الكريم
كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...
العربية
المؤلف | عاصم محمد الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أهل السنة والجماعة |
تهون علينا كلُّ لصوصية أصابت أموالنا، تهون علينا اللصوصيات حين تصيب أجسادنا، أو تشرب من دمائنا، أو تأكل بقايانا، يهون علينا كلُّ ذاك، ولكنا نشهد الله أنه يعز علينا أن يقول الله قولا، أو يقولَ رسوله قولا، ثم تكرهنا الأيام أن نرى لصاً يتقحم الحمى، حمى شريعة الله تهون علينا أن تصاب جسومنا، ويسلم ذكرٌ مُنزل ونصوص. يخيفوننا دوما بوجود اللصوص، ولكنهم...
الحمد لله السميع البصير، اللطيف الخبير، العلي الكبير، الصبورِ الشكورِ، ما خاب ظنٌ لنفوس في فضله طامعاتِ، مؤمنٍ محسنٍ عفو غفور للأذى والجحود والإفتئاتِ، خالقٍ رازقٍ سميع مجيب، ويداه تفيض بالأعطيات، مستوٍ فوق عرشه في علوٍ وقريبٍ بجوده للعفاةِ ليس شيء كمثله، فهو ربٌ من يضاهيه في صفات وذاتِ، إنه الواحد الذي لا يُضاهى في معاني أسمائه والصفاتِ، إنه الله سلوة وضياء في سماء العُباد والعابداتِ.
أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته.
وأشهد أن محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله نبي الله أتانا بعد يأس، وفترة من الرسل، والأوثان في الأرض تعبد.
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا | به موقنات أن ما قال خالد |
وأنذرنا نارا وبشر جنة | وعلمنا الإسلام فالله نحمد |
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
"ستقنع الغنمُ بالمذهب النباتي لكن الذئاب لها رأي آخر".
قدرٌ أن يكون لكل شيء لصوصه، فللمال لصوصه، وللأعراض لصوصها، وللأنفس لصوصها، وللأوطان لصوصها، ولكل نفيس لصوص.
لا جرم، قدر الله وما ينجو عليمٌ من قدر.
تهون علينا كلُّ لصوصية أصابت أموالنا، تهون علينا اللصوصيات حين تصيب أجسادنا، أو تشرب من دمائنا، أو تأكل بقايانا، يهون علينا كلُّ ذاك، ولكنا نشهد الله أنه يعز علينا أن يقول الله قولا، أو يقولَ رسوله قولا، ثم تكرهنا الأيام أن نرى لصاً يتقحم الحمى، حمى شريعة الله تهون علينا أن تصاب جسومنا، ويسلم ذكرٌ مُنزل ونصوص.
يخيفوننا دوما بوجود اللصوص، ولكنهم ما حذرونا يوما من لصوص النصوص؛ فمن مخبر عنا لصوصا تقحموا حمى الشرع، بالحقد المبين وبالمين.
أرأيتم لو أخبرتكم أن قوما نزلوا هذا الحي، وهموا بنهب أملاككم، وحيازة أموالكم؛ أكنتم تفزعون؟ وعن أموالكم مدافعون؟! وللصوص طاردون؟
إني أظنكم ستقولون: كلا، وألفٌ للظلوم المعتدي، فإني نذير لكم بين يدي لصوص النصوص.
لما بعث الله محمدا -عليه الصلاة والسلام-، وأنزل كتابه الكريم، أنزله الله ليقول للناس: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153].
أنزل الله كتابه الكريم، ليبث للثقلينِ الإعلانَ الشهيرَ، قائلا: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النــور: 51].
أنزل الله كتابه الكريم ليقول للثقلين: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) [النساء: 80].
أنزل الله كتابه الكريم ليقول لكل ذي سمع وبصر: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء) [الأعراف: 3].
في تلك الحقبة ظهرت دعوات مغرضة كان أكبرُ همِّها اللصوصيةَ في حمى النصوص.
في تلك الحقبة خرجت دعوات لبَّست الحق بالباطل، وكتمت الحق وأصحابها يعلمون.
في تلك الحقبة خرجت دعوات تقول: آمنوا علنا بظاهر ما أنزل على الناس، ثم أولوه لهم لعلهم يرجعون.
أجيال الخيرية: قديما حاول اللصوص أن يطوِّعوا دين الله لأهوائهم، ما أعجبتهم آيات الله حين تنزلت، وأوامرُه ونواهيه حين تليت، وحين لم يستطيعوا أن يهشموا بيضة الإسلام من داخلها، اقتحموها من الداخل، ليسهل التهشيم والتهميش، جبناءُ دجالون، أيَّ ذميمة، علقت بهم فاستمرئوا التشبيحا، إنهم شبيحة النصوص.
شبيحة هؤلاء، أتظنون أن هؤلاء الشبيحة سيعلنوا لنا كفرهم، أو يقولوا: لن نؤمن بشريعتكم ونصوصكم، وما تؤمنون، بل هم أولئك الذين قالوا: إننا مؤمنون بما آمنتم به، ثم احتالوا على الناس، وصرفوا أوجه النصوص عن ظاهرها، وأولوها بأهوائهم وما يشتهون.
أجيال الخيرية: خرج بشرٌ المَرِّيسي المعتزليُّ الشهير يوما على أصحابه، فقال لهم: "ليس شيء أنقضَ لقولنا من القرآن، فأقرِّوا به في الظاهر ثم صرفوه بالتأويل".
أجيال الخيرية: في خضم المعارك المعاصرة.
يُقضى على المرء في أيام محنتها | حتى يرى حسنا ما ليس في الحسن |
أخطرُ معركة عُقدت ألويتها بعد زمن رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- هي معركة النصوص، تهون كل الغزوات على هذه الأمة، وتهون كل مصيبة جُلى تبيد العالم المسكينا، يهون القتل والتجريح، والتذبيح والتشبيح، وتصغرُ كلُّ مذبحة يموت بها الشعور، وتولد الأيتام، يهون كلُّ ذاك، ولكن نصوص الله لا تهون!.
لما خلق الله آدم -عليه السلام- أمر الملائكة أن يسجدوا له: (فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 34].
قال الله له: (مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) [الأعراف : 12].
فكان أولَ لص اقتحم نصوص الله، بعقله الصغير، وليكون من الخاسرين، ولقد كان يسعه أن يقول: سمعتُ وأطعتُ، ليكون من المفلحين.
أجيال الخيرية: إني أقص عليكم من نبأ اللصوص لصوصٌ رموا شرع السما بهواهم، لقد خُيِّب المسعى وقد خيِّب الساعي.
لصوص النصوص: هم أولئك الذين يقول الله قولاً، ويقول رسوله قولا، فلا يردونه من أصله، حتى لا تُكشفَ سوءاتهم، ولكنهم يصْرفونه حيث اشتهت أهواءهم.
لصوص النصوص: هم الذين يقولون لبعضهم لا تألبوا العامة عليكم، فتنفون كتاب الله وسنة رسوله، ولكن إن استطعتم أن تنقضوا عرى النصوص بتأويلاتكم وتفسيراتكم فافعلوا.
لصوص النصوص: هم الذي خرجوا ويخرجون على الناس، ليقولوا لهم: إن نصوص الشرع مقدسة، ولكنَّ فهم البشرِ لها يأبى التقديس، ليسقطوا دين الله كذبا وخداعا.
لصوص النصوص: هم الذين: (يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 9].
هم الذين: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة: 10].
لصوص النصوص: علموا أن الحرب على النصوص ليست كأية حرب، فاحتالوا وبئس الاحتيال أن يردموا حصونها بالحفر تحتها، ليسهل الاقتحام.
أيتها الأجيال: إنهم أعداء التسليم لله، إنهم أعداء التسليم.
لصوص النصوص: علموا أن الحرب على النصوص ليست كأية حرب، فأخفوا مكرهم بهدم دين الله، ولكنهم أظهروا للناس دعواتٍ أرادوا منها هدم الإسلام على الطريقة الناعمة الهادئة الأركونية والجابرية؛ فنظروا إلى النصوص، فما أعجبهم أثبتوه، وما كرهوه قالوا إنه لا يوافق الفطرة والعقل الصحيح، كبر خداعا ودجلا وزروا أن يقولوا على الله ما لا يعلمون.
أيتها الأجيال: إن التسليم للنصوص الشرعية بالرضا والقبول من أصول الإسلام، وأساسيات الدين التي لا يقوم ولا يتم إلا بها، فالإسلام هو الاستسلام لله، والانقياد له، ظاهرا وباطنا، وهو الخضوع له، والعبودية له: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ) [النساء: 125].
أيقول الله قولا صريحا ويقول رسوله قولا، ثم تَرُدُّ ما جاء عنهما بحجة بئيسة، أين سمعنا وأطعنا؟!
أيقول الله قولا، ثم تصرفه حيث شئت، حتى يوافقَ عقلك الصغير، لتجعل عقلك المشرع من دون الله: (إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 145].
لصوص النصوص هم الذين رضوا بأن يكونوا من المشرعين، قدموا عقولهم على ما أنزل الله، والله يقول: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات: 1].
لصوص النصوص هم الذين إذا جاءهم أمر من الله أو الرسول، قالوا ننظر فإذا وافق عقولنا أخذنا به، وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم.
كبر مقتا عند الله أن يقولوا سمعنا وكفرنا، بل أولئك هم الظالمون.
إن العقل الصريح، لا ينافي النقل الصحيح، ولكنهم جعلوا الحاكمية لأهوائهم.
سمع عمرو بن عبيد - وهو من أئمة المعتزلة- حديث عبدِ الله بنِ مسعودِ -رضي الله عنه- بسنده لما قال: حدثنا الصادق المصدوق: "إن أحدكم يُجمَع خلقُه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك..". قال عمرو بن عبيد: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته، ولو سمعتَ ابنَ مسعود يقول هذا لما قَبِلته، ولو سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذنا منك الميثاق!.
أعيذكم بالله من كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف! أعيذكم بالله أن يكون حظكم من الإسلام هو الكفر بالإسلام.
يخرج علينا البارحة أحدُهم، ليقولَ لنا: إن حديث العلاج ببول الإبل لا أعترف بصحته، فالبول وشربه ضد الفطرة الإسلامية، ويسيء للإسلام.
تفٍّ وأفٍ، وخفٍ وكف، لمن رد شيئا مما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
يا أيها الدجال حدك إنما تهذي بجهل بل بفسق ظاهر، أنت المريض نجل عند نقاشه، في جهله بول البعير الطاهر.
أيتها الأجيال: لا تغتري بهم إنهم لصوص النصوص، ما شاءوا أخذوا منها، وما شاءوا تركوا، جعلوا الذوق إلها يعبد من دون الله.
لا تغتري بهم حذار من اللصوص ومن عقولٍ، ترى الأذهانَ رباً سامرياً.
لا تغتري بهم فما تخفي صدورهم أكبر.
لا تغتري بهم فهم لا نقل ولا عقل، ولا فهم ولا ذوق.
ما هذه العقول التي جعلت توحيد الإلوهية ما تُوحد به بين النقل والعقل؟
ما هذه العقول التي جعلت توحيد الربوبية هي فهمها كيفما تشاء؟
ما هذه العقول التي زعمت أن أحجامها، أكبرُ من رب العقول، فما فهمته أسلمت به، وما لم تفهمه نازعت به ربها، أيها العقل الصغير: إن خالق العقل، هو منزل النقل، أتراه يناقض بينهما.
أيتها الأجيال: ليس الدين بالذوق ولا بالميل، ولا بالكيل، بل بأخذه كما جاء.
لم يكن الدين يوما يؤخذ بالتشهي والتحلي والتمني: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 85].
أيتها الأجيال: يمسح علي -رضي الله عنه- يوما على ظاهر خفيه، ويقول: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح على ظاهر خفيه.
أيتها الأجيال: تتحول القبلة من الشام إلى الكعبة فيذهب أحد صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى قوم يصلون فيخبرهم بتحول القبلة، وكانت وجوههم إلى الشام فيستديرون نحو الكعبة.
أيتها الأجيال: يرى النبي -عليه الصلاة والسلام-، خاتم الذهب في يد رجل، فيأخذه منه ويلقيه، ولما ذهب النبي -عليه الصلاة والسلام- قيل للرجل: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
كانوا يسلمون ويذعنون، لم يتخذوا دينهم وجدا ولا ذوقا، ولا رأي ولا معقولا ولا قياسا، بل تسليما وإذعانا.
كانوا يعظمون ما يأتي من الله ومن رسوله، حتى أولئك المحسوبين من العامة، من الذين لو رجح إيمان أحدهم، بإيمان مليار لص معاصر، لرجح بهم، كانوا يُجلونها ويعظمونها، ويخافون حذرا من مخالفتها.
يقول أبو إسحاق الخبال - رحمه الله -: كنا يوما نقرأ على شيخ فقرأنا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قتات"، وكان في الجماعة رجل يبيع القت وهو علف الدواب، فقام وبكى بكاء شديدا، ثم قال: أتوب إلى الله من بيع القت، فقيل له: ليس هو الذي يبيع القت، لكنه النمام الذي ينقل الحديث من قوم إلى قوم، فسكن بكاؤه وطابت نفسه.
أما اللصوص الساخرون المستهزؤون فحقهم أن يجلبوا للنطع، لينفذ فيهم حكم الله، ولا غضاضة من سيف يبادلهم، كفرا بكفر، وإيماضا بإيماض، يقول أبو معاوية: محمد بن خازم: كنت أقرأ بعض ما قال رسول الله على أمير المؤمنين هارونَ الرشيد، فكلما قلت: قال رسول الله قال هارون: صلى الله على سيدي ومولاي حتى ذكرت له حديث: التقى آدم وموسى، وكان بجانب هارون الرشيد عمُّه، فقال عمه لي: أين التقى آدم وموسى يا أبا معاوية؟ كأنه يسخر من الخبر، فغضب الرشيد من ذلك غضبا شديدا، وقال: أتعترض على الحديث؟ علي بالنطع والسيف فأحضر ذلك، فقام الناس إليه يشفعون فيه، فقال الرشيد: هذه زندقة، ثم أمر بسجنه وأقسم هارون أن لا يخرج حتى يخبره من ألقى إليه هذا، فأقسم عمه بالأيمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بادرة منه، وأنه يستغفر الله منها.
في كل واد بنو سعد يا أمير المؤمنين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
حذار من اللصوص ومن عقول ترى الأذهان ربا سامريا.
إن الصراط بين أهل العلم وبين لصوص العلم هو التسليم والإذعان، اقرءوا إن شئتم: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ)[الحـج: 54- 55].
إن الصراط بين أهل العلم وبين لصوص العلم، هو قول سمعنا وأطعنا، اقرأوا إن شئتم: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً) [الإسراء: 107-108].
لصوصيات النصوص كثيرة، ومن قدر الله علينا، أنا خرجنا في زمن تهارشت فيه كلاب الأفهام، وعوت ثم عوت، ثم استعوت، وقد حُدثنا فيما حُدثنا أن الكلاب طويلةُ الأعمار، وحدثنا كذاك أنه إذا احتضر الزئير بثغر ليث، ففي الغابات يحتفل النباح!.
تخرج الدعوات تلو الدعوات، وهمُّ أصحابها، هدم دين الله.
يخرج علينا أصحابُ القراءات الجديدة للنص الشرعي، ويخلُقون فهوماتٍ جديدة، يُحرِّفون بها الكلم من بعد مواضعه، تقول لأحدهم: يقول الله -تعالى-، فيقول: لا تحكمني بفهمك لما يقول الله، ليَ الحرية الكاملة بفهمه حيث أشاء –تعالى الله عن حرياتهم علوا كبيرا-.
لصوص النصوص: هم الذين يجعلون النص تابعا والعقل متبوعا، يقول حسن حنفي: إن العقل هو أساس النقل، وأن كل ما عارض العقلَ فإنه مردود، يتداول اللصوص في خطاباتهم مفاهيم متعددة، كالمقاصد والمصالح والمغزى والجوهر، والروح والضمير الإسلامي، وهي كلمات حق يراد بها باطلٌ، يوهمون بها البله والعامة ويلهونهم بها، وإنما يريدون بها إقصاء شريعة الله.
لصوص النصوص: هم الذين يحتجون بكل خلاف، فالاحتجاج به عندهم من أوليات إسلامهم، تقول لأحدهم: يقول الله كذا، فيقول لك: المسألة يحكمها الخلاف، كأن الله ما أنزل: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59].
إننا لن نحتاج إلى جهود إفسادية منذ أن نصرف للناس أقراص الأخذ بالخلاف، سنجدهم بعد حين مدمني معازف، عاقري شهوات بحجة وقوع الخلاف فيها، سنجدهم بعد حين آخذين من لحاهُم بحجة وقوع الخلاف، سنجدهم قد هجروا صلاة الجماعة، بحجة الخلاف.
تكشف المرأة وجهها، فإذا سئلت قالت: مسألة فيها خلاف، يسبل الرجل إزاره فإذ سئل، قال: لا أجره خيلاء، وهي مسألة فيها خلاف، يخرج الرجل عورته فإذا قيل له، قال: العورة وحدها مسألة فيها خلاف.
وهم عبدوا الخلاف وما أرادوا، وحاشا الدين من عبث الخلاف.
هؤلاء دخلوا في سلطان النص عبر باب الانقياد، وخرجوا منه عبر نافذة الخلاف، يقول ابن عبد البر - رحمه الله -: الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله.
لصوص النصوص: ارتضوا من دين الله بالتشهي، والتسلي، فتجد كثيرا من أهل الإسلام، يتخذ الدين عبثا، فتراه يأخذ من فلان قولا، ثم يأخذ من غيره قولا آخر، حتى اجتمع عنده الشرُّ كلُّه.
لصوص النصوص: هم الذين يتزندقون من حيث لا يعلمون، تنزل بأحدهم نازلة، ثم يستفزع لها العلماء، فإذا أفتاه أحدهم بما يريد، أخذ به، وترك الحق ودليله، وهكذا في كل نازلة، وكأن دين الله حانوت حطب! أو معرِض أزياء!.
يقول الإمام أحمد: ولو أن رجلا عمِل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، لكان فاسقا بإجماع الأمة.
لصوص النصوص: لهم في كل مسألة إمام، وما لهم بأهواء زمام، ترى لهمُ هوى في كل قول، وما لهم بما صح المرام!.
لصوص النصوص: هم أصحاب فهم خاص بهم، ليس لأحد من الناس أن يحتكرَه عنهم، فإن قيل له قال: ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: رأي ابن عباس قراءة أخرى ممكنة.
لصوص النصوص: أصحاب قراءة جديدة، تتلاءم بزعم أصحابها مع الواقع، فالنص ليس بحاجة إلى فهم أهل العلم الدقيق، بل الأولى به أن يكون مفتوحا، لكل أحد، ونخلي الحريات لكل من شاء.
يقول أحد اللصوص: ليس من الضروري أن يحتشد الناس جماعات في مسجد لإقامة الصلاة، وذلك لأن الصلاة مسألة شخصية وليست واجبة، وقد فُرضت في الأصل لتليين عريكة العربي، وتعويده على الطاعة للقائد.
ويقول غيره: لا بأس من الجمع بين الصلاتين؛ لأن الأوضاع الحديثة تجعل الالتزام بالوقت متعذرا، في كثير من الحالات.
ويقول لص آخر: ليس من الضروري أن يقام الحج بطقوسه المعروفة، إذ يغني عنه الحج العقلي، أو الحج الروحي.
ويقول لص رابع: نظام الإرث الذي يميز بين الرجل والمرأة لا يتلاءم مع هذا العصر، وأنظمة الأسرة والقوامة، ونظام الطلاق والحضانة وحرمة الإجهاض، لا تنسجم مع التطور لهذا العصر، فيجب أن يجريَ عليها التعديل.
تماما كما هي النداءات التي تخرج بتطبيق مبادرة الشريط الأبيض.
ويقول خامس: التوحيد هو توحيد الأمة وليس توحيد الألوهية.
روى مسلم في صحيحه أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: "سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم".
يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يُضلونكم ولا يفتنونكم.
قد يقول أحدهم: وما فائدة تحديثنا عن هؤلاء اللصوص، فأقول:
إن هذه اللصوصية لهذه النصوص، هي ثمرة ما نراه من فساد وإفساد، وإرهاب في كل مكان، هي الثمرة المرئية، للحاضر التعيس الذي يأكل الدم، ويشرب الأجساد.
ولذا فإني أٌقول: أيتها الأجيال: إن شبيحة النصوص لا تقل خطرا عن شبيحة القتل والإرهاب، والتباب واليباب والعذاب.
أيتها الأجيال: إني أقسم بمن أحل القسم: أن شبيحة القتل والإرهاب، ما خرجت إلا من عباءة هؤلاء المشبحين للنصوص.
أرأيتم القصف الرهيب تحطمت فيه المبادئ، واستبد غزاة وحشية، لو أن هولاكو رأى لتصعدت من قلبه الزفرات، تحت الركام أنينهم، وصراخهم يعوي، وقد زاغت بنا النظرات.
أرأيتم كلَّ هذا الإرهاب إنه ثمرة صغيرة، لهذا الإرهاب بالنصوص، أيَّ شيء يدفع هؤلاء المشبحون، أن يقتُلوا، وينكلوا ويضطهدوا، إنه الفهم الأعوج لما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله، لن تعجب من قوم يفسرون القرآن كيفما شاءوا، ثم يقاتلون الأمة على خلاف ما يعتقدون، لن تعجب من قوم يفسرون قول الله في كتابه: (وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) [إبراهيم: 26].
بأننا تلك الشجرة الخبيثة التي يجب قطعها.
كيف نرجو من قوم جعلوا كثيرا من الآيات نازلة في علي - رضي الله عنه - وأولادِه، ثم يحاكمون الأمة عليها، فإن لم نؤمن بها، اتهمونا بالكفر، ثم حكَّموا فينا الذبح والتشريدا.
لن تعجب بعد كلِّ هذا إذا رأيت المقاصل يقام سوقها بكل مكان وزمان، لفصل الأرواح عن الأجساد.
لن يأخذك العجب من قوم لم يقدروا آيات الله حق قدرها.
أفتراهم يقدرون الأمة حق قدرها، لا رجاء من قوم جعلوا النصوص مطية لهواهم، والله يأبى المين والتحريفا.
والله لا يصلح عمل المفسدين، المحرفين.
أيتها الأجيال: خلاصة الكلام، حذار من اللصوص ومن عقول ترى الأذهان ربا سامريا.
التسليم التسليم، والإذعان الإذعان؛ لما جاء عن الله وعن رسوله، عضوا عليه بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور والأهواء والأدواء، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيتها الأجيال: نحن في زمن الخارج من حرب داخل في غيرها، وما فتنة إلا والتي بعدها شر منها، ولن نجتاز الصراط إلا بتحكيم قول الله: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء: 65].
أفغير الله نبتغي حكما وهو الذي أنزل إلينا الكتاب مفصلا.
أيتها الأجيال: الراسخون في العلم: (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ)[آل عمران: 7].
وأما: (الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ)[آل عمران: 7].
اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماما.