المتين
كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...
العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أهل السنة والجماعة |
الإسلام دينُ عدل، وليس دينَ مساواةٍ؛ لأنَّ العدل يقتضي الموازنة بين الأطراف بحيث يُعطى كلٌّ منهم حقَّه دون بخسٍ ولا جَوْر عليه، وفي ذلك يقول الشَّيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "من النَّاس مَنْ يستعمل بدل العدل: المساواة! وهذا خطأ، لا يُقال: مساواة؛ لأنَّ المساواة قد تقتضي التَّسوية بين شيئين، والحِكْمَةُ تقتضي التَّفريق بينهما. ومن أجل هذه الدَّعوة الجائرة إلى التَّسوية صاروا يقولون: أيُّ فرقٍ بين الذَّكر والأنثى؟! سووُّا بين الذُّكور والإناث... لكن إذا قلنا بالعدل، وهو إعطاء كلِّ أحدٍ ما يستحقُّه؛ زال هذا المحذور، وصارت العبارة سليمة".
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...
تتردَّد على الألسنة وفي وسائل الإعلام المختلفة عبارة: "العدل والمساواة"، فهل هاتان الكلمتان بمعنى واحد؟ أم أنهما مُختلفتان؟ وبناءً عليه: هل دين الإسلام دين عدلٍ ومساواة؟ وما الفرق بين العدل والمساواة؟
إخوتي الكرام.. المساواة في اللُّغة: هي المماثلة بين الشَّيئين، والمعادلة بينهما. وقد اختلف النَّاس في تحديد معنى المساواة؛ حيث ظهر اتِّجاهان مُتباينان لتحديد معنى المساواة:
الاتِّجاه الأوَّل: ذهب إلى أنَّ معنى المساواة إزالة كلِّ الفوارق بين النَّاس، فَهُم سواء, لا يُفرِّق بينهم دين, ولا شرع, ولا قانون, ولا جنس، وسُمِّيت بالمساواة المطلقة.
الاتِّجاه الآخَر: أوجَبَ المُماثلةَ الكاملة بين الأشياء، إلاَّ ما جاء الشَّرع بنفي التَّسوية فيه، باعتبار أنَّ الشَّريعة لها الحقُّ المطلق في التَّسوية والتَّفريق.
ولا ريب أنَّ "الاتِّجاه الأوَّل" فَتَحَ البابَ على مصراعيه، وهو عبث؛ لأنَّ المساواة تعني في مدلولها: التَّشابه والتَّساوي بين الأشياء والمخلوقات، ولا يمكن أن تكون عادلةً إلاَّ إذا تساوت الخصائص والصِّفات وتشابهت، وحينئذٍ تتحقَّق المساواة، وأمَّا في حال اختلافها - كما هو الشَّأن في الرَّجل والمرأة - فلا يمكن تحقيق المساواة العادلة؛ لأنَّ المساواة بين المختلفَين ظلم واضح لا يحقِّق العدل والإنصاف.
بل إنَّ "الاتِّجاه الأوَّل" يُصادم النُّصوصَ الشَّرعيةَ الصَّريحة الواضحة التي تنفي المساواة بين بعض الأشياء؛ كالمؤمن والكافر، والظُّلمات والنُّور، والذَّكر والأنثى، ونحوها. قال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ) [السجدة: 18], وقال سبحانه: (وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ) [فاطر: 22]، وقال سبحانه: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) [آل عمران: 36].
وما أحسن ما قرَّره الشَّيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في هذا الشَّأن، إذ قال: "أخطأ على الإسلام مَنْ قال: إنَّ دين الإسلام دين المساواة! بل دين الإسلام دين العدل، وهو الجَمْع بين المتساويين، والتَّفريق بين المفتَرِقَين... ولم يأت حرف واحد في القرآن يأمر بالمساواة أبداً، إنَّما يأمر بالعدل".
أيها الأحبة .. وبناءً على هذه القاعدة المُحْكَمة، التي قرَّرها هذا العالِمُ الحكيم، يُمكننا أن نُقَرِّر - وبكلِّ ثقةٍ:
أولاً: المساواة العادلة تجمع بين المتساويين، وتُفَرِّق بين المفتَرِقَين.
ومن أمثلة الجَمْع بين المتساويين: مساواة الرَّجل بالمرأة في الخصائص الإنسانيَّة، والتَّكاليف الشَّرعية، والثَّواب والعقاب.
ومن أمثلة التَّفريق بين المفتَرِقَين: اختلاف الرَّجل عن المرأة في الخصائص الجسديَّة، والنَّفسية، والعقليَّة.
ثانياً: المساواة المطلقة تجمع بين المتساويين والمفتَرِقَين، وهي بذلك تُساوي بين النَّقيضين، وهذا بعيد عن العدل والإنصاف، وفيه من التَّناقض ما فيه.
إخوتي الكرام .. أمَّا العدل؛ فيُعَرَّف في اللغة: بأنه نقيض الجَور وضدُّه, وهو ما قام في النفوس أنه مستقيم.
والعدل في الاصطلاح الشرعي: هو وَضْعُ الشَّيء في موضعه الذي أمَر الله تعالى أن يُوضع. وبعبارة أُخرى: هو موازنة بين الأطراف بحيث يُعطى كلٌّ منهم حقَّه دون بَخْسٍ ولا جَوْرٍ عليه.
وسبق ذِكْرُ كلام الشيخ ابن عثيمين - بأنَّ "دين الإسلام دين العدل، وهو الجَمْع بين المتساويين، والتَّفريق بين المفتَرِقَين".
معشر الفضلاء .. وبناءً على ما تقدَّم؛ يتبيَّن أنَّ الشَّريعة فرَّقت بين العدل والمساواة، ومن أهم الفروق بينهما:
1- أنَّ الشَّريعة أمرت (بالعدل) ورغَّبت فيه مطلقاً، في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ومع كلِّ إنسانٍ. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8]، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) [النحل: 90].
أمَّا (المساواة) فهي منفيَّة في بعض المواضع؛ كقوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ) [فاطر: 22]، وقوله تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) [آل عمران: 36].
2- (العدل) يشمل التَّسوية والتَّفريق، وأمَّا (المساواة) فهي تشمل التَّسوية فقط، وقد عبَّر النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم - في بعض المواضع - عن المساواة بالعدل، في قوله - للذي أعطى ابناً له عطيَّةً دون سائر وَلَدِه: "فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ" فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ(رواه البخاري 2587).
فمن العدل: التَّسوية بين الأولاد في العطيَّة، ومن العدل: التَّسوية بين الزَّوجات في المبيت والنَّفقة، ومن العدل: التَّفريق بين الرَّجل والمرأة في الميراث، والشَّهادة، ونحوها من الأمور التي جاء الدَّليل الشَّرعي بالتَّفريق بينها.
إذاً, الإسلام دينُ عدل، وليس دينَ مساواةٍ؛ لأنَّ العدل يقتضي الموازنة بين الأطراف بحيث يُعطى كلٌّ منهم حقَّه دون بخسٍ ولا جَوْر عليه، وفي ذلك يقول الشَّيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "من النَّاس مَنْ يستعمل بدل العدل: المساواة! وهذا خطأ، لا يُقال: مساواة؛ لأنَّ المساواة قد تقتضي التَّسوية بين شيئين، والحِكْمَةُ تقتضي التَّفريق بينهما.
ومن أجل هذه الدَّعوة الجائرة إلى التَّسوية صاروا يقولون: أيُّ فرقٍ بين الذَّكر والأنثى؟! سووُّا بين الذُّكور والإناث... لكن إذا قلنا بالعدل، وهو إعطاء كلِّ أحدٍ ما يستحقُّه؛ زال هذا المحذور، وصارت العبارة سليمة".
إذاً, العدل أعمُّ وأشمل من المساواة، والعدل ضابطٌ للمساواة؛ فالعدل يقضي بأن تأخذ المرأة نصف الرَّجلِ، والعدل أيضاً يقضي أن تتساوى الأختان في نصيبهما من الميراث، فرغم التَّفريق في الحالة الأُولى، فقد تحقَّق العدل تماماً كما تحقَّق في الحالة الثَّانية؛ وذلك لأنَّ العدل هو إعطاء كلِّ أحدٍ ما يستحقُّه.
الخطبة الثانية
الحمد لله ...
ومن أهم الفروق بين العدل والمساواة:
3- أنَّ استخدام كلمة (العدل) فيه صيانة للشَّرع من التَّناقض؛ لوجود التَّفرقة والمساواة، وأمَّا استخدام كلمة (المساواة) ففيه مخالفةٌ صريحة للنُّصوص الشَّرعية التي جاءت - في بعض المواطن – بالتَّفرقة.
ومن أوضح الأمثلة على ذلك قوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ) [السجدة: 18].
فمن الظُّلم أن نُسَوِّيَ بين المؤمنين والفاسقين، فالعدل هنا يقتضي التَّفريق، وفي ذلك يقول السِّعدي - رحمه الله: "(لاَ يَسْتَوُونَ) عقلاً وشرعاً، كما لا يستوي اللَّيل والنَّهار، والضِّياء والظُّلمة، وكذلك لا يستوي ثوابهما في الآخرة".
وقال سبحانه: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [القلم: 35, 36]؛ وحتى بين المسلمين أنفسهم لا يمكن أن نُسَوِّيَ بين أعمالهم الصَّالحة في الدُّنيا، وإلاَّ لَزِمَ من ذلك التَّسوية في درجاتهم في الآخرة، ومن أجل ذلك نفى الله تعالى المساواة بين أعمال المسلمين في الدُّنيا، وبين درجاتهم في الآخرة - وهذا هو العدل - كما في قوله سبحانه: (لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 95]، وفي قوله تعالى: (لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد: 10]. وغيرها من النُّصوص الدَّالة على التَّفرقة.
عباد الله .. وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ تحقيق المساواة بين النَّاس مُستحيلٌ عقلاً وعملاً، وإلاَّ فلماذا يتفاوت النَّاس في رواتبهم التي يتقاضونها وهم يعملون في مؤسَّسة واحدة ؟! أليسوا يعيشون الأحوال الاجتماعيَّة نفسها ويتعرَّضون للمشاكل نفسها، ويتساوون في متطلَّبات الحياة؛ من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ؟! فلماذا هذا التَّفاوت؟ وهل يُعتبر هذا التَّفاوت في الأجور مظهراً من مظاهر الجور والظُّلم في النُّظم الاجتماعيَّة الحديثة ؟!
أمَّا العدل الذي يقتضي التَّسوية بين المتساويين والتَّفريق بين المفترقَين، فهو أمر غير مستحيل لا عقلاً ولا عملاً، وهذا ما تَوافَق عليه علماء الشَّريعة التي تُعايش الواقع وتُقدِّر الأشياء والتَّفاوت بينها وتُحكِمُها.
الدعاء ...