الشكور
كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | مجدي مكي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
عندما يشتدُّ الكرب، وتتتابع المحن، وتتوالى الخطوب والمصائب، يجب على المسلمين أن يبحثوا عن الداء الذي كان سَبباً في نزول البلاء بهم، وتتابع المحن عليهم، فيعالجوه، يجب أن يبحثوا عن الخطايا التي ارتكبوها فيقلعوا عنها، ويتوبوا إلى الله منها، فالخطايا سبب الرزايا، وما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، ومصداق ذلك...
من واجب الإنسان أن يكون دائم الاعتبار بالأمم الخالية، والأجيال الغابرة، يتفكَّر في أحوالهم، ويتَّعظ بما حلَّ بهم من العقاب والنكال.
وليذهب في بقاع الأرض وأصقاعها لينظر حالهم، ويتَّعظ بآثارهم وبقاياهم، وقد كان فيهم من هم أظلم وأطغى وأعتى من هذه الأمَّة، كما يقول -تعالى-: (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) [النجم:50-53]...
ومن أسباب الهلاك: التنافس في الدنيا، والرغبة فيها، والمغالبة عليها، وحب التفاخر والتكاثر؛ عن عمرو بن عوف الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، فسمِعَت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآهم، ثم قال: "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟"، فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: "فأبشروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله! ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبْسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم" رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه.
فالتنافس على الدنيا وجمع مالها وحب الاستئثار به من أسباب الهلاك؛ لأنه يؤدي إلى إضمار الأحقاد والأضغان، ثم الحسد، ثم العداوة والمدابرة.
روى مسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا فتحت عليكم فارس والروم؛ أي قوم أنتم؟"، قال: عبد الرحمن بن عوف: كما أمرنا الله. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أو غير ذلك، تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون".
روى الترمذي عن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "دبَّ إليكم داءُ الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، حالقة الدين، لا حالقة الشعر".
ومن أسباب الهلاك: الشحُّ بالمال، والضنُّ به، والاستبداد بكنزه، ومنع حقوق الله -تعالى-، وحقوق عباده، فإنَّ ذلك من أسباب هلاك الأمم، وخراب الشعوب.
روى أحمد والبخاري في الأدب ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الظلم! فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح! فإنَّ الشحَّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم".
وروى أبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إيَّاكم والشحَّ! فإنما هَلَك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا".
والشح هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على أن يأخذ الأشياء من غير حلها، ولا يقنع بما أحل الله له.
والشح أهلك من كان قبلنا؛ حملهم على سفك دمائهم، واستحلال محارمهم، ومقاطعة أرحامهم، وكثرة فجورهم؛ كم من دم أُريق في سبيل الشحِّ والحرص على المال وأخذه من غير حله! كم من رحِم هُجرت من جرائه! وكم من محرّم استبيح في الحصول عليه والاستئثار به!.
ومن أسباب هلاك الأمم وفساد المجتمعات: ظهور الربا، وانتشار الزنا، وتعاطي الرشوة. روى الإمام أحمد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله -عز وجل-".
الربا في الأصل: الزيادة، وفي الشرع تطلق على معنيين: الأول: البيع مع الزيادة في الجنس الواحد الربوي، تسمى (ربا الفضل) وهي تدخل في البيعات الربوية التي جاء التنصيص عليها من الشارع. أما المعنى الثاني للربا: فهو الزيادة التي يأخذها صاحب الدَّيْن في مقابلة دينه، وهي (ربا النسيئة)، وهذا النوع هو الجاري به العمل اليوم في البنوك في سائر أنحاء العالم، وهو الذي كان معهوداً بالجاهلية قبل الإسلام.
وفي هذا النوع نزلت تلك الآيات القرآنية، وجاءت تلك القوارع الإلهية، تهدد المتعاملين به وتزجرهم، قال -تعالى-: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة:276].
وقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:279].
وجريمة الربا ليست قاصرة على مُتعاطيه، بل هي عامًّة في كل من يُشارك فيه؛ روى مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه؛ هم فيه سواء".
أما الزنا: فهو من الجرائم الخطيرة التي تُسبِّب الخراب والدمار، والواقع المشاهد المحسوس يصدق ذلك، حيث انتشرت الأمراض التي لم تكن فيما مضى، كما يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم".
أما الرشوة فإنها من موجبات العقاب، ومن أسباب نشر الظلم والجور وهضم حقوق الناس. روى أحمد عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أُخِذُوا بالسنين، وما من قوم يظهر فيهم الرِّشا إلا أخذوا بالرعب"، والرِشا جمع رشوة، وهي ما يعطيه الشخص للحاكم أو لغيره ليحكم له ضد خصمه بالباطل.
وفي هذا المعنى يقول -تعالى-: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:188].
روى أحمد وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي"، وفي رواية: "والرائش بينهما".
ومن أسباب الهلاك: البخس في الكيل والميزان، ومنع الزكاة، ونقض العهود، وعدم تنفيذ أحكام الله: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ بِالقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [هود:84-85].
(وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [هود:94].
أي: لما جاء وقت تنفيذ أمرنا الذي قَضَيْناه بإهلاك قوم شُعيب بسبب ظلمهم، خلَّصنا شُعَيباً والذين آمنوا معه، بوسيلة هي من آثار رحمتنا، وقبضت الصَّيْحَةُ العظيمة المُميتة على الذين ظلموا أنفسهم بالشِّرك والبَخْس، فدخلوا في صباح اليوم المقرَّر أن يُهلكهم الله فيه، في قراهم وأماكن تجمعهم لاصقينَ بالأرض على رُكبهم ووجوههم، مُلازمين أمكنتهم لا يتحرَّكون.
وقد وعد الله المطففين بالهلاك والعذاب الشديد، فقال: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطَّففين:1-3].
أي: هلاكٌ وعذابٌ شديد من الله للَّذين ينقصون المكيال والميزان، الذين إذا اكتالوا من الناس استوفوا لأنفسهم الكَيْل والوزن تاماً غير ناقص، وإذا كالوا لغيرهم أو وزنوا لهم، ينقصون الكيْل والوزن، فيعطونهم عن طريق التلاعب بالكيل أو الوزن أقلَّ من حقهم.
(أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ) [المطففين:4-6]. أي: ألا يكفي أولئك البُعداء إلى جهة أسفل سافلين الذين يأخذون لأنفسهم زيادةً، ويدفعون إلى غيرهم نقصاً، أن يظنُّوا أنهم مبعوثون بعد موتهم ليومٍ عظيم الهول؟ يوم يقوم الناس من قبورهم للحضور في محكمة خالق الخلائق أجمعين ومالكهم والمتصرِّف فيهم بسلطان ربوبيَّته، لمحاسبتهم ومجازاتهم؟ كأنَّهم لا يخطر ببالهم، ولا يخمِّنون تخميناً أنهم مبعوثون ليوم القيامة، ومسؤولون فيه عن مقدار الذرَّة! فإنَّ مَن يظنُّ ذلك ولو ظناً ضعيفاً لا يكاد يجترئ على بخْس الحق! فكيف وقد قامت على البعث البراهين القطعيَّة التي تفيد اليقين؟.
وقد جاءت الأحاديث تحذر من النقص والتطفيف في الكيل والميزان، ومنع حقوق الله -تعالى-، وحق عباده من الزكاة، وترهب من نقض عهود الله ومواثيقه، والإعراض عن تنفيذ أحكام الله.
روى ابن ماجه والحاكم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهنَّ، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا الكيل والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجوْر السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله -عز وجل- إلا جعل الله بأسهم بينهم".
فهذه خمس خصال توجب كل واحدة منها نوعاً أو أكثر من العذاب.
ومن أسباب الهلاك: ظهور المعاصي وانتشارها في المجتمع الإسلامي مع سكوت الناس عن تغييرها؛ لأن المعصية إذا أعلنت دبَّ بلاؤها إلى العامَّة والخاصَّة، ولم يبقَ وبالها مُقتصراً على مُرتكبها.
يقول الله -تعالى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال:25]. أي: احذروا أيها المؤمنون عقاباً مُؤْلماً لكم، لا يَقْتَصِرُ على إصابة الظالمين منكم فقط، بل يعُمُّ الظالمين وغيرهم، فيكون للظالمين عقاباً، ويكون لغير الظالمين امتحاناً واختباراً، أو تربية وتأديباً، واعلموا علماً جازماً أنَّ الله شديد العقاب؛ فاتقاء الفتنة يكون بالكفِّ عن الذنوب، والأخذ على يد المجاهرين بالمعاصي.
قال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف:164-165].
أي: ضع في ذاكرتك أيها المُتلقِّي لبياننا حين قالت جماعةٌ صالحةٌ من أهل القرية التي كانت قريبة من البحر، أَمْسكت عن الصَّيْد، وسكتت عن موعظة المعتدين، ليأسهم من استجابتهم، قالوا للمُستمرِّين في متابعة النُّصح المقرون بالترهيب من عذاب الله: لِمَ تنصحون جماعةً، اللَّهُ منزِّلٌ بهم عذاباً يُميتهم ويستأصلهم في الدنيا، أو مُعاقبهم عقاباً شديداً دون إماتة واستئصال؟ فقالت الفرقة الناهية للَّذين لامُوهم: نعظُهم لأجل أن نرفع اللوم عن أنفسنا عند ربِّنا، بأننا لم نُقصِّر بواجب النُّصح والوعظ والنَّهي عن المنكر، وجائزٌ عندنا أن ينتفعوا بالموعظة، فيتَّقُوا الله، ويتركوا ما هم فيه من الصَّيْد.
فلمَّا تركت الطائفة التي اعتدت يوم السَّبْت ما ذُكِّرت به، واستمرَّت على اعتدائها فيه، ولم تستجب لما وَعَظَتْها به الفرقة الناهية، أنْجَيْنا من العقاب الذين كانوا يَنْهون عن السُّوء، وهم الفريقان: الذين اجتهدوا فرأوا أنَّ القوم ميؤوس من استجابتهم، والذين اجتهدوا فرأوا أنَّ القوم لم يصلوا إلى مرحلة ميؤوس منها، وأخذنا الفرقةَ المُعتديةَ العاصيةَ بعذابٍ شديد وجيع؛ بسبب مواظبتهم المُتكرِّرة على مخالفة أوامر الله، وخروجهم عن طاعته.
روى أحمد عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمَّهم الله بعذاب من عنده"، فقلت: يا رسول الله أما فيهم الصالحون؟ قال: "بلى"، قلت: فكيف يصنع بأولئك؟ قال: "يصيبهم ما أصاب الناس؛ ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان".
فالسكوت عن المعاصي من مُوجبات العقاب والهلاك، لأن السكوت عنها يغري أصحابها على التمادي فيها واستفحال أمرها وانتشارها، وهذا الجانب من أسباب العقاب.
وكذلك فهو من موجبات عدم استجابة الدعاء؛ روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده! لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".
روى البخاري عن النعمان بن بشير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثَل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هَلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً".
روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: يا أيها الناس إنَّكم تقرؤون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده".
أيها المسلمون: عندما يشتدُّ الكرب، وتتتابع المحن، وتتوالى الخطوب والمصائب، يجب على المسلمين أن يبحثوا عن الداء الذي كان سَبباً في نزول البلاء بهم، وتتابع المحن عليهم، فيعالجوه، يجب أن يبحثوا عن الخطايا التي ارتكبوها فيقلعوا عنها، ويتوبوا إلى الله منها، فالخطايا سبب الرزايا، وما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، ومصداق ذلك قول رب العزة: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشُّورى:30].
أي: وما أصابكم أيُّها الناس من مصيبةٍ مكروهة عامة، تشمل أمةً من الأمم أو قوماً من الأقوام، فبسبب ما كَسَبت أيديكم من الذنوب والمعاصي، جزاءً، أو تربيةً، أو تذكيراً بالجزاء الأكبر، ويمحو من سجلّ المُؤاخَذَة كثيراً من الذنوب.
فالإيمان بالله -تعالى- بصدق وإخلاص سبب لكشف البلاء والنجاة من الهلاك، كما قال -سبحانه- عن قوم يونس: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس:98].
والمعنى: فَهلّا كانت قريةٌ من القُرى التي أُهلكت هلاكَ الاستئْصال، آمنتْ قبلَ مُعَاينة العذاب، ولم تُؤخِّر إيمانها إلى حين معاينته؟ فنفَعَها إيمانُها بأن يقبله الله منها، ويكشفَ عنها العذابَ بسببه؛ لكنَّ قومَ يونس لم يجْرُوا على سُنَّة أسلافهم، بل بادروا إلى الإيمان قبل نزول العذاب حين رأوا أماراته، فقبل الله إيمانهم، وكشف عنهم عذاب الذلِّ والهوان في الحياة الدنيا، ومتَّعهم إلى وقتِ انقضاء آجالهم.
فالرجوع إلى الله -تعالى- بالإيمان الصادق والعمل الصالح هو الدواء من كل بلاء، وهو العلاج الناجع لاستصلاح الفارط واستبدال النقم بالنعم.
اندفع كثير من المسلمين اليوم وراء تحقيق الشهوة المحرمة، والنزوة الطائشة، واعتمدوا مع ذلك على الأماني الكاذبة، وقد ندَّد القرآن الكريم بمن كان زاده الأماني، وحفز الهمم للعمل، ووجه الأنظار للمجازاة العادلة، فقال -تعالى-: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء:123].
أي: ليس ما وعد الله به من الثواب ودخول الجنة، والظفر بمراتبها العليَّة، ولا النجاة من النار، ومن دركاتها الدنيَّة، بالأماني الحاصلة في نفوسكم التي تريدون وقوعها أيُّها المسلمون، ولا بأماني أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وإنَّما الأمر بالإيمان والسَّعي والجِدِّ في فعل الصالحات، وترك السيِّئات، وبذل الطاقة ارتقاءً في مراتب الكمال، وترفُّعاً عن دَرَكات النقصان، ولكن من يرتكب معصيةً، مؤمناً كان أو كافراً، يُجازه الله بها، عاجلاً أو آجلاً، ولا يجد له من دون الله ولياً ما يرحمه، فيحميه ويُؤْويه، ولا نصيراً ينصره، فيمنع عنه نزول عذاب الله الذي يستحقُّه بالعدل.
فليس المراد بالانتساب إلى الإسلام مجرد الدعوى، والتشبث بالخيال، بل لابد من عمل والتزام.
إنَّ ما ينزل بنا من كوارث ليست إلا من كسب أيدينا، وإن النتائج تابعة دائماً للأعمال والأخلاق، فمن أراد أن يتجنبها فليترك الأعمال التي تأتي بنتائج وخيمة.
والأعمال الصالحة ذريعة للصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
اللهمَّ لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.