الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | محمد حامد الحطيبات |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
والنمل يمثل عشرين في المائة من الكائنات الحية على كوكب الأرض، وسُمِّيَت النملةُ نملةً من التنمُّل، وهو كثرة الحركة والعمل، والنمل من أكثر خلق الله تنظيما وترتيبا، ومساكن النمل -التي أشار لها القران الكريم- تتخللها الشوارع والأنفاق، وبها مئات الغرف...
الحمد لله الذي خلقنا وسوَّانا، وعلى موائد برِّه وكرمه ربَّانا؛ والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أدَّبه ربه فأحسن تأديبه، وأثنى عليه بقوله -جل ثناؤه-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، وعلى آله وصحبه الذين صلحت قلوبهم، وتهذَّبت أخلاقهم، فدانت لهم مشارق الأرض ومغاربها، وكانوا هم من الفائزين الغالبين.
عباد الله: لقد أكرم الله -جل وعلا- نبيه سليمان -عليه السلام- بنعم عظيمة؛ حيث استجاب الله له عندما قال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [ص:35]، فسخّر له الإنس والجن والطير والريح، وفوق هذا كله علّمه لغة الحيوان، قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [النمل:16].
وحديثنا اليوم في ظلال قوله -تعالى-: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [النمل:17-18].
انطلق سليمان -عليه السلام- في العزة والجند الذي منّ الله به عليه: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)، ومعنى يوزعون، أي: منظمون ومنضبطون، أخذ كلّ واحدٍ منهم موقعه ودوره، فالنظام والانضباط هو من هدي الأنبياء، وجديرٌ بالناس أن لا يتذمروا من تطبيقه في حياتهم وأعمالهم ومدارسهم؛ لأنه يقوم بمصالحهم، ويحفظ حقوقهم.
فلما خرج الجيش يقوده ذلك النبي الكريم مرّوا على وادٍ للنمل، و يصور القران الكريم مشهداً عجيبا وموقفا فريدا قد وقع: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [النمل:18].
إنه نداء التحذير، وصرخة النذير، صدعت به هذه النملة الناصحة، المنجدة لقومها، وهي الصغيرة في حجمها، والضئيلة في جسمها.
والنمل يمثل عشرين في المائة من الكائنات الحية على كوكب الأرض، وسُمِّيَت النملةُ نملةً من التنمُّل، وهو كثرة الحركة والعمل، والنمل من أكثر خلق الله تنظيما وترتيبا، ومساكن النمل -التي أشار لها القران الكريم- تتخللها الشوارع والأنفاق، وبها مئات الغرف؛ وقد ألهم الله النمل كثيراً من مصالحه.
قال الإمام الألوسي -رحمه الله-: "ومن تتبع أحوال النمل لا يستبعد أن تكون له نفس ناطقة؛ فإنه يدخر في الصيف ما يقتات به في الشتاء، ويشق ما يدخره من الحبوب إلى نصفين مخافة أن يصيبه الندى فينبت، إلا الكزبرة والعدس، فإنه يقطع الواحدة إلى أربع قطع ولا يكتفي بشقها نصفين؛ لأنها تنبت إلا إذا شُقّت إلى أربعة أجزاء، وهذا مصداقا لقوله -تعالى-: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) [الأنعام:38].
وفي السنة النبوية أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن النمل أمة من الأمم تسبح لله -تعالى-، فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال: "إن نملة قرصت نبياً من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فدُمِّرَتْ، فأوحى الله إليه معاتبا: أهلكت أمة من الأمم تسبح".
ونهى النبي عن قتل النمل، كما جاء حديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد"، والصرد: نوع من الطيور.
فإذا كان النمل مؤذياً أو يتلف الطعام جاز قتله من باب (دفع الصائل), إلا بالحرق؛ فانه لا يجوز، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لاَ يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ".
(قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)، يقول العلماء: ما أعقلها من نملة! وما أفصحها! استخدمت معظم أساليب اللغة والفصاحة فقالت: (يَا)، وهنا نادت، (أَيُّهَا) نبّهت، (ادْخُلُوا) أمرت، (مساكنكم) نصت، (لَا يَحْطِمَنَّكُمْ): نهت، (سُلَيْمَانُ): خصّت، (وَجُنُودُهُ): عمّت، (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ): اعتذرت؛ فتكلمت بمعظم أنواع الخطاب في هذه النصيحة المختصرة.
أيضا؛ تأملوا في قولها: لا يحطمنكم، ولم تقل: لا يطأنكم، والتحطيم هو أنسب الأوصاف على تكسير الزجاج، وفي زمن نزول القرآن الكريم لم يكن لأحد قدرة على دراسة تركيب جسم النملة؛ ولكن، في زماننا وجد العلماءُ أن للنمل هيكلاً عظمياً صلباً يتركب من السليكون الذي يدخل في صناعة الزجاج، ولذلك قال -تعالى-: (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ).
وهذا يشهد بأن القرآن نزل من عند الله -تعالى-، مشتملاً على علمه -سبحانه وتعالى-، ليكون شاهداً على الناس في كل زمان ومكان: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) [النساء:82].
لما سمع سليمان قول النملة؛ (تَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا)، فأعجبه رفقها بقومها، وتأدبها مع سليمان وجنده.
لا شك أن الحق -سبحانه وتعالى- ساق ألينا هذه القصة لحكمة وغاية لا بد أن يدركها المؤمن.
واليهود لما سمعوا هذه القصة وغيرها قالوا: ما بال هذا القران يذكر العنكبوت والبعوضة والنملة؟ فأنزل الحق -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ -أي: يعرفون أنها ما ذكرت إلا لحكمة وغاية- وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ) [البقرة:26].
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
عباد الله: إن من الدروس المستفادة من هذه القصة:
الدرس الأول: هذه النملة تُعَلِّمُنا الانتماء الحقيقي للوطن وللمجتمع، هذه النملة أبدت أعلى درجات التضحية في سبيل وطنها وقومها, وكان بوسعها أن تنتحي جانبا ولا تفكر إلا في إنقاذ نفسها؛ مبررة ذلك بـ: ماذا أفعل منفردةً أمام هذا الجيش العظيم؟ لكنها اعتبرت نفسها حارسة أمام قومها، وما رضيتْ أن يمسهم أي سوء، فاختارت المخاطرة بالسير في نفس خط سير الجيش لإنقاذ قومها, مما يدل على التضحية العالية، وإنكار الذات أمام الوطن والمصلحة العامة.
وبهذا الشعور، وذلك الصدق، وتلك الروح الأخوية الفذة؛ أنجت النملة وادي النمل بأكمله، وسطَّرها القرآن مثالاً ناصعاً على حب الوطن والأخوة ونكران الذات، وبذل ما في الوسع لخدمة الآخرين.
إننا اليوم متعطشون لهذه الروح، روح التضحية من أجل الوطن والمصلحة العامة ولو كان على حساب المصلحة الشخصية، قارنوا تصرف هذه النملة بما يفعله بعض الأفراد وهم قلة قليله في هذا المجتمع الطيب من استحلال الأموال العامة والدماء المعصومة التي حرم الله، وتخريب المؤسسات والجامعات، وليتهم كانوا كهذه النملة، ليس في شكلها وهيئتها فالإنسان أجلّ وأكرم؛ ولكن في فهمها ووفائها للمكان الذي تعيش فيه وتنتفع منه.
الدرس الثاني: تعلمنا هذه النملة كيف يتقن المسلم عمله في مجاله مهما كانت طبيعة العمل الذي أسند إليه، فلا شك أن لعمله أثرا إيجابيا مادام يؤديه بإتقان وأمانة، فلا يستقل المرء في جهده الفردي؛ ولذلك تأملوا قوله -تعالى-: (قَالَتْ نَمْلَةٌ) بصيغة النكرة، وليس بالتعريف، فلم يقل: "قالت النملة"، وهذا يدل على أنها كانت نملة عادية في قومها.
قال المفسرون: إن هذه النملة كانت تقوم بمهمة الاستطلاع والحراسة، وهذا مثبت علميا في حياة النمل، فهذه النملة أدت الدور المنوط بها على خير وجه, أقل ما يمكن أن نصفه به انه أعلى درجات الإتقان, فلقد أنذرت قومها في الوقت المناسب دون تلكؤ أو تواكل على غيرها.
الدرس الثالث: إحسان الظن بالآخرين، قال المفسرون: إن سليمان أكثر ما أعجبه في قولها هي كلمة: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، فالتمست لهم عذرا، وهذا من عدالة حكمها وإحسان ظنها، وحَرِيٌّ بنا نحن المكلفين أن نمتثل لأمر الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرَاً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات:12].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والظنَّ! فإن الظن أكذب الحديث"، وقال الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً".
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ...