البحث

عبارات مقترحة:

العزيز

كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...

الأعلى

كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...

المحيط

كلمة (المحيط) في اللغة اسم فاعل من الفعل أحاطَ ومضارعه يُحيط،...

قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن

العربية

المؤلف حسن السبيكي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. صور ومظاهر من القول القبيح .
  2. مجالات الطيب في أحوالنا .
  3. أطيب كلمة .
  4. الحث على اختيار الألفاظ الحسنة .
  5. الكلمة الطيبة والخبيثة .
  6. النهي عن آفات اللسان .
  7. أقسام الكلام وحكم كل قسم .
  8. ميزة الكلام الطيب .
  9. الترابط بين الإيمان والقلب واللسان .

اقتباس

إن الكلمة الطيبة ربانية، زاكية بانية، وهي ثمرة اللسان الطيب والقلب الودود، لا تؤذي المشاعر ولا تخدش الحياء، بل تطرب لها الآذان، وتنشرح لها الصدور، وتطمئن القلوب، وتبعث على الثقة والرضا، وتفتح أبواب الخير الكثير، وتعمل على تنميته ونشره، وَتغلِق نَوَافِذَ شَرٍ كَثِيرَة، وقد ...

الخطبة الأولى

يقول الله تعالى: (وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ الشَّيطَانَ يَنزَغُ بَينَهُم إِنَّ الشَّيطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء: 53].

من الآفات الفتاكة التي سادت بين الناس بالفساد الكبير، والشر المستطير، آفة كلام السوء، وخبيث القول، الذي يفعل فعل الوباء القاتل في حياتنا الاجتماعية، فيعصف بالعلاقات والمعاملات، ويبيد أمن النفوس واستقرارها، ويهدم صروح الثقة بين الناس.

وقد أضحت الألسنة طليقة بالسوء، بغير قيود ولا حدود؛ حتى امتلكت بفعل العادة والتطبيع والألفة شرعية مقيتة من الجراءة والمجاهرة، والتحدي لضوابط الدين والخلق والمروءة.

مظاهر وصور من قبيح القول، لا تكاد تحصى في رذائل السب والشتم والطعن والقذف والسخرية، والكذب والغيبة والنميمة والزور والنكت والنوادر الذميمة.

أحاديث ألسنة فاحشة فاجرة مستهترة، لا تراعي لشرائع الدين حرمة ولا للناس احتراما.

أحوال لا تحتاج منا إلى شاهد ولا دليل على واقع نعيشه ونواكبه بأسماعنا وأبصارنا، وقد نساهم فيه بقليل أو كثير، من حيث ندري أو لا ندري.

وهل يليق بأمة الإسلام، أمة الخيرية، أن تعيش على هذه الحال أو تتقبلها، وهي التي أراد الله تعالى لها أن تحيى طيبة طاهرة في كل شيء من أمرها، لتكون قدوة للناس في الاستقامة على الصلاح والإصلاح: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) [آل عمران: 110].

فوجب على المسلم أن يحيا طيبا في كل أحواله؛ فيكون طيبا في قلبه، بأطيب المشاعر والخواطر والنوايا، ويكون طيبا في عقليته بأطيب الأفكار والتصورات وموازين المنطق السليم، ويكون طيبا في جوارحه بأطيب الأفعال والأعمال، ويكون طيبا في لسانه بأطيب الكلام وأقوم الأقوال.

وبذلك تكتمل له مقومات وفضائل الشخصية المؤمنة الربانية، ويعيش تقيا نقيا زكيا راضيا مرضيا، مشمولا بالثناء الرباني: (وهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) [الحج: 24].

من أجل ذلك يعلمنا كتاب الله تعالى ويضرب لنا الأمثال لنتبين الفرق بين الكلمة الطيبة الفاعلة في الناس بالخير، والكلمة الخبيثة الفاسدة المفسدة: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) [إبراهيم: 2628].

وتلك حقيقة الكلمة الطيبة الثابتة بجذورها في تربة طيبة، تعلو فروعها السامقة لتؤتي ثمار الخير أكلا طيبا جنيا يسري أثره النافع في النفوس والأفعال والأحوال باستمرار.

بينما تكون الكلمة الخبيثة نبتة مشؤومة الآثار، لا تثمر بين الناس إلا الشر والفساد.

إن أطيب كلمة على الإطلاق هي كلمة التوحيد "لا اله إلا الله"، وأطيب الكلام إطلاقا هو كلام الله تبارك وتعالى -القرآن-، والحديث البشري الأطيب على الإطلاق هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما كلام الناس، وهم خطاءون، فهو يتراوح بين الطيب والخبيث، والصادق والكاذب، والسديد واللغو، والسليم والسقيم، تبعا لأحوالهم النفسية والخلقية وما يحركهم من الدوافع والمقاصد خيرا أو شرا.

لكن المسلمين، وهم أمة الكلمة الطيبة، أهل التوحيد والقرآن والسنة النبوية، فهم مأمورون بالتزام الحسن من الكلام، والطيب من القول، لخير دينهم ودنياهم وآخرتهم، وإلا فإن الشيطان يتربص بهم، كامنا خلف قلوبهم وألسنتهم، يغري بكل خبيث من القول لكي يسقم القلوب، ويلوث الألسنة، ويؤجج الضغائن والأحقاد، ويفسد العلاقات، ويقطع الصلات، ويهدم الإيمان.

لذلك أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يتخيروا من الألفاظ أحسنها، ومن الكلمات أجملها عند حديث بعضهم لبعض حتى تشيع الألفة والمودة، وتنعدم أسباب الهجر والقطيعة والعداوة، فقال سبحانه: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) [الإسراء: 53].

ومقتضى ذلك أن يحذر المسلم كيد الشيطان الذي ينزغ بين الناس بما يوقع بينهم العداوة والبغضاء ليفسد عليهم حياتهم الدينية والدنيوية.

إن الكلمة الطيبة ربانية، زاكية بانية، وهي ثمرة اللسان الطيب والقلب الودود، لا تؤذي المشاعر ولا تخدش الحياء، بل تطرب لها الآذان، وتنشرح لها الصدور، وتطمئن القلوب، وتبعث على الثقة والرضا، وتفتح أبواب الخير الكثير، وتعمل على تنميته ونشره، وَتغلِق نَوَافِذَ شَرٍ كَثِيرَة، وقد تحيل الغاضب الثائر حليما، وتجعل العدو الحاقد صديقا حميما، وتصون المجتمع من الضغائن والصراعات والفتن.

وما ذلك إلا لأن الله تعالى أودع فيها سرا عجيبا، وإكسيرا علاجيا فعالا في صون العلاقات، وضمان عيش الناس على المودة والأمن النفسي والاجتماعي.

حسبنا هذا الوعد الأكيد من الله تعالى لمن يقابل إساءة الناس بالحسنى قولا أو فعلا: (وَلا تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ)[فصلت:34].

فَلا عَجَبَ إِن كانت الكلمة الطيبة مِن تَمَامِ الإِيمَانِ، وتَرقَى إِلى مَنزِلَةِ الصَّدَقَةِ حَيثُ يَقُولُ عليه الصلاة والسلام في بداية حديث: "مَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَليَقُلْ خَيرًا أَو لِيَصمُتْ"[متفق عليه].

وَيَقُولُ: "وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ".

وهل يستطيع صاحب الكلام الطيب أن يحصي حسنات لسانه الذي لا ينطق إلا بالخير، بل قد يكون ذلك وقاية له من عذاب النار، لقول النبي الكريم في شطر حديث: ".. فاتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمرَةٍ، فَمَن لم يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"[متفق عليه].

ثم إن الكلام الطيب، عمل صالح يتقبله الله تعالى ويرفعه، أيا كانت مجالاته، وهي كثيرة، في الذكر والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح والإصلاح بين الناس والإرشاد والمواساة وغير ذلك: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر: 10].

وفي القرآن الكريم الأمر بالقول المعروف، والقول السديد، والقول الميسور، والقول الحسن، والقول الكريم، والقول اللين.

وإذا كانت الكلمة الطيبة ربانية مصحوبة بكل خير، فإن الكلمة الخبيثة شيطانية؛ لأنها من نفخه ونزغه وإغوائه، كلمة شر وإفساد، تفعل فعل النار في الهشيم، مهما تغلفت بالمظاهر الباهرة الخادعة، تخدش الحياء وتحطم المروءة، وتوغر الصدور بالأحقاد والضغائن، وتقطع الأرحام، وتثير الفتن، وقد تشعل فتيل الحرب الدامية، والتاريخ القديم والحديث شاهد عليها بذلك.

إنها شجرة خبيثة الأصل، خبيثة الثمار، ولذلك كانت مناقضة لحقيقة الإيمان.

وقد نهى الله تعالى المؤمنين عن أفات اللسان المذمومة، فقال في سورة الحجرات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)[الحجرات: 11-12].

والنبي عليه الصلاة والسلام ينزه المؤمن عن ذلك، فيقول: "ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش،ولا البذيء"[رواه الترمذي].

إن كلام السوء، كيفما كان وقدر ما كان، إنما هو مرتع للشيطان يجد فيه عونا على إفساد القلوب وتحريف العقول وتدمير العلاقات.

فكم من كلمة سوء يتلقفها ويطير بها ثم ينفخ فيها من مكره، فإذا هي نار لا تبقي ولا تذر، تصيب الأبرياء أو تلوث سمعة الأتقياء، فتفرق بين حميمين أو تمزق شمل أسرة أو تروع آمنا.

إن الكلمة في دين الله أمانة عظيمة ومسؤولية جسيمة، لما قد يترتب عليها من خير أو شر، ولذا كانت متبوعة بالمراقبة والتوثيق لتكون لصاحبها أو عليه؛ بهذا يخبرنا القرآن الكريم: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18].

(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف:80].

كذلك ينبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خطورة الكلام وعواقبه ليوم القيامة، فيقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم"[رواه البخاري].

هذا عن كلمة واحدة، فماذا يكون مصير من لا يحلو لهم الحديث إلا في أعراض الناس وأسرارهم، يتندرون ويتلذذون بكل ما ينال من كرامة الإنسان.

وهذا حال كثير من مجالس المقاهي وأندية اللهو واللغو والأسواق والمسلسلات والمسرحيات والمقالات الصحفية وغيرها.

والحاصل أن الكلام ثلاثة أقسام: كلام خير، يستحب للمسلم التكلم به، وهو أفضل من سكوته، كتلاوة القرآن، والذكر والعلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وغير ذلك مما فيه خير دين أو دنيا.

كلام سوء وشر، فيجب الإمساك عنه، وعدم الخوض فيه، كالغيبة والنميمة والكذب والاستهزاء، وغير ذلك مما نهى عنه الشرع وحذر منه.

وكلام مباح بين الخير والشر، ولكن السكوت عنه أفضل، إلا ما دعت إليه حاجة أو ضرورة.

وأما أهل الإيمان والورع فلا يأخذ منهم لغو الكلام أوقاتهم الثمينة: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)[القصص: 55].

لهذا يحسن بالمؤمن العاقل أن يجمل شخصيته بطيب الكلام الذي يرفع قدره، ويحفظ مروءته، ويجلب له عند الناس المودة والقبول، عملا بأمر الله في التخاطب مع الناس، كل الناس: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة: 83].

وفي الكلام الطيب مزيتان؛ إحداهما: في مضمونه السديد المفيد، وثانيتهما: في هيئته متى كان بليغا لطيفا، بريئا من الحدة والخشونة، فإن الإحسان والتلطف في الخطاب، مطلوبان على كل حال، ومع أي كان، حسبكم أن الله تعالى أوصى به حتى مع أطغى طاغية جبار وهو فرعون، حين بعث إليه موسى وهارون، وقال لهما: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 43 - 44].

ومن الحكمة والمروءة الإقلال من الكلام؛ لأن كثرة الكلام مدعاة للوقوع في المحظور، فإن كثيرا من مباح الكلام يجر صاحبه ويستدرجه إلى ما فيه إثم، وفي ذلك يقول عمر بن الخطاب: "من كثر كلامه، كثر سقطه، ومن كثر سقطه، كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به".

إن المرء ما دام ساكتا صامتا فهو آمن، فإذا تكلم، كان كلامه له أو عليه، فوجب التحفظ والتيقظ والمراقبة لشهوة الكلام التي يسقط كثير من الناس ضحايا لها بالإدمان الكلامي وعواقبه.

إن هذا اللسان الصغير الحقير في حجمه نعمة إلهية عظيمة ومظهر التكريم الرباني للإنسان بين غيره من المخلوقات العجماء، كما هو مظهر إعجاز بما أودع الله فيه من أسرار باهرة: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) [البلد: 8-9].

ذلك أنه الترجمان الأكبر عن الإنسان، في أحوال شخصيته النفسية، والعقلية والخلقية.

لكنه عضو كبير وخطير بما يفيض منه من خير أو شر، وتتعلق به آفتان: آفة الكلام بالباطل، وآفة السكوت عن الحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أكثر خطايا ابن آدم في لسانه"[الطبراني].

الخطبة الثانية

في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"[رواه أحمد عن أنس بن مالك].

حديث من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، يقرر الترابط والتفاعل القائم في الإنسان بين عناصر ثلاثة يؤثر بعضها في بعض.

فالإيمان لا يصح ويستقيم حتى يستقيم القلب على اليقين والصدق والإخلاص وذلك غذاء الإيمان.

والقلب لا يستقيم على الصحة والسلامة من أمراض الأهواء والزيغ حتى يستقيم اللسان، وهو ترجمان القلب ينبض بما ينطوي عليه، فيعود عليه بالتأثير سلبا أو إيجابا.

ويشهد الواقع أنه إذا صلح لسان المرء عرف ذلك في سائر عمله، وإذا فسد لسانه تجلى ذلك في تصرفاته وأحواله.

وهكذا يكون اللسان شاهدا على صاحبه في قلبه وإيمانه وكل مظاهر شخصيته.

لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده

فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

فانظروا رحمكم الله إلى هذا المعنى السديد، والمغزى الرشيد، الذي يتبين منه أن الطريق الأسلم والأقوم لحفظ الدين والإيمان والمروءته، وصفاء العلاقات مع الناس، هو أن يتعهد المسلم لسانه بالمراقبة والمحاسبة والتسديد، فلا يقول إلا خيرا، فإن الله تعالى لا يرضى كلام السوء: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) [النساء:148].

ولا خير في كلام لا نفع فيه لدين المرء ولا لدنياه: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء:114].

وحسبنا من خطورة اللسان ومسؤولية الكلام وعواقبه، ما أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام في وصيته الثمينة لمعاذ بن جبل حيث بين له أبواب الخير، ورأس الأمر في الإسلام، ثم قال: ".. ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه، وقال: كف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"[الترمذي وصححه الألباني].

فمن كان يرجو الحياة الكريمة الطيبة في الدنيا، راضيا مرضيا بين الناس، فقائده لسانه بينهم إذا طيب حديثه وصانه عن الآفات الكلامية، ونزهه عن السفاسف والدنايا، وألجمه بالصمت إلا عن قول الحق وممارسة التوجيه والإرشاد والصلح والإصلاح.

ومن كان يرجو الآخرة فليراقب لسانه بوازع التقوى والإشفاق من عواقب يوم القيامة، يوم يعرض كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

فليعمل على تزكيته ومراقبته ومحاسبته، منشغلا بذكر الله تعالى وما فيه خيره وخير الناس، داعيا إلى الله تعالى، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر.

ولتكن أسوته الحسنة في الأنبياء والمرسلين والصالحين؛ الذين كلامهم عبادة، وصمتهم عبادة، فإن نطقوا فبما يرضي الله جل وعلا، وإن سكتوا فهم في تأمل وتدبر في آيات خلقه، فطوبى لهم وحسن مآب: (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّين وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء:69].

جعلني الله وإياكم منهم ومعهم في رضا الله تعالى ورضوانه، وفردوس جناته، إنه حليم كريم.