العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | بندر بن محمد الرباح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
كم من مشاكل وقعت في المجتمع كان سببها عدم التغافل! كم وقع بين الزوجين أو بين الأقارب والأصحاب من مشاكل كان سببها تقصي بعضهم على بعض وتتبع الأخطاء والبحث عن المقاصد! ولو أنهم رزقوا التغافل لزال عنهم شر كثير، كما قال ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فحديثنا في هذه الجمعة عن أدب عظيم، وخلق كريم، وُصِفَ بأنَّهُ خلُقُ الكرام؛ مَن تحلّى به رُزِقَ راحة في نفسه، وسلامة في صدره، وعاش محبوباً ممن حوله؛ ذلكم هو: "أدب التغافل"، وما أدراكم ما التغافل؟ يقول سفيان الثوري –رحمه الله-: "وما زال التغافل من فعل الكرام".
والتغافل -أيها الإخوة-: يقصد الإنسان للغفلة، مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه؛ تكرما وترفعا عن سفاسف الأمور.
فالمتغافل يتعمد الغفلة عن أخطاء وعيوب مَن حوله، مع أنه مدركٌ لها، عالمٌ بها؛ لكنه يتغافل عنها كأنه لم يعلم بها؛ لكرم خلقه، وكما قال الحسن البصري –رحمه الله-: "ما استقصى كريم قط!".
قال الله تعالى: (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ) [التحريم:3]، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يخبر حفصة بكل ما قالت؛ بل أخبرها ببعضه وأعرض عن بعضه، فلم يخبرها به ولم يعاتبها عليه؛ لحسن خلقه، وكريم نفسه.
والتغافل دليل قوي على حسن خلق صاحبه؛ كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل".
وليس التغافل عن الزلات دليلا على غباء صاحبه وسذاجته؛ بل هو العقل والحكمة؛ كما قال معاوية -رضي الله عنه-: "العقلُ مكيالٌ، ثلثه الفطنة، وثلثاه التغافل".
وقال الشافعي -رحمه الله-: "الكيّس العاقل هو الفطن المتغافل".
ففَرْقٌ بين أن تقصد الغفلة وبين الغباء؛ فالأول محمود، والثاني مذموم:
ليس الغبيُّ بسيِّدٍ في قَوْمِهِ | لكِنَّ سيِّدَ قومِهِ الْمُتَغَابِي |
ومن تتبع سير العظماء وجد أن من أعظم صفاتهم التغافل، قال ابن الأثير متحدثًا عن صلاح الدين الأيوبي: "وكان صَبورًا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يُعلمه بذلك، ولا يتغير عليه".
هذه هي أخلاق العظماء، وهذا سر عظمتهم؛ ولهذا قال جعفر الصادق -رحمه الله-: "عظّموا أقدراكم بالتغافل".
ومن أعظم فوائد التغافل أنه يكسب صاحبه راحة في نفسه؛ ولقد أعطانا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- مثالاً عظيما على ذلك؛ كما في البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن المشركين كانوا يسبون النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مُذَمَّمَاً، ويلعنون مذمماً، وأنا محمد!".
مع أنه يعلم -عليه الصلاة والسلام- أنهم إنما قصدوه؛ ولكن، كما قال القائل:
ولقد أمُرُّ على السفيهِ يَسُبُّنِي | فَمَضَيْتُ ثُمَّةَ قُلْتُ لا يعنيني! |
أما الذي يقف عند كل كلمة، ويرد على كل خطأ، ويحاسب على كل صغيرة وكبيرة، فهو أكثر الناس شقاء، وأشدهم نكداً، كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "مَن لم يتغافل تنغصت عيشته".
كم من مشاكل وقعت في المجتمع كان سببها عدم التغافل! كم وقع بين الزوجين أو بين الأقارب والأصحاب من مشاكل كان سببها تقصي بعضهم على بعض وتتبع الأخطاء والبحث عن المقاصد! ولو أنهم رزقوا التغافل لزال عنهم شر كثير، كما قال الأعمش -رحمه الله-: "التغافل يطفئ شراً كثيراً".
فكم نحن بحاجة إلى التغافل في حياتنا اليومية! كثير من الخلافات والمشاكل التي تقع بين الزوجين سببها أن الزوج يعاتب زوجته على خطأ والزوجة كذلك تتتبع زلات زوجها وتتصيد عليه الهفوات، وكثير من حالات الطلاق كان هذا سببها.
ولو أن كلّاً منهم تغافل عن زلات صاحبه وغض طرفه عن هفواته لاستدامت لهم العشرة، وبقيت بينهم المودة؛ لكنهم حين فقدوا التغافل حصل ما حصل.
كم نحن بحاجة إلى التغافل مع أولادنا وغض الطرف عن أخطائهم! خصوصاً ما يقع منهم عفويا ولم يكن متكرراً.
ولنعلم أنه ليس من الحكمة أن نشعر أولادنا أننا نعلم عنهم كل صغيرة وكبيرة، وليس من العقل أن نحاسبهم على كل دقيق وجليل؛ لأن ذلك يكون سبباً في تحطيم شخصياتهم واكتسابهم عادات سيئة كالعناد والكذب.
بل إن ذلك سبب لزوال هيبة الأب من قلوب أولاده وفقد محبتهم له؛ ولو أنه تغافل عن بعض زلاتهم وتجاوز عن كثير من أخطائهم لسلم من ذلك كله.
كم نحتاج للتغافل مع أصحابنا فلا نحاسبهم على كل كلمة خرجت منهم، ولا نحصي عليهم كل فعل صدر عنهم؛ لأننا إن فعلنا ذلك فقدنا محبتهم وزالت عنا أخوتهم، وقد قيل: "تناسَ مساوئ الإخوان تستدم ودّهم".
وهذا قدوتنا ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا هذا الأدب العظيم فيقول لأصحابه: "لا يبلِّغني أحد عن أحد شيئا؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".
فلم يكن -عليه الصلاة والسلام- يتتبع زلات أصحابه أو يبحث عن أخطائهم؛ بل كان ينهى عن التجسس وعن تتبع العورات وتفسير المقاصد، ولم يرض أن يخبره أحد عن أحد شيئا؛ حتى يبقى صدره سليماً محباً لهم جميعاً.
فالذي يتغافل عن الزلات يعيش محباً لمن حوله، محبوباً منهم، سليم الصدر من الأحقاد والأضغان؛ ولهذا كانت العافية كلها في التغافل.
قيل للإمام أحمد -رحمه الله-: "العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في التغافل". فقال: "العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل".
وقد قال بعض الحكماء: "وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه يستغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فمن الناس من يغرم بتصيد أخطاء من حوله وتتبع زلاتهم، ويرى ذلك دهاء وذكاء؛ فتجده منشغلاً بتتبع الزلات وتصيد الأخطاء حتى يوصف بين الناس بالدهاء، ويظن ذلك فخراً له؛ لكنه في حقيقته ذم وقدح؛ لأن الناس تتجنبه وتكره الحديث إليه.
يقول ابن حزم -رحمه الله-: "احرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفّظ من أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظون منك؛ حتى ربما أضر ذلك بك، وربما قتلك".
ومن طبيعة الناس أنهم جبلوا على محبة من يغض الطرف عن هفواتهم، كما قيل:
أُحِبُّ مِن الإخوانِ كُلَّ مواتي | وكُلّ غضيض الطَّرْفِ عن هَفَوَاتي |
وأعظم التغافل -أيها الأحبة- أن يتغافل الإنسان عما لا يعنيه، كما قل بعض الحكماء: "لا يكون المرء عاقلاً حتى يكون عما لا يعنيه غافلاً".
وفي الحديث المشهور: "مِن حسن إسلام المرء تركُهُ ما لا يعنيه"، وإن كان الحديث لا يخلو من مقال، إلا أن معناه صحيح.
وأخيراً؛ يجب أن نعلم أن الحديث عن التغافل والحث عليه لا يعني ترك النصيحة والتنبيه على المخالفات الشرعية، فهذه لها شأن آخر ليس هذا مجال الحديث عنها، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث تميم الداري -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدين النصيحة"، قلنا : لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم".
هذا؛ وصلوا وسلموا على مَن أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...