المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
والمعروف أن المجتمع الإسلامي مجتمع فكرة، أي إنه ينهض على دين ويحيا به ويحاكم الآخرين عليه، ومعنى هذا أن الصبغة الإسلامية يجب أن تسود الأمر والنهي، ويجب أن تتضح في المدرسة، وفي المحكمة، وفي التقاليد، وفي القيم، وفي الشارع، وفي البيت، وفي علاقات الجوار، وفي الملابس، كل ما تتكون منه البيئة أو ينشأ المجتمع من تراكمه ومن تجمعه يتدخل الإسلام فيه؛ لأنه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
فقد وصلنا في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم إلى سورة النساء، وألقينا نظرة عاجلة -ولكنها واعية- على هذه السورة الكريمة، وبيَّنا أن بِنْيَة هذه السورة تتكون من خمسة عناصر:
العنصر الأول والثاني: حديث عن الأسرة المسلمة وقضاياها وهداية الله في شأنها، ثم حديث عن أهل الكتاب، أولاً: حديث عن اليهود استعرض المآسي الخلقية والاجتماعية التي شاعت فيهم واستفاضت بينهم.
ثانيًا: حديث عن النصارى استعرض المتناقضات في العقيدة التي أذهبت لُبّهم، وحيّرت شعبهم.
العنصر الثالث والرابع والخامس: ثم حديث عن المنافقين الذين ضعفت شخصيتهم، وتذبذبت وجهتهم، فلم يحسنوا أن ينضموا إلى إحدى الطائفتين فيكشفوا عن إيمان صريح أو كفر صريح، ثم حديث عن المؤمنين الضعاف الذين لم يقو الإيمان في أفئدتهم، ولم يهيمن هيمنة وثيقة على مسالكهم وتصرفاتهم، فشاع فيها بعض الخلل وكان منها لهذا المجتمع ضعف ووهن، ثم حديث عن الحكم بما أنزل الله والجهاد في سبيل الله.
هذه العناصر -بداهةً- لم تقسم تقسيمًا فنيًّا على أجزاء السورة، فإن القرآن الكريم لا يعرف هذه التقسيمات العلمية المحدثة، وإنما كان الحديث عن هذه العناصر جميعًا ملتحمًا بعضه مع البعض الآخر، وربما تماسك السياق في السورة كلها فرأينا حديثًا عن الأسرة يتخلل حديثًا عن هذه الطوائف.
وقد سألني بعض الإخوة المتابعين قال: إننا ألفنا في التفسير الموضوعي أن نعرف المحور الذي تدور عليه السورة، وقد كشف فيما تناولنا من سور سابقة، فما المحور الذي تدور عليه سورة النساء؟!
والجواب: أن هذه السورة -باتفاق المسلمين- نزلت في المدينة المنورة، والوحي النازل في المدينة المنورة يتجه غالبًا إلى المجتمع الإسلامي يُرسي دعائمه ويبيّن معالمه، وذلك على عكس ما نعرف في الاتجاه المكي من تناول النفس الإنسانية وغرس الإيمان في أعماقها، وبنائها على المنافحة والمجالدة وتحمل الأذى في سبيل الله، حتى يمكن أن ينهض هذا البناء المؤمن في وجه العقبات الكثيرة التي تعترضه.
أما في المدينة المنورة -بعد أن تكوَّن للمسلمين مجتمع- فإن اتجاه الوحي في السور المدنية إلى دعم هذا المجتمع وإرساء القواعد التي ينهض عليها وتوضيح المعالم التي لابد أن يصطبغ بها، وأن تظهر فيها خصائص الأمة الجديدة، وسورة النساء -من هذه الناحية- تقوم على دعم المجتمع الإسلامي وحياطته وتبيين وسيلته وغايته.
ولما كانت الأسرة أساس كل مجتمع صالح كان لابد أن تتحدث السورة في صفحات طوال -في نحو ست صفحات- عن الأسرة وقضاياها، ثم لمّا كانت الأمة في المدينة تتكون من طوائف كثيرة -من يهود ونصارى ومنافقين ومؤمنين ضعفاء يحتاجون إلى تقوية-، بيّنت السورة هنا ما يجب على الأمة الإسلامية بإزاء هذه النزعات الموجودة خلالها.
سورة النساء وضَّحت نظام الأسرة توضيحًا ينطوي على كثير مما لابد من بيانه وكشفه؛ لأنه خالف ما كان شائعًا بين الناس، كتابيين وغير كتابيين، فالإسلام -في بناء الأسرة- استحب الزواج وأباحه ويسّره، وهو يفعل ذلك لأمرين:
أولاً: لأنه يريد أن تبقى مواكب الإنسانية موصولة السعي والنشاط على ظهر الأرض، ولا يوجد طريق محترم لبقاء الإنسانية ممتدة على مر السنين إلا الزواج.
ثانيًا: لأن بناء الأسرة يقوم على التراحم والسكينة النفسية؛ ولذلك فإن الغريزة الجنسية -في نظر الإسلام- ليست رجسًا من عمل الشيطان، وليس سحقها هدفًا له، وإنما الاعتراف بها جزء من منطق الفطرة التي هي الصفة الأولى في الإسلام.
فكر بعض الناس -من عند أنفسهم لا من عند الله- أن يحرموا الزواج، وأن يجعلوا هذه الغريزة نفثة شيطان، فماذا جنت الإنسانية من ذلك التفكير القاصر؟! جنت الإنسانية من ذلك عوجًا في السيرة واضطرابًا في السريرة؛ حتى إن العقلاء في أوروبا -لما رأوا أن الرهبنة لن تنتج إلا الفساد في الظلام وإلا أن الغريزة تسللت كي تنفِّس عن نفسها إلى أنواع شاذة من السلوك- رأوا تحريم الرهبانية بعد تجارب خمسة عشر قرنًا من الاضطراب والخلل!! الإسلام جنبنا هذا كله، وأراحنا من تجارب بائسة ومن آلام مُرة، وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الزواج سنته وسنة المرسلين من قبله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً).
وعندما حاول بعض أصحابه الغلو وأرادوا أن ينشئوا ألوانًا من العبادة تتجاوب مع هذا الجماح قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
الحقيقة أن الإسلام اعترف بالغريزة الجنسية وبنى لها السلوك الوحيد الذي يقبله، قال: هذه الغريزة تحبس إلا في بيت الزوجية، هذه الغريزة تقيَّد إلا مع الحلال الطيب: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)، يعني المعتدين.
وكما تحدثت سورة النساء عن الزواج تحدثت عن الطلاق، وقد قال العلماء فيه -وهو رأي علمي دقيق لكثير من المؤلفين المسلمين-: إن الأصل في الطلاق الحظر لقوله -جل شأنه- في هذه السورة: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا).
أي ما دامت المرأة مطيعة فإن الإساءة إليها جريمة، ولا معنى لهذه الإساءة، ثم إذا حدث أن تغيرت العاطفة فإن الرجل ينبغي أن يتهم نفسه كما أمر الله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا).
ولذلك ورد أن رجلاً ذهب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقال له: أريد أن أطلق امرأتي، قال له: لِمَ؟! قال: لا أحبها. قال له: "ويحك، أوكل البيوت بُني على الحب؟! فأين التذمم والوفاء؟!".
أين العهود والأخلاق والحياء والوفاء؟! إن الإنسان ينبغي أن يكون في هذا تقيًّا. وقد ورد أن أبا أيوب -رضي الله عنه- طلق امرأته فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن طلاق أم أيوب كان حوبًا". أي إثمًا.
والقصد من هذا أن الإسلام يريد فعلاً أن تُبنى البيوت على أنها محاضن، ليست فقط متتفسًا للغريزة الجنسية في جو طهور مقبول، ولكنها أيضًا محاضن، أي مدرسة كبيرة يربى فيها الولد -ابنًا كان أو بنتًا- تربية دينية تجعل مستقبله ينشأ في كفالة الله وتعاليمه، يتعلم في البيت الصلاة، يتعلم في البيت الاستئذان، يتعلم في البيت ستر العورات وعدم الهجوم عليها، يتعلم في البيت الكثير مما لابد أن يتعلمه.
وتحدثت سورة النساء عن المواريث، وكانت المواريث إما مضطربة في جزيرة العرب، أو ليست هناك تعاليم محددة تتصل بها في الديانات الكتابية الأخرى، فجاء الإسلام وكذب العرب في حرمانهم المرأة من الميراث وقال في حسم: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا).
وفرض الإسلام المواريث نظامًا اجتماعيًّا لو دُرس لعرف أنه يكفل جو الأسرة من سلف لخلف، ويشيع الطمأنينة بين الآباء والأبناء، وفي الوقت نفسه فإنه جزء من النظام الكوني في المواريث.
إن الشيوعيين يرفضون قضية الميراث ويقولون: ما يجوز توريث مال، وهم في هذا يكذبون على سنن الله الكونية، لِمَ؟! لأن سنن الله الكونية تورث الإنسان طوعًا أو كرهًا ما هو أخطر من المال، تورثه الذكاء أو الغباء، تورثه الوسامة أو الدمامة، تورثه الطول أو القصر، تورثه المزاج الهادئ أو المزاج العنيف.
إن المواريث المادية في الجسم، والأدبية والفكرية، تنتقل من الآباء والأمهات إلى الأولاد، والأموال التي تورث وفق هذا النظام الكوني ليست إلا جزءًا قليلاً مما فرض على الناس أن يرثوه، وإذا أردنا منع المواريث فلنمنع ميراث الأخلاق وميراث الطباع، وهذا مستحيل.
وتقسيم المواريث في الإسلام انفرد المولى -سبحانه وتعالى- به وقال -مذيلاً آية المواريث-: (آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا). فعلمه وحكمته أساس في التوريث، وقد ختمت آيات المواريث بقول الله -جل شأنه-: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ).
وبعض الناس يعود إلى الجاهلية الأولى يريد أن يحرم البنات من المواريث، وهذا جهل وتضليل ويدخل حتمًا في الوعيد الإلهي: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ).
وقد جاء في السنة: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته، فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة".
وجاء في السنة أيضًا عن النعمان بن بشير قال: "انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: اشهد أني قد نحلت النعمان كذا وكذا من مالي، فقال: "أكل بنيك قد نحلت مثل ما نحلت النعمان؟!". قال: لا. قال: "فأَشْهِدْ على هذا غيري". ثم قال: "أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء"، قال: بلى. قال: "فلا إذًا".
لكن قال الفقهاء: إن بعض الأولاد قد تزوجه في حياتك، فإذا أعطيت البعض الآخر –وصيةً- ما يسوي بينه وبين من تزوج فلا جور في هذا، فهذه تسوية وليست تمييزًا، وإذا علّمت ولدًا على حساب الآخر فأعطيت من جهل زيادة فلا حرج في هذا، فأنت بهذا تسوي ولا تفاوت.
والمجتمع قاضٍ أمين على هذا، فإن كانت الوصية جورًا وجب رفضها، وإن كانت عدلاً وجب إمضاؤها، وفي قلب كل مسلم يؤمن بالله ما يجعله يدرك أين يضع قدمه، وكيف يعامل ولده.
هذا المعنى من معاني الإسلام حُدِّد في سورة النساء بدقة.
ما بدأت به سورة النساء من حديث عن الأسرة نحن نمر به على عجل كأننا في قاطرة، نرقب بسرعة -وهي تمشي بنا- معالم الجانبين.
الطوائف التي يتكون منها المجتمع لابد من معالجتها، وسورة النساء -كما قلت- تدور على محور، ومحورها الذي تدور عليه هو إرساء قواعد المجتمع، وتبيين معالمه.
والمعروف أن المجتمع الإسلامي مجتمع فكرة، أي إنه ينهض على دين ويحيا به ويحاكم الآخرين عليه، ومعنى هذا أن الصبغة الإسلامية يجب أن تسود الأمر والنهي، ويجب أن تتضح في المدرسة، وفي المحكمة، وفي التقاليد، وفي القيم، وفي الشارع، وفي البيت، وفي علاقات الجوار، وفي الملابس، كل ما تتكون منه البيئة أو ينشأ المجتمع من تراكمه ومن تجمعه يتدخل الإسلام فيه؛ لأنه -كما قلنا- دين ينهض على فكرة، والفكرة التي ينهض عليها واضحة.
هذا دين يقوم على أن الله واحد، وأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- نبيه، وأن الإله الواحد أنزل كتابًا ينبغي أن يؤتمر بأمره وينهى بنهيه، وأن النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- جاء بتطبيق عملي ينبغي أن نتأسى به في هذا الميدان. ولما كان المجتمع قائمًا على الفكرة فإن قيامه على الفكرة بدأ يغزُّ المنتسبين إليه زورًا، وذلك أن ناسًا ما كان عليهم من بأس أن يزعموا الإسلام، لكن كيف نسلم لهم زعمهم إذا كان هذا الدين عبادة ومعاملة وعقيدة وشريعة وإيمانًا ونظامًا؟!
هنا بدأت طبيعة الإسلام تكشف المنافقين: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا)، إذًا هؤلاء -الذين يكرهون الاحتكام إلى الله وشرعه- إيمانهم زعم وليس حقًّا.
هؤلاء الذين يضيقون بالفكرة الإسلامية ويريدون محوها ويريدون أن يناوشوا هذا المجتمع ليأتوا على قواعده؛ هؤلاء يجب أن يُردعوا، ومن حق هذا المجتمع أن يدافع عن نفسه وأن يستنقذ المستضعفين الذين وقعوا في براثن الفتانين من الأقوياء، ولذلك أمر بالقتال: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا)، إذًا لابد من قتال، لابد من جهاد تكوَّن أجهزته وتُهيَّأ عدته. المنافقون -بداهةً يرفضون هذا، ويضيقون به، ويريدون أن يفروا، إنهم يفرون من الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو إمام في المسجد يصلي بالناس؛ لأنهم -كما وصفتهم السورة-: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا).
فإذا كانوا يفرون منه -وهو إمام في المسجد- فهل يثبتون معه وهو رئيس دولة يأمر بالجهاد؟!
إنهم –بداهةً- يريدون أن يفروا من أعباء القتال ومن مغارم بذل النفس والمال، وهنا يقال للمسلمين: قاطعوا أولئك المنافقين وابتعدوا عنهم، احذروا أن تنقسموا في معاملتهم: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا).
السورة تبني مجتمعًا يعيش بخلق معين ولهدف معين، فمن خرج على هذا الخلق فهو خصم للمجتمع، ومن تنكَّر لهذا الهدف فهو خصم للمجتمع، ولذلك فإن الذين أرادوا المداهنة وأرادوا أن يعيشوا معيشة مزدوجة الشخصية قيل لهم: لستم مؤمنين: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا).
هناك أيضًا ضعفاء الإيمان، ما هو الإيمان؟! تكبير الكبير وتصغير الصغير، إحقاق الحق وإبطال الباطل، إنزال العالم منزلته، سؤال أهل الذكر، الرجوع إلى الاختصاصيين فيما ينبغي أن يرجع إليهم فيه.
لكن ضعفاء الإيمان لا يحسنون العمل؛ فإنهم يطيرون هنا وهناك دون أن يربط على قلوبهم إيمان راسخ، ودون أن يوجه مسلكهم عقل راشد، ولذلك وصف الله هؤلاء بأنهم طيّاشون: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ).
للقتال قضاياه وللسلم قضاياه، وينبغي أن يستفتى في كل قضية من هو قدير على النظر فيها وإبداء الرأي؛ قال تعالى -في وصف هؤلاء الذين لا يحسنون الاستفتاء والرجوع إلى أهل الذكر في حل المشكلات-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا).
وأولو الأمر هنا ليسوا الحكام وإنما هم أهل الذكر الذين قال الله فيهم: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
الأسرة في المجتمع الإسلامي الآن -وإن كانت أشرف وأنظف من أسر الغرب بيقين- فهي لم تبلغ الذروة أو المستوى الذي رسمه الإسلام لها.
لا شك أننا الآن خير من أوروبا في نظامنا الاجتماعي، وإن كان هناك ما يُتعبنا فهو الرشح النجس الذي يجيئنا من الفوضى الجنسية التي تبناها بعض الإذاعيين والصحافيين. هذا هو الذي يهدد الأسرة عندنا، وهو تهديد خطر لأن الرجل قد يكون مقصور النظر على أسرته سعيدًا بزوجته، ولكن في مجتمع متهتك متبرج تُعرض فيه النساء على النحو الذي قال فيه الرافعي: "يا لحوم البحر سلخك من ثيابك جزار"، عندما تُعرض صورة النساء على هذا النحو فإن الرجل قد يزهد في امرأته؛ لأن امرأته في البيت -خادمته- تطبخ له، تكنس له، تصنع الكثير له، فهي ليست باستمرار متبرجة له، لكن الشارع مليء بالمتسكعات المتبرجات لغير سبب إلا الإثارة، وهذا نضْح من أوروبا وسَّخَ مجتمعنا وهدد الأسرة فيه، وأصحاب الغيرة الحقيقية على الأسرة يكرهون هذا التهتك الوارد من أوروبا.
النظام الإسلامي نظام فطري مشرّف، احترم الغريزة ورباها في بيت سُمي بيت الطاعة.
الإسلام احترم الغريزة واحتفى بها في مجالها الصحيح، وفي هذا يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "وفي بُضع أحدكم صدقة"، ويقول: "إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي".
ويقول: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي". أي لامرأته.
أهذا الإسلام يعاب على موقفه من المرأة؟!
إذا مـحاسني الـلاتي أُدلُّ بها | كانت عيوبًا فقل لي كيف أعتذر؟! |
سورة النساء تحدثت عن الأسرة لأنه يجب أن يُبنى المجتمع أولاً على البيت، وفي البيت يُربى الأولاد على العفة والشرف والصدق؛ يقول عبد الرحمن بن عامر -رضي الله تعالى عنه-: "دعتني أمي يومًا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد في بيتنا فقالت: ها تعالَ أعطيك، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما أردت أن تعطيه؟!"، قالت: أعطيه تمرًا، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمَا إنك لو لم تعطِه شيئا كُتبت عليك كذبة".
بعد تنظيم البيت في سورة النساء كشفت السورة سوءات المنافقين وبيّنت مواقفهم؛ لأن النفاق سرطان للأمم؛ ولأن الدولة تقوم على مبدأ لا يعكر صفوها ولا يعرقل سيرها إلا الذين يريدون المداهنة في هذا المبدأ، وقد عُلّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكون صريحًا في عرض الإسلام ومحاكمة أتباعه إليه ومحاكمة الآخرين إليه، فقال الله له: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).
المداهنة لا يمكن قبولها في الإسلام، ولذلك فإننا نرى سورة النساء حاربت النفاق بقوة، والذي كشف المنافقين الحكم بما أنزل الله وقتال أعداء الله، وهذان أيضًا هما اللذان كشفا ضعفاء المؤمنين.
أما صلة السورة بأهل الكتاب من يهود ونصارى فلنا فيها موقف آخر إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ). وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدًا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فقد أثار انتباهي صياح بعض الطلاب بكلمة احتاجت إلى تعقيب من رئيس الدولة، وتحتاج إلى تعقيب منا؛ قال بعض الطلاب: لا حرية لأعداء الشعب. وقال رئيس الدولة –مشكورًا-: نعم لا حرية ولكن في حدود القانون. ونحن نستقبل هذه الكلمة بشيء من التأمل فيها وفي بواعثها، فإن كلمة "الشعب" وباسم "الشعب" وأعداء "الشعب" ومن أجل "الشعب" كلمة تكررت كثيرًا في حياة الأمم شرقًا وغربًا في القارات كلها قديمًا وحديثًا، ثم بدا لي وأنا أستعرض هذه الكلمة أنها -أحيانًا كثيرة- تكون غطاءً خسيسًا بالغ الخسَّة لأهواء بعض الناس ونزواتهم، كأنه إذا رأى شابٌّ فتاةً أراد أن يفسق فيها قال: باسم الشعب يجب أن تكون هذه الفتاة لي!! باسم الشعب؟! ما علاقة الشعب بهذا؟! لو أراد إنسان مصاب بجنون العظمة أن ينفّس عن هذه الغريزة في دمه المليء بالأحقاد والطمع على غير مؤهلات وعلى غير خصائص نفسية وثب إلى الحكم ثم قال: باسم الشعب أنا أحكم!! أي شعب؟! هذا أمر غريب، قديمًا كانت هناك خلافة اسمية؛ قال الشاعر في الخليفة الغلبان:
وتُؤخذ باسمه الدنيا جميعًا | وما من ذاك شيء في يديه |
فباسم الشعب يؤكل الشعب، وباسم الشعب يظلم الشعب، وباسم الشعب تُجتاح حقوق الشعب، وباسم الشعب نجد عصابة من الناس حرمهم الله المواهب الأدبية التي تؤهل للقيادة، وحرمهم المواهب الخلقية التي تجعل صاحبها جديرًا بالتقدير، تتسلط على المجتمع وتقول: باسم الشعب! وهي تسحق الشعب.
إن الشيوعيين -في بلدنا هذا وخلال مدة طويلة- أحدثوا جلبة غريبة في بعض المؤتمرات، وأخذوا يتحدثون عن الشعب وكأنهم أوصياء عليه، والله تعالى يعلم والعالم كله يدري أن جميع هؤلاء الشيوعيين لو حوكموا إلى انتخابات حرة في بلدهم لنفض الشعب يديه كلتيهما منهم ومن أخلاقهم ومن أنظمتهم التي ما وجد في ظلها إلا الجوع والخوف.
قال أحد الأدباء: دخل لص بيتًا، فلما اطمأن له المقام جلس، فإذا رب البيت يطرق الباب ليدخل، فقال اللص بجرأة غريبة: من هناك؟! عجبًا! لص يسأل صاحب البيت من الداخل؟!
هؤلاء الذين يتحدثون عن الشعب لصوص، نحن أمة تؤمن بربها، نحن أمة تؤمن بقرآنها، نحن أمة ترفض رفضًا حاسمًا كل ذرة إلحاد تحاول التسلل إلى مجتمعها، فبأي حق يجيء بعض العيال ليقول: باسم الشعب نريد نشر الكفر؟! أي شعب؟! من الذي جعلكم تتحدثون باسم شعبنا المؤمن؟!
إنني أهيب بالمؤمنين أن يكونوا أيقاظًا، فإن هناك إلحادًا يحاول تزوير إرادة الشعب.
شعبنا المؤمن الطيب يوم تمكّن من أن يقاتل باسم الله انتصر، ويوم حرم من أن يقول: باسم الله، يوم حُرِم من أن يكون مؤمنًا يترجم عن إيمانه في طمأنينة كانت النتيجة أن الصيّاحين باسم الشعب خدموا إسرائيل أكثر مما خدمها "موسى ديان".
إن رئيس الدولة رفض أن يقبل هذا وقال: الحرية للكل في حدود القانون.
والله ما داس القانون إلا هؤلاء الذين يريدون باسم الشعب أن يكفروا بالله ورسله واليوم الآخر وكل مسلك نبيل في هذه الدنيا.
يجب أن يستيقظ المؤمنون وأن يعرفوا أن المتاجرة باسم الشعب قد انكشفت عصابتها، والآن مراكز القوى في السجن، ليكن، لكنْ هناك كثيرون تربوا على أيديهم واستمعوا منهم ولا يزالون يعيثون في مجتمعنا فسادًا.
قيل لي في أحد البلاد: أنسمح للشيوعيين أن يقولوا ما عندهم؟! قلت: نحن المؤمنين أصحاب حق، وصاحب الحق لديه ألف دليل، لكن يحزنني أن يكون هناك كتاب شيوعي منشور، وكتابي في الرد عليه غير موجود.
عندما يلتقي الحق والباطل في هذا المجتمع فإن الحق -بما وضع الله في معدنه من صلابة وبأس- سوف يسحق شبهات الباطل: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ)، لكن انفراد هذه الكتب بالسوق ما يجوز، إننا ما نخاف الشيوعية، إنما نخاف سرقة إرادة الأمة، نخاف اغتصاب مشيئة هذا الجمهور الطيب والزعم بأنه يريد الكفر، وهو مؤمن.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
أقم الصلاة.
نظرات في سورة النساء (1) العناصر الخمسة التي تتكون منها سورة النساء