الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
وهي الزيادة التي وعد الله بها المحسنين بقوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس:26]. أيها الإخوة: إن من آثار محبتنا للعاجلة وتركنا للآخرة -إضافة إلى تفريطنا فيما أوجب الله علينا، ووقوعنا في شيء مما نهينا عنه- أنْ غاب عنا جانب الاحتساب في أعمالنا، موظفين أو أصحاب أعمال حرة، فتحولت كثير من علاقاتنا إلى علاقات مادية، فالعمل على قدر ما يقبضه من أجر، وعسى أن نخرج...
أما بعد: فما أشد غفلتنا عما خلقنا له! وما أشد حرصنا على رزق مكتوب لنا في أجل معدود علينا!.
حقيقةٌ بيَّنَها الله تعالى في سورة اسمها يعظ القلوب، وآياتها تنير الدروب.
بيّن الله من حقائق الإنسان في سورة القيامة حقيقة قد يزعم الإنسان في نفسه خلافها، ويدعى أنه لم يتصف بها، بل ربما قال: إن المعنيَّ غيري، والمخاطب أناسٌ لست منهم وإن كانوا من بني جنسي!.
فاستمع: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ) [القيامة:20-21]. طبع فيك يا ابن آدم! خُلِقْتَ مِن عجل، وتسعى لتحصيل الحظ العاجل، لا صبر لك!.
حريص على أن تدرك مراداتك، وإن زاحمت آخرتك! وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "ولكنكم تستعجلون".
لقد كان من محبة العاجلة أنْ تركْنا الآخرة، (وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ). فكيف تركناها؟.
لقد تركنا أو ضعفنا للعمل لها والسعي للفوز فيها والحرص على حرثها، وزرع الباقيات الصالحات التي تسعد إذا لقيتها؛ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) [الشورى:20].
أيها الإخوة: إن من آثار محبتنا للعاجلة وتركنا للآخرة -إضافة إلى تفريطنا فيما أوجب الله علينا، ووقوعنا في شيء مما نهينا عنه- أنْ غاب عنا جانب الاحتساب في أعمالنا، موظفين أو أصحاب أعمال حرة، فتحولت كثير من علاقاتنا إلى علاقات مادية، فالعمل على قدر ما يقبضه من أجر، وعسى أن نخرج منها كفافاً!.
ومن آثار ذلك أن احتفظت النفوس بحقها؛ فغضّ الطرف، والتسامح، والتغافل عن الهفوات، وكظم الغيظ، أحوالٌ انمحت، وأخبار طُوِيَت من حياة الناس.
فما إن يشعر الإنسان بنقص يلحقه إلا وينقلب أسداً كاسراً، ووحشاً متوثباً! أليست هذه من آثار محبة العاجلة؟ فأين انتظار ما عند الله؟ (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ) [النحل:96].
بلى والله! وإلا فلو كان للآخرة ميزان قائم في النفوس لأدركت أن ما يفوتها في الدنيا تظفر به أوفر ما يكون يوم القيامة، فتتعلق القلوب بعلام الغيوب؛ فيهون على المريض مرضه، وتخف على الفقير وطأة فقره، ويتسلى المحروم من نعمة الزوجة أو الولد عما فاته، كُلٌّ يؤثر الآخرة، بعد أن أدركوا أن الآخرة خير وأبقى.
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصير فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء؟ فقال: "ما لي ولَلدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرة ثم راح وتركها" رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
ثم بعد أنْ بين الله محبة الإنسان للعاجلة على الآخرة قسم الناس حين يقدمون على ربهم إلى قسمين لا ثالث لهما: إلى أصحاب وجوه ناضرة، وأصحاب وجوه باسرة.
أما أصحاب الوجوه الناضرة فهم الذين آثروا الآخرة وسعوا لها سعيها، فحسنت وجوههم، فهي نضرة نيرة.
والوجه -أيها الإخوة- إنما يستنير حينما يستنير القلب وينعم، وحينما تبتهج النفس وتلتذّ الروح وتسلم؛ فيبلغ من نعيمها أن يقرأ على صفحات وجهها السرور، وترتسم على محياه قسمات الرضا.
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ) [الغاشية:8-9]، (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين:22-24].
فهي مسفرة انزاح عنها همُّ الدنيا، ضاحكة ترتقب كل خير في حياتها الأخرى، أدركوا أنهم ناجون ولهم الدرجات العلى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر:34].
ثم توَّج الله نعيمَهم, وأتم فضله عليهم فقال: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)؛ فيا قرة عيون الأبرار حينما تسعد بالنظر إلى وجه الكريم الغفار! وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا نالها أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم.
فرؤية الله من أجلّ مسائل الاعتقاد، تضافرت على إثباتها دلائل الكتاب والسنة، وأجمع عليها الموفقون من أهل الملة؛ فالمؤمنون يرون ربهم عيانا لا يضامون في رؤيته، كما لا يضامون في رؤية الشمس والقمر.
وهي الزيادة التي وعد الله بها المحسنين بقوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس:26]؛ روى مسلمٌ في صحيحه عن صهيب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله -تبارك وتعالى-: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيِّضْ وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجينا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم -عز وجل-، ثم تلا هذه الآية: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ).
وقال الإمام الشافعي: في قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين:15]، وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه -عز وجل- يومئذ، ووجه ذلك أنه لما حُجب أعداؤه عن رؤيته في حال السخط دل على أن أولياءه يرونه في حال الرضا، وإلا لو كان الكل لا يرى الله تعالى، لما كان في عقوبة الكافرين بالحجب فائدة، إذ الكل محجوب.
وفي مقابل هؤلاء الذين آثروا العاجلة فنسوا حظاَ مما ذكروا به فعاشوا هذه الدنيا عيشة البهائم يطلبون مستلذاتها، فابحث عنهم عند ملاذ المشارب والمطاعم، أترفوا أنفسهم فهم عبيد للزوجات والمساكن والمراكب، (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس:7-8].
فوجوه هؤلاء باسرة عابسة متكدرة، تغشاها قَتَرة، فهي سوداء مظلمة أيست من كل خير، وأدركت كل شر؛ تظن أن يفعل بها فاقرة، أي: أيقنت بالعقوبة الشديدة، فتغيرت لذلك وجوهها، فهي خاشعة ذليلة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله... كان الحديث عن أصحاب الوجوه الناضرة وكيف أكرمها الله برؤيته كما دلَّ على ذلك كتاب الله تعالى، وتواترت بذلك السنة عن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ومن جملة تلك الأحاديث: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن ناساً قالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل تضامون في رؤية القمر ليلة البدر؟"، قالوا: لا، يا رسول الله، قال: "هل تضامون في الشمس ليس دونها سحاب؟" قالوا: لا، يا رسول الله، قال: "فإنكم ترونه كذلك" رواه مسلم.
ومعنى " تضامون"، أي: لا يزاحم بعضكم بعضا، أو يلحق بعضكم الضرر ببعض بسبب الرؤية.
وتشبيه رؤية الباري برؤية الشمس والقمر، ليس تشبيها للمرئي بالمرئي، وإنما تشبيه الرؤية في وضوحها وجلائها برؤية العباد الشمس والقمر إذ يرونهما من غير مزاحمة ولا ضرر.
حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" متفق عليه.
ينظرون إلى ربهم -عز وجل- في العرصات، وفي روضات الجنات، على حسب أعمالهم ومراتبهم.
وروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر إلى أزواجه وخدمه، وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين".
ثم قف معي -عبد الله- مع حديث في الصحيحين، عن جرير قال: نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر! فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا".
أجل؛ صلاة قبل طلوع الشمس وأخرى قبل غروبها، إنهما البردان، و"مَن صلَّى البردين دخل الجنة"، والبردان: الفجر والعصر.
فهل بقيت لذة في السهر وهو يفوّتك صلاة قبل طلوع الشمس؟ فأدركوا أنفسكم يا أصحاب إضاعة الليالي في سهرات الاجتماعات والاستراحات.
وإنَّ أهل الفجر في ذمة الله تعالى وجواره, فما ظنكم بمن كان في جوار الله تعالى, وأنتم ترون الناس يطمئنون ويأمنون أشد الأمن حين يكون أحدهم في جوار عظيم من عظماء الدنيا, فلَمَن كان في جوار الله لَهُو أشد أمانًا واطمئنانًا.
ففي صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد الله -رضي الله عنه- أن النبي قال: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله, فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء, فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه, ثم يكبه على وجهه في نار جهنم".
ولا حجة بقصر الليل في أن تقام صلاة الفجر وفي المسجد الثلاثة والأربعة وبقية جيران المسجد الذين أصحهم الله في أبدانهم، وآمنهم في بيوتهم، يكاد يسمع شخيرهم من بيوتهم كشخير العير.
فإن زعموا أن الليل بدأ يقصر فإن العمر أقصر! فلا تزد من قصره بتفريط في واجبٍ هو أول ما تسأل عنه يوم القيامة، وهو واجب الصلاة، ركن الدين.
وأنتم، أيها الموظفون ومعاشر الطلبة، يا من يتعبهم دوام الصيف، خذوا حذركم لصلاة عصركم، ولا يغلبنكم عليها نوم ولا كسل، فالأمر جد، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
فاللهم أعنا على ذكرك...