتُ والشبهات، ومتى ذاقَ العبدُ حلاوةَ الإيمانِ ثبتت قدمهُ في روضةِ الاستقامة.
قد يتوبُ شابٌ إلى اللهِ، ويسلكُ طريقَ الاستقامةِ والخير، لكنَّ الإيمانَ لم يدخل قلبه، فتعترضُهُ شهوةٌ أو شُبهةٌ، فيهوي أمامها، وينكِصُ على عقبيه، نسألُ اللهَ العافية.
وحين نتأملُ في واقعنا نجدُ صورًا عدة، تعكسُ وجودَ هذا الداءَ في أنفسنا، ومنها قسوة القلبِ، والبعد عن الله، والجرأة على معاصيه، والتكاسل عن طاعتهِ وغيرها كثير، ومما قد نبتلى به أن لا نُدرِكَ ذلك في أنفسنا.
والانتكاسُ -يا عبادَ اللهِ- ثَمرٌ لضعفِ العلمِ الشرعي، الذي يصحِحُ للإنسانِ عبادتهُ وتوجههُ للهِ وحده، فالتوجه للعلمِ الشرعي، والعناية به، يملأُ على المرءِ همَّهُ ووقته، فلا ينصرفُ ذهنهُ وتفكيرهُ إلى الشهواتِ والمعاصي، ولا يجدُ فراغًا في وقتهِ يُمكنُ أن يدفعهُ إلى الإثم.
والانتكاسُ -أيُّها المسلمونَ- حصادٌ مُرٌّ للاستهانةِ بالذنوبِ والمعاصي، كما قال ابنُ رجب: وقريبٌ من هذا أن يعملَ الإنسانُ ذنبًا يحتقرهُ ويستهينُ به، فيكونُ هو سبب هلاكهِ.
كما قال تعالى: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) قال -صلى الله عليم وسلم-: "إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنَّهنَّ يجتمعن على الرجل حتى يهلكنهُ". وإنَّ محقرات الذنوب متى يؤخذُ بها صاحبها تهلكه.
إنَّ الاستهانةَ بالمعاصي، واحتقارَ الذنوبِ يُولدُ آثارًا سيئةً، ونتائجَ وخيمة، فهي مدعاةٌ لزيادةِ الإثمِ والسيئةِ عندَ الله، وهي مما يبعدُ عن طريقِ التوبةِ، وكم من مستقيمٍ انتكس، وكانت الخطوةُ الأولى الإطراقُ على الأطباقِ الهابطةِ ولو بحجةِ الأخبار، والاستهانة بالذنوبِ تدعو الشابِ إلى عدمِ النفرةِ من أهلها، ويدعوهُ ذلك إلى التهاونِ في صحبتهم، وفي مُجالستهم، وهذا وحدهُ من أعظمِ أسبابِ الانحراف.
أيُّها المسلمون: والغرورُ والإعجابُ بالنفسِ سببٌ رئيسِ للضلالةِ بعد الُهدى، فالمرءُ حينَ يشعرُ بالكمالِ، لا يرى أنَّ لهُ حاجةً في مزيدٍ من طُرقِ الخيرِ والعملِ الصالح، وحينما يعجبُ المرءُ بعملهِ، ويُدل به على اللهِ، فإنَّ هذا عنوانُ انسلاخهِ من عبوديةِ مولاهُ -سبحانه-، والغرورُ سببٌ لأن يزولَ من القلبِ خوفُ سوءِ الخاتمة، والخشيةُ من الضلالةِ بعد الهُدى، والأمانُ من ذلكَ أول الخطواتِ نحو الوقوعِ فيه، والإعجابُ بالنفسِ سببٌ لانشغالِ المرءِ بعيوبِ الآخرينَ وذمهم، ومن عيَّرَ أخاهُ بذنبٍ لم يمت حتى يفعلهُ.
والانتكاسُ صدى للتربيةِ الضعيفةِ، فحينَ يستقيمُ الشابُ على طاعةِ اللهِ فإنَّهُ يُخلفُ وراءهُ واقعًا يحملُ رُكامًا هائلاً من التصوراتِ والمفاهيمِ والسلوكياتِ الشاذة، وإزالة هذا الركامِ لا يمكنُ أن تتمَ بمجردِ توبةِ الشابِ وإقلاعهِ عن ماضيهِ السيئ فقط، بل هي تحتاجُ إلى جهدٍ تربوي، يمحو كلَّ ما رانَ على الفطرةِ السليمة، وهو يحتاجُ إلى التربيةِ العميقةِ، لتتأصلَ في نفسهِ معاني الإيمانِ حقًا، وليقتبسَ من العلمِ الشرعي ما ينيرُ لهُ الطريقُ، ويضيءُ لهُ المحجةَ.
لقد قررت غزوةُ حُنينٍ بوضوحٍ وجلاء، أثرَ التربيةِ في ثباتِ القلوبِ يومَ الشدائدِ والمحن، فقد كانَ المسلمونَ في حُنين أكثرُ عددًا منهم في أيِّ موقعةٍ أخرى، ومع ذلكَ لم تنفعهم الكثرةَ شيئًا، بسببِ تلك الجماهيرِ التي لم يتمكنِ الإيمانُ في نفوسها، ولم يتغلغل معنى الإسلام بعد في أعماقِ أفئدتها، فلا بُدَّ من تربيةِ الشبابِ على الإيمانِ باللهِ وتزكيةِ النفسِ، وتعميقِ الخوفِ من اللهِ تعالى، ولابُدَّ من تربيةِ الشبابِ المسلمِ على الجديةِ، عبادةً وعلمًا وسلوكًا، لا أن يتربوا على الإغراقِ في المباحاتِ، وإشغالِ أوقاتهم بكثرةِ المزاحِ والملهيات.
أيُّها المسلمون: ويقعُ الانتكاسُ حينما تستحكمُ الشهوات، وتتبدَّى الغرائزُ أمامَ الشبابِ وتُحاصِرُهم، وتحيطُهم بشِراكها، ومشكلةُ الشَهوةِ تبدأُ من خلالِ نظرةٍ آثمة، أو فكرةٍ طائشة، ثُمَّ تتحولُ إلى طوفانٍ هائج، وبركانٍ ثائر، يوشكُ أن يهوي بصاحبهِ.
ويحدثُ الانتكاسُ حينما يعيشُ الشابُ على التربيةِ الجماعيةِ وحدها، دُونَ أن يعتني بنفسهِ أو يبذلَ جُهدًا لإصلاحِها، فهو مع ما يحملُ من ثغراتٍ كبيرةٍ في شخصيتهِ، ما يلبثُ أن يفقدَ أصحابهُ يومًا، فيسافرُ أو يُسافرون، ويغيبُ عنهم أو يغيبونَ عنه، فيرى نفسهُ أمامَ عالمٍ لم يعتد عليه، فلم يعتد أن يبقى فارغًا، ولم يتربَّ على اغتنامِ وقتهِ والاستفادةِ منه، فرُبَما سيطرَ على نفسهِ وحفظَ وقته، ورُبما بحثَ عن أنسِهِ في صحبةِ قريبٍ أو جار، أو جلسَ أمامَ الشاشةِ، أو خرجَ إلى السوقِ، وقد تكونُ هذهِ الخياراتُ بدايةً لدخولهِ متاهةَ الانحرافِ، وبوابةً إلى عالمِ الانتكاس، وإنَّ هذا يدفعنا إلى توجيهِ الحاملينَ أمانةَ هذا النشءِ بأن يغرسوا فيهم الحرصَ على تربيةِ أنفسهم، وأخذِها بزمامِ الطاعةِ والتقوى، وتنميةِ الشعورِ بالمسؤوليةِ الفرديةِ لديهم.
يا عباد الله: ويأتي الغلوُّ والتشددُ والإثقالُ على النفسِ، بما لا تُطيقُ من الأعمالِ، خاصةً ممن كانَ لهم تاريخٌ سيئٌ في الانحراف، يأتي سببًا في الحورِ بعد الكور، وإنَّ هذا الدين متين، فأوغلوا فيهِ برفق، ويقابلهُ التفريطُ والإهمالُ وأتباعهُ في عصرنا كثير، والمنحرفون بسببهِ جَمع غفير، يبدأ المقصرُ بالتهاونِ بأداءِ السننِ والمستحبات، وعدمِ المبالاةِ بالمكروهاتِ، وعدمِ التورعِ عن حمى الشُبهاتِ، ثُمَّ يقودُهُ مرضهُ للإخلالِ بالفرائضِ والواجبات، والوقوعِ بالمحرمات، فإذا صعُبَ عليه مفارقةُ الممنوعات، قال لهُ شيطانُهُ: كيف تُصاحبُ الصالحينَ وأنتَ تعملُ بأعمالِ الطالحين، فيزين إليهِ تركهم، والبعدَ عنهم، أو يقولُ لهُ: إنَّكَ لن تجدَ لذةً لهذهِ الشهواتِ إلاَّ بالبعدِ عن تلكَ الصداقات، التي لا تأمُرُكَ إلاَّ بما تكرههُ نفسك، فيُحبب إليهِ جفاءَهم والإعراضَ عنهم.
وللانتكاسِ أسبابٌ أخر، فالأصحابُ من جيرانٍ وأقاربٍ وأقران، والغثائية، وضعف الاقتناعِ، وضعف الجديَّةِ، والشخصية الضعيفة والمتقلبة، ورواسبُ الماضي، وضغوط البيئةِ والأسرةِ، والآفات القلبية، وكثرة الابتلاءاتِ والمحن، وعدم تحملِ تكاليفَ وأعباءَ الاستقامة، كلُّها أسبابٌ تقودُ إلى هاويةِ الانتكاس.
وإنَّ معرفةَ الأسبابِ، وتشخيصَ الداءِ، خطوةٌ أولى، ومهمةٌ في العلاجِ بعدَ أن يستعينَ العبدُ بربهِ، ويتوجهُ إليهِ وحدهُ بالدعاءِ والرجاء، والاستعانة والبراءة من كلِّ حولٍ أو قوة، ومن اهتدى فلنفسهِ ومن ضلَّ فإنَّما يَضلُّ عليها، ومن أرادَ الخيرَ وسعى لهُ وفقهُ اللهُ وسدده، ومن ظنَّ أنَّهُ يُخادعُ اللهَ فإنَّما يُخادِعُ نفسهُ وهُو لا يشعر، ومن استكثرَ على ربهِ استقامةً وصلاحًا، فليعلم أنَّ للهِ عبادًا مُكرمِين، يسبِّحونَ الليلَ والنهارَ لا يفتُرون، ولا يعصُون اللهَ ما أمَرَهُم ويفعلونَ ما يُؤمرون.
ربنا لا تُزغ قُلوبنا بعد إذ هديتنا.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
إذا أدركنا -يا مُسلمون- خطورةَ الانتكاسِ، وعلمنا أسبابهُ، والطرقَ الموقعةِ فيه، والمسالكَ الموصلة إليه، وإذا عرفنا كيفَ كانَ السلفُ أهلُ الإيمانِ والتقوى، وأربابُ الصلاحِ والخشيةِ، كيفَ كان أولئكَ يَخافُونَ من سُوءِ الخاتمةِ، ويسألونَ اللهَ الثباتَ على هذا الدين.
بعد ذلكَ كله أقولُ لنفسي ولك -يا أخي-: إنَّ هذه الهداية والتوفيق، لسلوك الطريقِ المستقيمِ، والسير في ركابِ الصالحين، والتجافي عن طريقِ الضالين، إنَّ ذلكَ كلَّهُ ليسَ بجهدنا ولا ذكائنا وحرصنا، بل هُو أولاً وأخيرًا نعمةً من اللهِ -سبحانه-، تستوجبُ الشكر والاعتراف بالفضلِ للهِ وحده، وتستحقُ المحافظةَ عليها، والعنايةَ بها، وهي منةٌ من الله، واللهُ يختصُّ برحمتهِ من يشاء.
أخي -رعاك الله-: إنَّ نعمةَ الهدايةِ أغلى ما يملكهُ المرءُ، وأتَمُّ وأكملُ نعمةٍ يمنُّ بها اللهُ عليه، والاستقامةُ تاجٌ على رؤوسِ الصالحين، لا يراهُ إلاَّ المنحرفون، فهل نُدركُ عظمَ مسؤوليتنا في الحفاظِ على هذهِ النعمة، والسعي للثباتِ على هذا الصراطِ المستقيم، وحين نرى أولئكَ الذين ركبُوا طريقَ الغوايةِ، وضلُّوا سواءَ السبيل، نُدرِكُ خُطورةَ هذا المسلك، ويضعُ المرءُ يدهُ على قلبهِ، سائلاً اللهَ الثباتَ والهداية، ورحمَ اللهُ ابن القيم إذ يقولُ:
واجعل لقلبك مُقلتين كلاهما | بالحقِّ في ذا الحلق ناظرتان |
فانظر بعينِ الحكمِ وارحمهم بها | إذ لا تردُ مشيئةُ الديان |
وانظر بعينِ الأمرِ واحملهم على | أحكامهِ فهما إذًا نظرانِ |
واجعل لوجهك مقلتين كلاهما | من خشيةِ الرحمن باكيتان |
لو شاءَ ربُك كنت أيضًا مثلهم | فالقلبُ بين أصابعِ الرحمنِ |
إنَّهُ لا يشعرُ بعظمِ نعمةِ الله عليهِ بالهداية، إلاَّ من اكتوى بنارِ الغوايةِ، ولا يُقدرُ منةَ اللهِ عليهِ في الإيمانِ إلاَّ من ذاقَ ويلات الفسوقِ والعصيان، من ضياعٍ وحيرةٍ واضطراب: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا).
فمن أدركَ قدرَ هذهِ النعمةِ عزَّ عليه فِراقُها، ومن تذوقَ حلاوةَ هذهِ المنةِ كرهَ مرارة البُعدِ عنها، كما يكرهُ أن يُلقى في النار، وتذكُّر نعمة الهدايةِ مما يُعززُ في القلبِ الثباتَ عليها، وطلبِ أسبابِ بقائها، ولذلكَ يُذكّرُ اللهُ عبادَهُ بنعمتهِ هذه قائلاً: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء).
أخي -أيَّها المستقيم-: وأنت تعيشُ في جنةِ الاستقامةِ، وتنهلُ من رحيقِ العبادةِ، فلا تنسَ من نكصوا على أعقابهم، وارتدُّوا على أدبارهم، من بعد ما تبينَ لهم الهُدى، لا تنسَ من رأى الحقَّ لكنَّهُ انسلخَ من آياتِ اللهِ، وتجردَ من الغطاءِ الوافي، والدرعِ الحامي، وانحرف عن الهدى ليتبعَ الهوى، ويهبطُ من الأفقِ المشرقِ فيلتصقُ بالطينِ المعتم، فيصبحُ غرضًا للشيطانِ لا يقيهِ منهُ واقٍ، ولا يحميهِ منهُ حامٍ، فيتبعهُ ويلزمهُ ويستحوذُ عليه.
لا تنسَ أولئكَ المنتكسينَ من نُصحك ودعوتك، ذكِّرهُم أيّ نعيمٍ تركوه، وأيّ خيرٍ فارقوه، وإنني -أيُّها المسلمون- موجِّهٌ هذهِ الرسالةُ إلى مسلمٍ كانَ ينعمُ بالاستقامةِ فتركها، ويستظلُ بجنَّةِ الطاعةِ ففارقها اتباعًا لهوى، وإرضاءً لشهوةٍ.
أيُّها الأخُ العزيز: هذهِ رسالةُ ودٍّ، وتجديدُ محبةٍ صادقةٍ أرسِلُها من قلبٍ يفيضُ مودةً وحبًّا، ويفيضُ شفقةً ورحمة، لقد كُنتَ في بستانِ الصلاح، تقطفُ من ثمارهِ، وتشربُ من مائهِ، وتستظلُ بظله.
لقد كُنَّا نراكَ حريصًا على الطاعةِ، مسابقًا إلى الفضيلة، مُسارعًا إلى العبادةِ، صلاة وصيامًا وتلاوةً وذكرًا، لقد كُنَّا نراكَ مواظبًا على الحلقاتِ، مترددًا على الدروسِ والمحاضرات، مستمعًا للشريطِ الهادفِ، قارئًا للكتابِ النافع.
تلك صور مشرقة لا تزالُ شاخصةً أمامَ أعيُننا ونواظرنا، وحينَ يقفزُ اسمك للذهنِ، ويدورُ خيالُك بالبالِ، تتسارعُ تلك الصور المضيئة والجوانب المشرقة، وتتلاحقُ لتأخذَ مكانَها، حتى يعكِّرها ما صرتَ إليه أيُّها الصاحبُ المبارك.
أخي -يا رعاك الله-: إنَّ ما صارت إليهِ حالُكَ، لأمرٌ يقلقُ البال، ويُكدِّرُ الخاطر، ويُؤلمُ القلب، كيف لا، ونحنُ نرى ورقةً من شجرةِ الصحوةِ قد سقطت، وزهرةً في بستانِ الصالحينَ قد ذبلت، كيف لا وأنا أراكَ -يا أخي- تسلكُ طريقًا مظلمًا موحشًا، لا تدري هل تعودُ منهُ سالمًا، أو تتيهِ في دروبهِ فتلقى الله ظالمًا آثمًا.
إنني أذكرك وقلبي على نفسي وعليك مشفق وما أبرئ نفسي، ولا آمن على قلبي، وأسال الله الثبات.
أذكركَ -يا أخي- أنَّكَ إنَّما تجني على نفسكَ وتقودُها إلى حتفك، ولن تضرَّ اللهَ شيئًا، أوما سمعتَ ربكَ في الحديثِ القدسي يقول: "يا عبادي: لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحد ما نقصَ ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي: إنَّكم لن تبلغوا ضُري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي: إنَّما هي أعمالُكم أحصيها لكم، ثُمَّ أوفيكم إيَّاها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلاَّ نفسهُ".
أخي: هل تتفضلُ على نفسكَ لتقفَ ساعةَ محاسبةٍ، ولحظاتِ مُصارحةٍ، فتقارن بين ما أنت عليه الآن، وبين ما كنتَ عليه من قبل، متجردًا من الهوى والمكابرة، أن تجري حسابًا صادقًا مع نفسك قبل الحساب الذي ليس بعده عمل، أن تجري حورًا صريحًا لهُ ما بعده، قبل أن يتحاور أهلُ السعادةِ وأهلُ الشقاء.
أخي: لا زال البابُ مفتوحًا، والطريقُ مشرعةً، أولستَ تقرأ قولَ العزيزِ الغفور: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ).
فكن جريئًا وجادًّا، وحازمًا مع نفسك، وأعلنها عودةً صريحةً إلى الله قبل أن تغرغر، وقبل أن تقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ).
إنني لا أطلبُ منك أن تسلكَ طريقًا مجهولَ المعالمِ، لا تدري ما وراءهُ، إنني أطَالبك -يا أخي- أن تعودَ لفطرتك، التي فطركَ اللهُ عليها، وأن تعودَ لتلك الحال التي كنتَ فيها، في قطارِ الصالحين والعابدين.
أخي: يعتذرُ بعض الذين حوَّلوا مسارَ حياتهم بأعذارٍ تبدو لهم أوَّلَ وهلةٍ أنَّها صادقة، ولو صدقت لما أغنت عنهم يوم القيامة.
يتعذر أحدهم بأنَّ الصالحين الذين صاحبهم كان فيهم وفيهم، وقد يكون شيءٌ من ذلك صحيحًا، ولكن هل الحل أن يغيرَ الشخصُ حاله؟! أم الحل أن يتميزَ باستقامتهِ، فيصبحَ خيرًا منهم، يعتذرُ بعضهم بأنَّهُ لم يكن جادًا، لم يكن صادقًا، كان يأتي المعاصي، كان متناقضًا مع نفسهِ، فحسم الأمرُ بما آلَ إليه، لكن شتانَ بين من يبقى على الخيرِ، ويُجاهِدُ نفسهُ فيكبو وينهضُ ويهوي، ويفيقُ ويحبُّ الصالحين، ويُجالسهم، فيكونُ حريًّا بأن يُقال له: أنت مع من أحببت، ويقال لهُ: "هُم القومُ لا يشقى بهم جليسهم"، ويتجنبُ المجاهرة بالمعصيةِ، ليصبحَ من أهلِ العافية، شتان بينَ هذا وبين من يُجاهرُ بسلوكٍ غير طريقِ الصالحين، ويجدُ غيرهم أعذارًا وأعذارًا، لكنَّها تبقى بعد ذلك حججًا بينهُ وبين نفسه، وحججًا يواجهُ بها الناس، ولن تنجيهِ أمامَ الله -عز وجل-.
أخي -وفقكَ الله-: قد سطرتُ لك نصحي، ونثرتُ لك مكنونَ قلبي، وكلي أملٌ أن أرى وجهكَ مُشرقًا بنورِ الطاعةِ، وقلبكَ خاشعًا بالاستقامةِ، وكلي أملٌ أن أراكَ شجرةٌ مثمرةً، غنّاءَ في بستان الصالحين، وجنة المؤمنين، تلك الجنة التي كُتب على بابها: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) وعلى جنباتها: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)، وعند كلِّ بابٍ من أبوابها سُطّر هذا الدعاء: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)، وما ذلك على اللهِ بعزيز، وتقبل سلامَ من يرجو لك الخير والسلام.
سائلاً الله لي ولإخواني الثبات، وللزائغين عودة قبل الممات.