العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - أهل السنة والجماعة |
أجمع أهل العلم قاطبة أنَّ مَن أنكر الاحتجاج بالسنة النبوية، أو كذَّبَ حديثاً من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-, أو اعترض عليه, أو رآه مُخالفاً للذوق والحضارة, وهو يعلم أنه من كلامِه -صلى الله عليه وسلم-، فهو كافرٌ خارجٌ عن دين الإسلام. قال البربهاري -رحمه الله-: وإذا سمعتَ الرجلَ يطعن على الآثار, أو يرد الآثارَ, أو يريد غير الآثار، فاتَّهِمْه على الإسلام، ولا ....
الحمد لله الذي شرَّفنا بنبيٍّ هو خاتَمُ الأنبياء, الذي اصطفاه الله وجعله خيرَ الأصفياء, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, المتفرِّدُ بالعظمة والألوهيَّةِ والكبرياء, فاسْتحقَّ لذلك الحمدَ والتعظيمَ والثناء, وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُه ورسولُه، محبَّتُه في قلوبنا تفوقُ محبةَ الأولادِ والأقرباء, وتعظيمُه في صدورنا أشدُّ من تعظيمِ سائر الأولياء والأنبياء، وتنقُّصه والردُّ عليه أعظمُ عندنا من تقطيعِ الأشلاء, صلى الله عليه, وعلى آله وأصحابه الْمُتَّبعين لِهَدْيِهِ, الآخذين بما جاء، وسلم تسليماً كثيراً إلى أنْ يرث الله الأرضَ والسماء.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون-،واعلموا أنَّ الله –تعالى- حفظ للسُّنَّة النبويَّةِ مكانها، وأوجب على العباد حبَّها واتِّبَاعَها، وقيَّض لها على مرِّ العصور والدهور رجالها وأنصارها، الذين تعلَّموها وعملوا بها ودعوا إليها، فكانوا أحقَّ بها وأهلها.
وقد رسم أئمةُ الحديث منهجاً عِلْميًّا متميزاً, في ضبط أصول الرواية, وتقعيد قواعدها، فحفظوها بفضل الله –تعالى- من العبث والتحريف، فهم المرجع الذي يُرجع إليه في معرفة الصحيح من الضعيف.
والله-تعالى- أرسل رسوله -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة, ليُخرِجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم، وأوجب عليهم طاعتَه ومحبتَه وتوقيرَه, وحذَّرهم من رفعِ الصوت عليه والتقدُّمِ بين يديه.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فَإِذَا كَانَ رَفْعُ أَصْوَاتِهِمْ فَوْقَ صَوْتِهِ سَبَبًا لِحُبُوطِ أَعْمَالِهِمْ, فَكَيْف تَقْدِيمُ آرَائِهِمْ وَعُقُولِهِمْ, وَأَذْوَاقِهِمْ وَسِيَاسَاتِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ, عَلَى مَا جَاءَ بِهِ وَرَفْعُهَا عَلَيْهِ؟, أَلَيْسَ هَذَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُحْبِطًا لِأَعْمَالِهِمْ؟" [أعلام الموقعين 1/54].
ولن نكون مؤمنين صادقين, إلا إذا كان أحبَّ إلينا حتى مِن أنفسنا, قَالَ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ, حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"[رواه البخاري (15), ومسلم (177)].
وقد أخذ بهذا أصحابُه -رِضْوانُ الله عليهم-، وساروا عليه، فكانوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُحبِّين طائعين، وكانت سُنتُه وأقولُه مُقدَّمةً عندهم على كلِّ شيء.
كانوا عن السُنة منافحين، ولها ذابِّين وحامين، فإذا رأوا أحدًا يعارضها أو يستهزئ بشيءٍ منها -قصدًا منه أو بغير قصد- ردُّوا عليه وزجروه، فإنْ لم ينته عن ذلك هجروه.
وبذلك صانوا السُّنةَ من عبَثِ العابثين, وكَذِبِ وفُجورِ الْمُبطلين.
فهذا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رضي الله عنه-, يُحدِّث عن رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا" فَقَالَ ابنه بِلَالُ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، مُتأوِّلاً أنَّ الزمان تغيَّر, فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا، وَقَالَ: "أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَقُولُ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ"[رواه مسلم(1017)].
نعم, انقيادٌ وتسليمٌ تامٌّ لكلام النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وهكذا حال التابعين وتابعيهم, حتى جاء الأئمةُ الأثبات, والعلماءُ الثقات, كالإمام مالكٍ وأحمدَ, والبخاريِّ ومسلم, فقيَّدوا ما ثبت وصح من السنة, ونافحوا عن الملَّة, وردّوا على من كذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- من المبتدعة.
لأنهم يعلمون علم اليقين, أنَّ السنةَ النبويةَ هي المصدرُ الثاني للتشريع، فإذا كان الوحي يَنْزِلُ على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن, فإنه ينزل عليه بالسنة أيضا، قال الله -تعالى-: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3-4].
وقد أوجب الله -تعالى- على كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة, أنْ يُسلِّموا التسليم التامَّ لكلام النبي -صلى الله عليه وسلم-, وتشريعه وحُكْمه، بل إنَّ الله -تعالى- أقسم بنفسه العليَّة, وذاته الْمُقدَّسة: أن من جاءه حكمٌ أو تشريعٌ من النبي -صلى الله عليه وسلم-, ثم ردَّه لأجل الهوى ولم يقبل بهأنه ليس من الإيمان في شيء، فقال عز وجل: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء: 65].
ولذلك أجمع أهل العلم قاطبة أنَّ مَن أنكر الاحتجاج بالسنة النبوية، أو كذَّبَ حديثاً من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-, أو اعترض عليه, أو رآه مُخالفاً للذوق والحضارة, وهو يعلم أنه من كلامِه -صلى الله عليه وسلم-، فهو كافرٌ خارجٌ عن دين الإسلام، حيث لم يأخذ بأدنى درجات الإسلام, وهو الاستسلام لله ولرسولِه.
قال الإمام إسحاقُ بن راهويه-رحمه الله-: "من بلغه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبرٌ يُقرُّ بصحته, ثم رده بغير تقيَّةٍ -أي بغير خوفٍ من سلطانٍ أو ظالم- فهو كافر"[الإحكام لابن حزم 1 / 97, وهو صحيح عنه, حيث رواه عنه تلميذه الإمام محمد بن نصر المروزي].
وقال البربهاري-رحمه الله-: "وإذا سمعتَ الرجلَ يطعن على الآثار, أو يرد الآثارَ, أو يريد غير الآثار، فاتَّهِمْه على الإسلام ، ولا تشكَّ أنه صاحب هوى مبتدع"[شرح السنة /107].
وهذا إمامُ أهل السنة والجماعة, الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل -رحمه الله-: قيل له: يا أبا عبد الله, كنَّا عند فلانٍ, فذُكر له أصحابُ الحديث، فقال: أصحابُ الحديث قومُ سوء, فقام مُغضباً وهو ينفض ثوبه ويقول: زنديق! زنديق, حتى دخل بيته[عقيدة السلف وأصحاب الحديث: 30, وتلبيس إبليس (400), ومجموع الفتاوى (4/96)].
هذا إذا كان القدحُ في أصحاب الأحاديث, فكيف القدح بالأحاديث نفسها, كيف بردها بمجرَّد الهوى والتَّشهي.
واعلموا -معاشر المسلمين- أنَّ الكثير من هؤلاء, الذين يُنكرون بعض أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-, يقولون: نحن ننكِرُ أن يكون من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو صحّ عندنا لقبلناه!.
فنقول لهؤلاء الْمُتجرِّئين على رد السنة، الطاعنين في أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير حُجَّة: هل بَنَيْتُمْ ردَّكم واعتراضَكم على منهجيةٍ علمية، أو أصولٍ نقديةٍ مقبولة, أم فعلتم ذلك لتوهمّكم أنها تُخالف العقل؟
ولماذا نرى جميع علماء الإسلام من لَدُنْ صحابةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا، كلُّهم متَّفقون على قبول هذا الحديث, ولم يعترضْ عليه أحدٌ منهم.
ألا يقضي العقلُ السليم –الذي تزعمون التحاكمَ إليه– باحترام اتفاق أهل التخصص, على أمرٍ هو في صلبِ تخصصهم؟!
هل يجرؤ أحدٌ منكم, أنْ يُخطِّئَ علماء التخصُّصات الأخرى, هل تجرؤون على تخطئة علماء الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات, أو الاقتصاد أو الطب مثلا, إذا اتفقوا على أمرٍ وقولٍ معين، خاصةً إذا لم تكونوا من أهل العلم بذلك التخصص؟
فما بالكم تعترضون ليل نهارٍ, على شريعة الواحد القهار.
ولكنه الكراهيةُ الواضحة لدين الإسلام, الذي أبهر العالم بما فيه من الحُجَّة والبيان.
وما تقدم - يا أمة الإسلام- من نصوصِ الكتاب والسُّنة, وأقوالِ علماءِ الأمة: فهي صريحةٌ في تعظيم السُّنة والأخذِ بها.
وذكرنا عن سلفنا الصالح -رحمهم الله-, وموقِفِهم مِمَّن عارضها ولم يأخذ بها، حيث واجهوهم بالحزم والشدَّة.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الطَّيِّبُ يَشْتَدُّ نَكِيرُهُمْ وَغَضَبُهُمْ, عَلَى مَنْ عَارَضَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-, بِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ اسْتِحْسَانٍ, أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ كَائِنًا مَنْ كَانَ, وَيَهْجُرُونَ فَاعِلَ ذَلِكَ, بَلْ كَانُوا عَامِلِينَ بِقَوْلِهِ: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36] [أعلام الموقعين 2/556].
فواجبنا أنْ نتمسَّك بهديهم, وأنْ نهجر أمثال هؤلاء المنكرين للأحاديث الصحيحة, الْمُستهزئين الشامتين بها, وأنْ نُحذِّر في مجالسنا منهم, ونتقرَّبَ إلى الله ببغضهم, ومن اسْتطاع نصيحتهم ووعظهم، فهذا هو الواجب.
اللهم اكفنا شرور العلمانيين والمستهزئين, واحفظ كتابك ودينك يا رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, قيَّض لدينه من يردُّ على الْمفسدين والعابثين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: ومِن أقرب الأمثلة لبعض هؤلاء الذين يُنكرون الأحاديث, لتعارضها مع عقولهم, ويجحدونها لعدم قناعتهم بها, ما قاله أحدُهم: "لا أعترف بحديث بول الإبل, ولا حديثِ جلد الظهر وأخذِ المال؛ هذه أحاديثٌ ضدَّ الفطرةِ السوية, وإساءةٌ للإسلام".
سبحان الله! يُنكر حديثاً ثابتاً في الصحيحين والسنن والمسانيد, لما يتوهمه من مُخالفةٍ للفطرة.
وأيُّ فطرةٍ هذه التي جَعَلَها حاكمةً على شريعةِ الله, أهي الفطرةُ التي لم تتلوَّث بالشوائب, أم هي الفطرةُ الْمنكوسةُ الْمُلوَّثة؟
إنَّ تحكيمَ العقول والأذواقِ والآراء على الدين والشريعة، هو الْمُنطلَق الذي انطلق منه فرقُ الضلالة والأهواء, كالجهميَّة والمعتزلة والرافضة, فزعزعوا بهذا دين الإسلام, وردُّوا به الآياتِ والأحكام, وكلُّ هذا بسبب زبالات العقول والأفهام.
فهذا وأمثالُه, ينطبق عليهم قولُه تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا) [النساء: 115].
فقد شاقَّ وعاند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وأنكر شيئاً من كلامه, واتَّبع غير سبيل المؤمنين, فأنكر ما يعتقدونه, وخرج على سوادّ الأمة, واسْتهزأ بما ثبت عن نبي الملَّة, فأيُّ شرٍّ جمعه هذا وأمثاله.
فهو يُنكر الحديث ولا يُنكر صحته, وهذا الذي ذكرنا أقوالَ العلماء وإجماعَهَم, بأن من فعل مثل ذلك فهو كافرٌ بالله ورسوله.
فحديث الشرب من ألبان الإبل, وإذا وقع الذباب في إناء أحدكم فلْيغمسه, هما صحيحان باتفاقِ العلماء, والرجالُ الذين رووه عن النبيِّ-صلى الله عليه وسلم- ثقاتٌ أثباتٌ.
إذن, فأين محلُّ الطعن في هذا الحديث عند هؤلاء المنحرفين؟
محلُّ الطعن هو السنة بأكملها, والشريعةُ بِرُمَّتها.
فالواجب ردعهم، والأخذُ على أيديهم, فتركهم سببٌ للفتنة, ومدعاةٌ للفرقة.
ولا يُفهم من هذا الكلام تكفيرُ أحدٍ بعينه, إنما الهدف بيان عور المنكرين للأحاديثِ الصحيحة, بمجرد أهوائهم وأفهامهم.
نسأل الله -تعالى- أنْ يُثبتنا على دينه, وأنْ يُميتنا على شريعته وملَّته, إنه سميعٌ قريبٌ مجيب.