الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن الصادق القايدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصلاة |
فتيقظوا -أيها المسلمون- واعلموا أن سلفنا الصالح لم ينتصروا بالعدد ولا بالعدة مع أنها مهمة، بل بمحافظتهم على الصلوات والأعمال الصالحة، وكانوا في أكثر معاركهم وفتوحاتهم الإسلامية أقل بكثير من عدوهم بدءًا من غزوة بدر الكبرى التي كان عدد المسلمين فيها ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً أمام ألف من المشركين، إلى معركة القادسية التي نازل فيها سبعة آلاف من المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص ستين ألفًا من الفرس ..
تحدثنا -أيها الأحبة- في الخطبة الماضية عن الصلاة وأهميتها وأن الذي يحافظ عليها يمكنه الله كما قال تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج: 41]. وحذرنا نبينا محمد حينما قال محذرًا ومشفقًا علينا: "لا تترك الصلاة متعمدًا؛ فإنه من ترك الصلاة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله ورسوله، ومن ترك الصلاة لقيَ الله وهو عليه غضبان". فبربكم كيف نطلب نصرًا وعزة وكثير من المسلمين اليوم لا يصلون إلا قليلاً؟!
دعونا نتأمل كتاب ربنا لنعرف أحوال الأمم السابقة، يقول تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55].
هذه الآية تحمل في طياتها قانون النصر والتمكين الذي يبحث عنه المسلمون، وهو في متناول أيديهم وبين دفتي كتابهم المنزل منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام على قلب نبيهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، فالله -سبحانه وتعالى- يعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات وحققوا الإيمان في قلوبهم وأتبعوا الإيمان بالعمل الصالح، يَعِدهم وهو سبحانه لا يخلف الميعاد بأن يستخلفهم في الأرض ويمكّن لهم دينهم ويؤمّنهم بعد أن كانوا خائفين، وهذه المعادلة لا يتحقق جانب منها إذا لم يتحقق الجانب الآخر، فإذا الناس قاموا بما عليهم من واجبات أَوْفَى الله لهم وَعْده بالنصر والتمكين.
ولقد تحقق هذا الوعد في عهد النبي وعهد خلفائه الراشدين؛ لأن الأمة كانت تسير على منهج الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. وتحقق هذا النصر بعد ذلك في كل عصر كان فيه المسلمون محققين لتقوى الله في قلوبهم وعاملين للخيرات، يقول ابن كثير في تفسير لهذه الآية: "هذا وعد الله تعالى لرسوله بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض وأئمة الناس والولاة عليهم، بهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنًا وحكمًا فيهم، وقد فعله -تبارك وتعالى- وله الحمد والمنة، فإنه لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكاملها، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر المقوقس وملوك عُمان والنجاشي ملك الحبشة، ثم قام من بعده خليفته أبو بكر الصديق، فبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس بقيادة خالد بن الوليد وجيشًا آخر بقيادة أبي عبيدة إلى الشام وثالثًا بقيادة عمرو بن العاص إلى مصر، ثم آل الأمر بعده إلى الفاروق عمر بن الخطاب -رضيَ الله عنه- الذي تم في أيامه فتح بلاد الشام بكاملها ومصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس...". إلى آخر كلام ابن كثير -رحمه الله-.
ومن هنا نتعلم أن الله يمكّن لأوليائه إذا كانوا مؤمنين صالحين، كما قال -سبحانه وتعالى-: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) الآية [الحج: 41]. بهذه الأمور الأربعة يسود المسلمون العالم وينتصرون، فإن هم أقاموا الصلاة وأدوها كاملة الأركان والواجبات ثم بعد ذلك تحسسوا أحوال إخوانهم الفقراء بإخراج زكاة أموالهم وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فيما بينهم فقد صلحت أحوالهم جميعًا ومكن لهم الله ونصرهم.
أما أحوالنا نحن اليوم ففيها العجب، تجد صاحب البيت يصلي في المسجد وأولاده تاركون للصلاة، وهو يعلم هذا منهم، ومع ذلك يؤاكلهم ويشاربهم، وكأن شيئًا لم يحدث، بينما لو قصر هؤلاء الأبناء في الدراسة وجاءت نتائج بعضهم غير مرضية لوجدت الأب والأم قد استنفروا جميع طاقاتهم لحلّ هذه المشكلة وجاؤوا بمدرسين خصوصيين لاحتواء هذه المصيبة في نظرهم، وأهملوا المصيبة الحقّة في ترك الصلاة والتهاون بها.
فتأملوا -يا عباد الله- كيف تغيرت المفاهيم عند كثير من الناس في هذا العصر المادي، ورسول الله يقول محذرًا ومشفقًا على أمته: "لا تترك الصلاة متعمدًا؛ فإنه من ترك الصلاة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله ورسوله"، فكيف يأتي توفيق ونصر وعزة لإنسان قد برئت منه ذمة الله ورسوله وغضب الله عليه؟!
فتيقظوا -أيها المسلمون- واعلموا أن سلفنا الصالح لم ينتصروا بالعدد ولا بالعدة مع أنها مهمة، بل بمحافظتهم على الصلوات والأعمال الصالحة، وكانوا في أكثر معاركهم وفتوحاتهم الإسلامية أقل بكثير من عدوهم بدءًا من غزوة بدر الكبرى التي كان عدد المسلمين فيها ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً أمام ألف من المشركين، إلى معركة القادسية التي نازل فيها سبعة آلاف من المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص ستين ألفًا من الفرس بقيادة قائدهم رستم، فهزموهم بإذن الله.
إن أهم أسباب النصر طاعة الله سبحانه وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فأين نحن من هذين الأمرين العظيمين؟! أين نحن من طاعة الله سبحانه التي هي خير عُدة وخير عتاد، بل هي العتاد والعدة؟! كما قال سبحانه: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249].
ليس المقياس في النصر مقياس عدة وعدد مع أنهما مهمان، إنما المقياس الحقيقي هو مقياس القرب من الله أو البعد عنه، فهذا موسى -عليه السلام- حينما أَلقى السحرة حبالهم وعصيهم خاف موسى من هذا المنظر الساحر، قال تعالى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى) [طه: 67، 68]، وكان ذلك في بداية تنزيل الوحي عليه، وعندما رسخ الإيمان في قلبه واستشعر معية الله تقوّى إيمانه بربه، وقال لقومه حينما طاردهم فرعون وخافوا أن يقبض عليهم، قالوا لموسى وهم في خوف وفزع: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، فرد عليهم موسى -عليه السلام- وهو واثق بمعية ربه: (كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ). وفعلاً هداه ربه وضرب البحر بعصاه، فانفلق البحر، ودخل موسى وصحبه، ثم تبعه فرعون وقومه، فغرقوا جميعًا، ونجا موسى وصحبه، إلى آخر القصة المعروفة.
إذًا فطاعة الله حصنٌ عظيم يلجأ إليه الصالحون في الشدائد، فينصرهم الله وينجيهم من كل كيد. اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الكريم المنان، المتفضل بالكرم والإحسان، والصلاة على عبده ورسوله محمد المصطفى من ولد عدنان، وعلى آله وصحبه وذريته ومن تبعهم بإحسان.
أيها المسلمون: لقد عرف الأوائل من سلفنا الصالح أهمية طاعة الله ورسوله، فعملوا لها وحققوها أحسن تحقيق. أورد أبو نعيم في حلية الأولياء رسالة من عمر بن عبد العزيز إلى أحد قواده يقول فيها: "عليك بتقوى الله في كل حال ينزل بك؛ فإن تقوى الله أفضل العدة وأبلغ مكيدة وأقوى القوة، ولا تكن في شيء من عداوة عدوك أشد احتراسًا لنفسك ومن معك من معاصي الله؛ فإن الذنوب أخوف عندي على الناس من كيد أعدائهم، فإنما نستنصر عليهم بمعاصيهم الكثيرة، فإن تعادلنا بالمعاصي غلبونا بالعدد والعدة".
وأما طاعة الرسول فهي أيضًا من أهم أسباب النصر والتمكين، ولقد عرف الصحابة هذا حق المعرفة، ففي غزوة أحد حينما خالف الرماة أمر الرسول فانقلب النصر هزيمة وتراجع المسلمون بعد أن كانوا متقدمين ومنتصرين، وعاتبهم الله أشد العتاب على مخالفتهم هذه وأبقى هذا العتاب قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة؛ لنعلم نحن المسلمين معنى مخالفة رسول الله في أي أمر من الأمور، يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152].
انظروا إلى هذا الدرس العظيم وهذه الكبوة التي جناها أصحاب رسول الله لمخالفة واحدة رغم أنهم متبعون لرسول الله في كل الأمور، إلا أنهم ظنوا أن المعركة انتهت والأعداء اندحروا، فمخالفتهم تعتبر غير متعمدة، مع هذا تأملوا ماذا جنت عليهم هذه المخالفة، فكيف نرجو نحن النصر والتمكين ونحن نخالف رسولنا في عبادتنا وفي هدينا وفي أخلاقنا وفي معاملاتنا وداخل بيوتنا وخارجها وفي معظم أحوالنا؟!
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وكونوا مع الله ليكون الله معكم، إنها سنة كونية إلهية لا تتغير ولا تتبدل، التمكين يحتاج إلى تمكين، فلأجل أن يكون تمكين في الأرض لا بد أن يتمكن الإيمان في القلب، والنصر يحتاج إلى نصر، ولكي يكون نصر على الأرض لا بد أن ينتصر دين الله في القلب، والصالحون هم الأعلون، ويقول الله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105].
ثم صلوا على صفوة خلق الله كما أمركم بذلك رب العالمين حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].