العربية
المؤلف | عبد العزيز بن الطاهر بن غيث |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات |
هذه المعصية لها آثارها السيئة على الأفراد والمجتمعات، فبها يضيع الشباب ذكورا وإناثا ويعيشون حياة التشرد والضياع، وبها تختلط الأنساب وتنتهك الحرمات ويُعتدى على الأعراض، وبها تفشو وتنتشر الأمراض والأوبئة الفتاكة التي لا تنحصر في مرتكبي هذه الفاحشة، بل تنتقل إلى كل من يتعامل معهم من أهل وأزواج وأبناء، فإذا لم ينزجر الزناة بما وعدهم الله به من عقوبات أخروية لضعف إيمانهم أفلا ينزجرون بهذه الآثار السيئة التي يجلبونها على...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيقول الله سبحانه في كتابه العزيز: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً)[الإسراء:32].
هذه آية من آيات الكتاب العزيز تحذر وتنهى عن قربان معصية الزنا، ويخبر فيها سبحانه أن الزنا فاحشة عظيمة لا يرضاها الله لعباده، وأن سبيل الزنا سبيل سيئ، فمن اختار هذا السبيل فقد اختار الشقاء والذل والعذاب، والله سبحانه لم يخلق العباد عبثا ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لغاية سامية هي عبادته وطاعته، ووضح لهم ما به يفلحون وما به يخسرون، وأمرهم بالعدل والإحسان ونهاهم عن الفحشاء والمنكر: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، ومن الفحشاء والمنكر الذي نهى عنه وحذر منه سبحانه الزنا، هذا الداء الذي إذا استشرى في مجتمع نزعت منه البركة وحلت به النقم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا" أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر.
وللزنا -عباد الله- أسباب توقع فيه، من أهم هذه الأسباب وأعظمها ضعف الإيمان، فكلما قوي إيمان العبد زادت مخافته من ربه وزجر نفسه وجاهدها ونهاها عن الوقوع في هذا الذنب، وكلما ضعف إيمانه قل خوفه واستسهل الذنوب وقارفها، كما أن الالتزام بالتكاليف الشرعية -كالصلاة مثلا- يبعد الإنسان عن مثل هذه المزالق ويجعله مرتبطا بالله سبحانه، يقول تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت:45]، فضعف الإيمان والبعد عن هذه الشعائر والمواعيد الإيمانية من أهم الأسباب التي تسهل الوقوع في الفواحش.
ومن الأسباب التي توقع في الزنا وتزينه إطلاق البصر وراء المناظر المحرمة والصور الفتانة، وهي في عصرنا هذا تحيط بالمرء من كل جانب؛ في الشارع والعمل وعبر المجلة وعلى الفضائيات التي دخلت كل بيت وأصبحت مهوى أفئدة المسلمين في كل مكان، والإنسان يطلق بصره وراء هذه المناظر الفتانة، وما تبثه هذه الوسائل من دعوة إلى الفجور والرذيلة، وما تراه العين ينتقش على القلب، ويظل يلح على الإنسان حتى يوقعه فيما يغضب الله -عز وجل-، يقول الشاعر:
كـل الحوادث مبداهـا من النظر | ومعظم النار من مستصغر الشرر |
كم نظرة فتكت في قلب صـاحبها | فتك السهام بلا قوس ولا وتـر |
والمرء مـا دام ذا عيـن يقلبها في | أعين الغيـد موقوف على الخطر |
يسـر مقلته مـا ضـر مهجتـه | لا مرحبـا بسرور عاد بالضرر |
ومن الأسباب التي قد تسبب في الزنا وتجرئ عليه الخلوة بالأجنبية التي يحل منه الزواج، وهذا الأمر قد يهمله المسلم لثقته الخاطئة بنفسه أو لأمور اجتماعية أو غيرها، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حذر من هذا الأمر أيما تحذير، فهو القائل -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه أحمد من حديث جابر -رضي الله عنه-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها؛ فإن ثالثهما الشيطان"، وهو القائل -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟! قال: "الحمو الموت" أخرجه الترمذي عن عقبة بن عامر. والحمو: هو قريب الزوج.
هذه بعض الأسباب التي توقع في الزنا، أما ما ينتظر الزناة في الدنيا والآخرة فإنه أمر عظيم يناسب هذا الجرم العظيم، فكل قوم يظهر فيهم هذا الداء فقد استحقوا عذاب الله، يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله"، كما أن للزناة عذابا خاصا ذكره -صلى الله عليه وسلم-في رؤيا رآها، حيث يقول كما عند البخاري من حديث سمرة بن جندب: "فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك ضوضوا ـ أي: صرخوا ـ فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني"، كما يبين -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر عن رؤيا أخرى رآها أن أصحاب هذه المعصية الخبيثة الكريهة هم أخبث وأكره الناس رائحة يوم القيامة، يقول -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أبي أمامة: "ثم انطلقا بي فإذا بقوم أشد شيء انتفاخا وأنتنه ريحا كأن ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزانون والزواني".
وهذه المعصية -أيها المسلمون- لها آثارها السيئة على الأفراد والمجتمعات، فبها يضيع الشباب ذكورا وإناثا ويعيشون حياة التشرد والضياع، وبها تختلط الأنساب وتنتهك الحرمات ويُعتدى على الأعراض، وبها تفشو وتنتشر الأمراض والأوبئة الفتاكة التي لا تنحصر في مرتكبي هذه الفاحشة، بل تنتقل إلى كل من يتعامل معهم من أهل وأزواج وأبناء، فإذا لم ينزجر الزناة بما وعدهم الله به من عقوبات أخروية لضعف إيمانهم أفلا ينزجرون بهذه الآثار السيئة التي يجلبونها على أنفسهم وذويهم وهم يرونها رأي العين؟!
من أجل كل ما سبق من آثار سيئة فقد حكم شرعنا المطهر بجلد الزانية والزاني إن كانا غير محصنين، وأمر برجمهما حتى الموت إن كانا محصنين، يقول سبحانه: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)[النور:2].
وحد الزنا -إخوة الإيمان- من أشد الحدود والعقوبات المقررة في شريعتنا نظرا لفداحة هذا الجرم، فالرجم الثابت بصحيح السنة لا تدانيه عقوبة في شريعتنا الإسلامية، أما عقوبة الجلد الواردة في الآيات السابقة ففيها الأمر بالجلد والوصية بعدم الرحمة، والأمر بأن تكون العقوبة على الملأ، زيادة في الفضيحة لمن تجرأ على هتك هذه الحرمة وتحذيرا لمن يشاهد إقامة الحد من الوقوع في هذه الفاحشة.
إخوة الإيمان: وإذا كان الزنا بهذا القبح وهذه النكارة فإنه يكون أقبح وأنكر ويكون عذابه أشد وغضب الله عليه أعظم حين يأتي ممن لا يتوقع منه، يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر"، فالزنا مستبعد من الشيخ، وليس هناك من الدواعي الطبيعية ما يدفعه إليه، لهذا كان النكير على الشيخ إذا زنى أعظم من النكير على غيره وعذابه أشد.
ولقد بين لنا شرعنا المطهر أمورا تقينا من شر الزنا، وتكون مساعدا لنا في البعد عن هذه المعصية، من أهم هذه الأمور استحضار هيبة الله وخشيته وتذكر وعيده وعذابه لمن خالف أمره وارتكب ما نهاه عنه، فإذا ملأت مخافته سبحانه قلب العبد كان مبتعدا عن نواهيه أشد البعد، يقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ) [الأعراف:201، 202].
ومن هذه الأمور الواقية والتي تحسم الأمر وتبعد الإنسان عن الكثير من غمّ النفس وقسوة القلب غض البصر، يقول سبحانه: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ) [النور:30، 31]، ويدخل في هذا الغض في عصرنا البعد عن المثيرات البصرية الموجودة على الفضائيات وما يعرف بشبكة الإنترنت، وما فيهما من أمور تحرك أحاسيس الناس وتثير شهواتهم.
ومن الأمور الواقية من شر هذه المعصية الزواج، فالزواج حصن حصين يتحصن به المسلم فيكون معينا له على الابتعاد عن هذه الفاحشة، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء" أخرجه الشيخان عن ابن مسعود.
ومن الأمور الواقية أيضا الصوم كما هو مذكور في الحديث السابق؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- نصح من لا يستطيع الزواج بالصوم كمساعد في التوقي من هذا المحذور، وهذا ما بينه الله سبحانه في كتابه حيث ذكر أن من حكمة الصوم تحقيق التقوى، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]، إلى غير ذلك من أمور تقي وتبعد المسلم عن هذا الشر المحيط وهذا الخطر الماحق.
فاتقوا الله -عباد الله-، وأنصتوا إلى قول ربكم وهو يثني على عباده الذين يبتعدون عن مثل هذه المعاصي، ويتوعد من يرتكبها بعذاب مضاعف، يقول سبحانه: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الفرقان:68-70].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون: لقد حثنا ديننا الحنيف على عدم التعدي في طلب حاجاتنا وشهواتنا، ولم يكلفنا الله ما لم نستطع، فلم يحرمنا شهواتنا، ولكنه اشترط علينا أن نحصلها مما أحل لنا، حتى لا نكون عادين معتدين، يقول سبحانه: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون:5-7]، فالله سبحانه يبين في هذه الآيات أن تحصيل شهوة الفرج من غير ما أحل الله من زوجة أو ملك يمين هو عدوان ليس من عمل المؤمنين، كما رغب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا ووعد عليه بالجزاء الحسن، فهو القائل -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه البخاري من حديث سهل بن معاذ: "من يضمن لي ما بين رجليه وما بين لحييه أضمن له الجنة"، فهذا وعد بالجنة لمن صبر على ما حرم الله، واختار مرضاة الله على عذابه، وحفظ فرجه ولسانه من الحرام، بل إن ديننا الحنيف لا يكتفي بتحذيرنا من قضاء شهوتنا بالحرام وتوجيهنا إلى ما أحل الله سبحانه من أزواجنا، لكنه يزيد على ذلك فيجعل الإنسان مأجورا وهو يقضي شهوته من الحلال، فهل هناك أسمح وأحفظ لكيان الأفراد والأمم من هذا الدين؟! يقول -صلى الله عليه وسلم-: "وفي بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: "أرأيتم لو وضعها في الحرام أليس كان يكون عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر" أخرجه مسلم عن أبي ذر.
فالعجب كل العجب من عبد يهرب من مرضاة الله إلى عذابه، ومن راحة الآخرة إلى شقاء الدنيا والآخرة، بل يرفض أن يقضي شهوته من مكان طاهر أحله الله له لا يأتيه غيره، تكتب له الحسنات كلما أتاه، إلى مكان حرمه الله عليه، وقد يكون مكانا قذرا قد ولغ فيه الفساق والفجار والمرضى، أي عقل يدل على هذا؟! وأي فطرة ترضاه؟! والأعجب من ذلك أن يدفع مقابل هذا النجس وهذه القذارة الأموال الطائلة. فلنحذر ـ إخوة الإيمان ـ هذه المعصية ومقدماتها، حتى لا ينزل بنا عذاب الله وعقابه.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة...